أرشيف المقالات

لماذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم؟

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2لماذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم؟


يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق))؛ رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد.
وفي لفظ عند البزار والبيهقي: ((إنما بُعثِت لأتمم مكارم الأخلاق)).
أعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن الغاية الأسمى من بعثته ورسالته هي إتمامُ صالح الأخلاق ومكارمها.
و(إنما) أداة حصر وقصر، فالنبي صلى الله عليه وسلم حصر الغاية والعلة من بعثته في إتمام مكارم الأخلاق.
 
ومن الإنصاف أن نقول: إن العرب في الجاهلية لم يكونوا معدومي الأخلاق الحسنة، بل كانت عندهم أخلاق حسنة وأخرى سيئة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم متممًا لصالح الأخلاق ومكارمها، وناهيًا عن سيِّئها وفاسدها.
 
وربما يتساءل البعض: فلماذا إذًا تقولون: إن الغاية من بعثة الرسل هي دعوة الناس إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حصر الغاية من بعثته في إتمام مكارم الأخلاق؟!
 
نقول: إن الغاية مِن بعثة الرسل هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، والأخذ بأيديهم للنجاة من النار، ودخول الجنة، وذلك لا يتحقق إلا بحُسن الخُلق:
حسن الخلق مع الله، وحسن الخلق مع الناس.
حسن الخلق مع الله: بتوحيده، وصرف العبادة له وحده لا شريك له، وتقواه في السر والعلن؛ بفعل ما يُرضيه، واجتناب ما يسخطه.
 
وحسن الخلق مع الناس: بالإحسان إليهم قولًا وفعلًا، ومعاملتهم بالمُثُلِ لا بالمِثْلِ.
فحُسْن الخلق - أيها الأحباب - لا يكون مع الناس فقط؛ وإنما يكون مع الله أولًا، وقد ذمَّ الله عز وجل المنافقين والخائنين، بقوله: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 108]، فالمنافقون يحرِصون على حسن الخلق مع الناس؛ فيتجمَّلون أمامهم، ويُحسِّنون ظواهرهم، ولا يُبالون بحسن الخلق مع الله؛ فتنطوي بواطنهم على الكفر والفسوق، والعياذ بالله.
 
أما المؤمنون حقًّا، فيحسِّنون خُلقهم مع الله ومع الناس، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله: ((اتقِ الله حيثما كنتَ، وأتْبعِ السيئة الحسنة تمحُها، وخالقِ الناسَ بخُلق حسن))؛ رواه الترمذي، فهذا الحديث جمع حسن الخلق مع الله ومع الناس.
 
بعض الناس يظنُّ أن حسن الخلق شيءٌ ثانوي ليس مهمًّا، وليس له كبير اعتبار عند الله تعالى، لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا.
 
• فإن إيمان العبد يكملُ بحسن خلقه؛ بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحاسنهم أخلاقًا، الموطَّؤون أكنافًا، الذين يألفون ويُؤلَفون، ولا خير فيمَن لا يألف ولا يؤلف))؛ رواه الطبراني.
 
وقال أنس رضي الله عنه: ما خطَبنا نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: ((لا إيمان لمَن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له))؛ رواه أحمد.
 
وكم من الأحاديث ربط فيها النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان وبين حسن الخلق مع الناس؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرِمْ ضيفه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُلْ خيرًا أو ليصمت))؛ رواه البخاري ومسلم.
 
وفي روايةٍ زاد: ((ومَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليَصِلْ رحِمه)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدُكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))؛ رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية: ((حتى يحبَّ لجاره ما يحب لنفسه)).
وقال: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))، قيل: ومَن يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمَنُ جارُهُ بوائقَه))؛ أي: ظلمه وشروره؛ رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((المسلم مَن سلِم المسلمون مِن لسانه ويده))؛ رواه البخاري ومسلم.
 
• وقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش ولا البذيء))؛ رواه الترمذي.
• وأثقل ما يُوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة حسنُ الخلق، وإنه ليبلغ به درجة المُكثِر من التطوُّع بالصيام والقيام؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من شيء يُوضَع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغُ به درجة صاحب الصوم والصلاة))؛ رواه الترمذي.
• ولما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخِل الجنةَ، قال: ((تقوى الله، وحسن الخلق))؛ أي: حسن الخلق مع الله، وحسن الخلق مع الناس؛ رواه ابن ماجه.
 
• إن حسن الخلق مع الناس، والقرب منهم، والصبر على أذاهم، وعدم التكبر عليهم - كل هذا من أسباب النجاة من النار، بل إن صاحب هذه الصفات تحرُمُ عليه النار؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يحرُمُ على النار كلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سهلٍ قريبٍ))؛ رواه بهذا اللفظ الطبراني.
 
• وقد ذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم حُسْنَ الخلق مع الفرائض التي تنافح عن العبد وتؤنسُه في قبره، لَمَّا قال: ((إن الميتَ إذا وُضع في قبره، إنه يسمع خَفْق نِعالهم حين يُوَلُّون عنه، فإن كان مؤمنًا، كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شمالِه، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رِجْليه، فيُؤتَى مِن قِبَلِ رأسه، فتقول الصلاة: مَا قِبَلي مَدخلٌ، ثم يؤتى عن يمينِه، فيقول الصيام: ما قِبَلي مَدخلٌ، ثم يؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قِبَلي مدخلٌ، ثم يُؤتى من قِبل رِجْليه، فتقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قبلي مدخلٌ))؛ رواه ابن حبان.
 
• فإذا كان العبد مقيمًا للفرائض الثلاث (الصلاة، والصيام، والزكاة)، ومقصرًا في الإحسان إلى الناس وحسن الخلق معهم، أتته ملائكة العذاب من قِبل رِجْلَيه، عافانا الله وإياكم.
 
• كذلك في يوم القيامة إذا أتى العبد بتطوُّع من الصلاة والصيام والقيام مع سوء الخلق مع الناس؛ لم تنفَعْه صلاتُه ولا صيامه ولا عبادته، وإن جاء بالفرض الذي عليه فقط، أو مع قليل من التطوع، لكن مع حسن الخلق مع الناس؛ فإنه يبلغ بحُسْن خُلُقه درجةَ الصائم القائم.
 
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن فلانةَ يُذْكَرُ من كثرة صلاتها، وصيامها، وصدقتها، غيرَ أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال صلى الله عليه وسلم: ((هي في النار))، قال: يا رسول الله، فإن فلانةَ - وذكر له امرأةً أخرى - يُذْكَرُ من قلة صيامها، وصدقتها، وصلاتها، وإنها تَصَدَّقُ بالأَثْوَارِ من الأَقِطِ - أي: بقطعة صغيرة من اللبن المجفف - ولا تؤذي جيرانها بلسانها، قال صلى الله عليه وسلم: ((هي في الجنة))؛ رواه أحمد.
 
حتى الزكاة إن أدَّاها الغني، فأتْبَعَها بسُوء خلق مع الفقير مِنْ مَنٍّ أو أذى - لم تُقبل منه، بل تبطل؛ لذلك قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى...
[البقرة: 264].
 
حتى الصيام، لا يبالي الله تعالى بوقوعه من العبد مع سوء الخلق؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن لم يَدَعْ قولَ الزور، والعمل به، والجهل - أي: السفاهة وسوء الخلق مع الناس - فليس لله حاجةٌ أن يَدَعَ طعامه وشرابه))؛ رواه البخاري.
 
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أصبح أحدكم يومًا صائمًا فلا يَرْفُثْ، ولا يجهلْ، فإن امرؤٌ شاتمه أو قاتَلَه، فليقل: إني صائم، إني صائم))؛ رواه مسلم.
 
وقال جابر رضي الله عنه: إذا صُمْتَ، فليَصُمْ سمعك وبصرك، ولسانك عن الكذب والمآثم، ودعْ عنك أذى الخادم، وليكن عليك وقارٌ وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواءً.
 
وكذلك الحج، كما قال الله عز وجل: ﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197].
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أتدرون مَن المُفْلس؟))، قالوا: المفلس فينا يا رسول الله مَن لا درهم له ولا متاع، قال: ((المفلس من أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته، ويأتي قد شتم هذا، وقذَف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيقعدُ فيقتصُّ هذا من حسناته، وهذا مِن حسناته، فإن فَنِيت حسناته قبل أن يُقتصَّ ما عليه من الخطايا، أُخِذ من خطاياهم فطُرِح عليه، ثم طرح في النار))؛ رواه الترمذي.
 
• لذلك لا تعجب - أخي الحبيب - عندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)).
• لا تعجب عندما يقول صلى الله عليه وسلم: ((إن خيارَكم أحاسنُكم أخلاقًا))؛ رواه البخاري ومسلم.
• ولا تعجب عندما يقول: ((شِرار أمتي الثرثارون، المتشدِّقون، المُتَفَيْهِقون، وخيارُ أمتي أحاسنهم أخلاقًا))؛ رواه البخاري في الأدب المفرد.
 
والثرثارون: الذين يكثرون الكلام تكلفًا وتشدقًا.
والمتفيهقون: الذين يتوسَّعون في الكلام ويفتحون به أفواههم يتكبرون على الناس.
والمتشدِّقون: الذين يتكلفون بأشداقهم، ويتقعرون في مخاطباتهم، ويتوسعون في الكلام من غير احتراز، ويستخفُّون بالناس ويَلْوُون أشداقهم عليهم.
 
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن مِن أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنَكم أخلاقًا، وإن أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون))، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: ((المتكبرون)).
 
فهل بعد هذا يُغامِر الإنسان ويضحِّي بهذه المنزلة وهذا المجلس القريب من النبي صلى الله عليه وسلم بسوء خلقه ومعاملته مع الناس؟

• لا تعجب عندما تجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: ((اللهم كما حسَّنت خَلقي فحسِّن خُلُقي))؛ رواه الطبراني.
 
لا تعجب عندما تجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح في الصلاة: ((واهدِني لأحسنِ الأخلاق؛ لا يَهْدي لأحسنِها إلا أنت، واصرِفْ عني سيِّئَها؛ لا يصرف عني سيِّئَها إلا أنتَ))؛ رواه مسلم.
 
يُعلِّم أمته صلى الله عليه وسلم طلب ذلك من الله تعالى، وقد قال الله له: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم:4].
 
أمر الأخلاق - يا أحباب - أمر خطير، وله اعتبار كبير، لا يكفي المرءَ حُسنُ الخلق مع الله فقط، أو حسن الخلق مع الناس فقط، بل لا بد أن يكون حسن الخلق مع الله ومع الناس.
 
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: مَن ساء خلقه، ساء دينه.
وقال الجنيد رحمه الله: لأن يصحبَني فاسقٌ حسنُ الخلق أحبُّ إليَّ مِن أن يصحبني قارئٌ سيِّئ الخلق!
وقال الحسن البصري رحمه الله: حقيقة حسن الخلق بذل المعروف، وكف الأذى، وطلاقة الوجه.
وقيل لعبدالله بن المبارك رحمه الله: اجعَلْ لنا حسن الخلق في كلمة، فقال: اتركِ الغضب.
وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أوصِني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تغضَب))، فردَّد الرجل طلب الوصية مرارًا، والنبي صلى الله عليه وسلم يكرر نفس الوصية: ((لا تغضب))؛ رواه البخاري.
فاعلم يا عبدالله أن هذا هو مِفتاح حسن الخلق: ((لا تغضب)).
نسأل الله أن يُحسِّن أخلاقنا

شارك الخبر

المرئيات-١