أرشيف المقالات

الحقوق المتبادلة بين العامل ورب العمل

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2الحقوق المتبادلة بين العامل ورب العمل


من حكمة الله تعالى في خلقه أن رفَعَ بعضهم فوق بعض درجات، ونوَّع فيهم المواهبَ والقُدرات، وغايَرَ بينهم في الطموح والدرجات؛ ليقوم بناء المجتمع ويتكامَل، ولو أن كل الناس كانوا على مستوى واحد فيما سبق، لفسد المجتمع ولما قام له بناء، فالكل عندئذ يُريد أن يكون رئيسًا أو عالمًا أو طبيبًا أو مُهندسًا أو....، ولن يَرضى أحد منهم أن يَمتهِنَ المِهَنَ الدنيا أو يكون تابعًا لغَيره.
 
فلذلك اقتضت الحكمة الإلهية هذا التنوُّع والتغايُر؛ ليقوم الناس بعضُهم بشأن بعض، ويَخدم بعضهم بعضًا؛ قال الله تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ﴾ [الزخرف: 32][1].
 
فالعلاقة إذًا بين العامل وربِّ العمل علاقة تكامُل وتعاون، والاختلاف في الأحوال والمنازل الدنيوية والقدرات لا يدلُّ على كرامة وفضل صاحب العمل على العامل عند الله تعالى.
 
كما أن هذه العلاقة لا تبيح لصاحب العمل أن يستخف بعامله أو يسخر منه، أو أن يتعالى عليه، فحقوق الأخوة ثابتة لكل مسلم لا تتغيَّر ولا تَنقص أينما كان موقعه في المجتمع، ولذلك وجب على رب العمل أن يُحسن التعامل مع عماله، فيقوم بحقوق أخوَّة الإسلام تجاههم، إضافة إلى ما لهم من حق الرعاية والحِماية عنده.
 
وسأَعرض هنا لجملة من هذه الحقوق والواجبات:
♦ فمن حق العامل على رب العمل: ألا يَظلمه ولا يُكلِّفه عملاً فوق طاقته، فالله تعالى حذَّر عباده من الظلم، وحرَّمه على نفسه، وأوعد بالعقوبة من يَجورون ويتعدَّون على حقوق الناس؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 42]، وفي الحديث القدسي: يقول الله تبارك وتعالى: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا..))[2]، ويقول صلى الله عليه وسلم مبينًا خطر الظلم وعاقبتَه الوخيمة في الدنيا والآخرة: ((اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة))[3].
 
♦ ومِن حقه كذلك على رب العمل: ألا يَنقصه شيئًا من أجره أو يأكله عليه، أو يَحتال عليه بالحيل، بل يُعطيه إياه كاملاً دون تأخير، طيِّبة به نفسه، فقد حرَّم الله تعالى أخذ أموال الناس بالباطل، فقال: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدَرَ، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره))[4]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقُه))[5]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مطْلُ[6] الغنيِّ ظلم))[7].
 
أما الحقوق الواجبة على العمال تجاه أرباب العمل فهي:
♦ أن يحفظ العاملُ أسرار عمله الخاصة، فهي عنده أمانة، ونشرها وإذاعتها خيانة؛ لما تلحقه من ضرر على صاحب العمل، والله تعالى حذَّرنا من الخيانة ونهانا عنها، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27]، وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنها من علامات النفاق، فقال صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمن خان))[8].
 
♦ إتقان العمل والجد والنشاط فيه، وهذه من ثمرات الأمانة، والصدق، والوفاء لصاحب العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم حثَّ العمال على إتقان عملهم ابتغاء رضا الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه))[9]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يحب من العامل إذا عمل أن يحسن))[10].
 
♦ عدم حسد العامل لصاحب العمل: فالحسد كبيرة مِن الكبائر وذنب مِن الذنوب، يدلُّ على ضعف اليقين والإيمان، والاعتراض على قسمة الرحمن، بل الواجب عليه أن يدعو له بالبركة، وأن يسأل الله تعالى من فضله، فالذي أكرم وأعطى صاحب العمل، قادر على أن يُغنيه ويُعطيه، وهذا ما أرشدنا إليه المصطفى عليه السلام بقوله: ((إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدعُ له بالبركة))[11]، والحسد أول معصية عُصي الله تعالى بها في السماء، حينما حسَدَ إبليسُ آدمَ عليه السلام، ووقعت أول جريمة قتْل في العالم بسبب الحسد؛ حيث قتل أحدُ ابني آدم أخاه من أجل أمر من أمور الدنيا فكان من الخاسرين، قال: ﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [النساء: 32]، كما نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسد فقال: ((لا تحاسدوا))[12].
 
فلو قام كلٌّ مِن ربِّ العمل والعامل بما يترتَّب عليه من واجبات، وأدى كل منهما ما عليه من الحقوق، لرأينا تحسُّنًا واضحًا في الإنتاج كمًّا ونوعًا، ولبارك الله تعالى لكل من العامل ورب العمل في الرزق، ولما رأينا كثيرًا من تلك القضايا العُمالية التي يرفعها كل من رب العمل على العامل، أو العامل على رب العمل، في أروقة المحاكم والقضاء، مستنزفةً كثيرًا من الجهد والمال، ومحطمة للثقة بين أفراد المجتمع الواحد.



[1] ليُسَخِّر بعضُهم بعضًا في الأعمال؛ لاحتياج هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا؛ قاله السدي وغيره؛ تفسير ابن كثير (7 / 226).


[2] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب برقم: 2577.


[3] أخرجه البخاري في المظالم والغصب برقم: 2315، ومسلم في البر والصلة والآداب برقم: 2578.


[4] أخرجه البخاري في البيوع برقم: 2114.


[5] أخرجه ابن ماجه في الأحكام برقم: 2443؛ وأبو يعلى في مسنده (12 / 34) برقم: 6682؛ والطبراني في الصغير (1 / 43) برقم: 34؛ وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (3 / 14) برقم: 2891، وقال: رواه ابن ماجه من رواية عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وقد وثق، قال ابن عدي: أحاديثه حسانٌ، وهو ممَّن احتمله الناس وصدَّقه بعضهم، وهو ممن يُكتَب حديثُه، وبقية رواته ثقات.


[6] المطْل: هو ترك إعطاء ما حلَّ أجله مع طلبه؛ فتح الباري (1: 189).


[7] أخرجه البخاري في الحوالات برقم: 2166، ومسلم في المساقاة برقم: 1564.


[8] أخرجه البخاري في الإيمان برقم: 33، ومسلم في الإيمان برقم: 59.


[9] أخرجه أبو يعلى في مسنده (7 / 349) برقم: 4386، والطبراني في الكبير (24 / 306) برقم: 20797، والبيهقي في شعب الإيمان (4 / 334)، وذكره الهيثمي في المجمع (4 / 175)، وقال: رواه أبو يعلى، وفيه مصعب بن ثابت وثقه ابن حبان وضعفه جماعة، وقد أشار الألباني في صحيح الجامع إلى تحسين هذا الحديث.


[10] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4 / 335)، وقد أشار الألباني في صحيح الجامع إلى تحسين هذا الحديث.


[11] أخرجه أحمد في المسند (3 / 486)، برقم: 16023، وابن ماجه في الطب برقم: 3509، واللفظ له، والحديث صحيح.


[12] أخرجه البخاري في الأدب برقم: 5717، ومسلم في النكاح برقم: 1413.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير