أرشيف المقالات

من البعثة إلى الهجرة (1)

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
2الأغصان الندية
شرح الخلاصة البهية
في ترتيب أحداث السيرة النبوية
من البعثة إلى الهجرة (1)

1 - ولَمَّا بلَغ صلَّى الله عليه وسلَّم أربعين سنةً، جاءه جبريلُ عليه السَّلام بالوحي من ربِّه، وهو في غار حراء.   الشرح: ولما أتمَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الأربعين من عمره - على القول الراجح من أقوال أهل العلم - وذلك لِمَا رواه البخاريُّ بسنَدِه عن ابْن عباسٍ قال: "بُعِث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأرْبعين سنةً"[1].   ولِمَا رواه مسلمٌ بسنده: عن أنس بن مالكٍ أنه قال: "كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليس بالطَّويل البائن، ولا بالقصير، وليس بالأبْيض الأَمْهق، ولا بالآدَم، ولا بالجَعْد القَطَط، ولا بالسّبط، بعَثَه الله على رأس أربعين سنةً"[2].   لما أتم الأربعين، أنعم الله عليه بنور النبوَّة والإيمان؛ لِيُبدِّد به ظلمات الكفر والطُّغيان، حيث اختاره الله تعالى نبيًّا له ورسولاً في الأرض، ونورًا يُهدى به إلى الجنة، وقد وصفَه الله بذلك، فقال: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15 - 16].   فكانت بعثتُه صلَّى الله عليه وسلَّم والنُّور الذي جاء به حجَّةً على الناس، فمَنْ تبِعَه دخل الجنَّة، ومن عصاه دخل النار. اللهم اجعلنا من أتباعه إلى أن نلقاك يا ربَّ العالمين.   فكيف كان نزول الوحي عليه صلَّى الله عليه وسلَّم لأول مَرَّة؟ وأين كان هذا؟ وما الذي حدث له صلَّى الله عليه وسلَّم حينَها؟ وكيف كان موقِفُ مَن حوله منه حين أخبَرَهم بذلك؟ هذا ما سنعرِفُه من خلال الحديث الصحيح الذي يرويه الإمامُ البخاريُّ - رحمه الله - عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - وبعض جُمَل الحديث من "مدرج الزُّهري" أنَّها قالتْ: أوَّل ما بُدِئ به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من الوَحْي الرُّؤْيا الصالحة في النوم، فكان لا يَرى رؤيا إلاَّ جاءَتْ مثل فلق الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراءٍ، فيتحنَّث فيه - وهو التعبُّد - الليالِيَ ذوات العدد قبل أن يَنْزِع إلى أهله، ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزوَّد لمِثلها، حتَّى جاءه الحقُّ وهو في غار حِرَاءٍ، فجاءه الملَك، فقال: اقرأْ، قال: ما أنا بقارئٍ، قال: فأخذني فغطَّني، حتى بلغ مني الجَهْد، ثم أرسلَني، فقال: اقرأ، فقلْتُ: ما أنا بقارئٍ، فأخذني فغطَّني الثانية، حتى بلغ مني الجَهْدُ ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئٍ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني، فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ [العلق: 1 - 3].   فرجع بها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَرْجف فؤادُه، فدخل على خديجة بنت خُويلدٍ رضي الله عنها فقال: ((زَمِّلوني زملوني))، فزَمَّلوه، حتى ذهب عنه الرَّوْع، فقال لخديجة وأخبرها الخبَر: ((لقد خشيتُ على نَفْسي))، فقالت خديجة: كلاَّ والله، ما يُخْزيك الله أبدًا؛ إنَّك لتصل الرَّحم، وتَحْمل الكَلَّ، وتُكْسب المعْدوم، وتَقْري الضيف، وتُعين على نوائب الحقِّ، فانطلقَتْ به خديجةُ حتَّى أتَتْ به ورقةَ بن نوفل بن أسد بن عبدالعُزَّى ابن عمِّ خديجة، وكان امرأً تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يَكْتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمِي، فقالت له خديجةُ: يا ابن عمِّ اسمَعْ من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بن أخي، ماذا ترى؟ فأخبَرَه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا النَّاموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذَعًا، ليتني أكون حيًّا إذْ يُخرِجُك قومُك، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أو مُخْرِجِيَّ هم؟)) قال: نعمْ، لم يأت رجلٌ قطُّ بمثل ما جئْتَ به إلا عودي، وإنْ يدرِكْني يومُك، أنصُرْك نصرًا مؤزَّرًا، ثم لم ينشَبْ ورقة أن توُفِّي، وفتَر الوَحْي[3].   وكان نزول الوحي عليه صلَّى الله عليه وسلَّم في المرة الأولى يوم الاثنين؛ فإنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم سُئِل عن سبب صيامه ليوم الاثنين، قال: ((ذلك يومٌ وُلِدت فيه، ويومٌ بُعثت - أو أُنزل عليَّ فيه))[4]. وكان ذلك في شهر رمضان[5].   فترة الوحي: ثم فتَر الوحيُ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فترة، كما ثبَتَ ذلك في بعض طرق حديث عائشة السابق، وفي "الصحيحين" عن جَابِر بن عبدالله أنَّهُ سَمعَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((ثم فتر عني الوحي فترةً))، ولم يذكر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كم كانت مدة فترة الوحي، واختلفَتْ فيه أقوال العلماء اختلافًا شديدًا.   إلا أنَّ "المبارَكْفوري" قال في كتابه "الرَّحيق المختوم": وقد ظهرَ لي شيء غريبٌ بعد إدارة النَّظر في الروايات، وفي أقوال أهل العلم، ولَم أرَ من تعرَّض له منهم، وهو أن هذه الأقوال والرِّوايات تفيد أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يُجاوِرُ بحِراء شهرًا واحدًا، وهو شهر رمضان من كلِّ سنة، وذلك من ثلاث سنوات قبل النبوَّة، وأن سَنة النبوة كانت هي آخرَ تلك السنوات الثلاث، وأنه كان يتمُّ جواره بتمام شهر رمضان، فكان يَنْزل بعده من حراء صباحًا - أيْ: لأوَّل يوم من شهر شوال - ويعود إلى البيت، وقد ورد التَّنصيص في رواية "الصحيحين" على أنَّ الوحي الذي نزل عليه صلَّى الله عليه وسلَّم بعد الفترة إنَّما نزل وهو راجعٌ إلى بيته بعد إتمام جواره بتمام الشهر.   أقول: فهذا يفيد أنَّ الوحي الذي نزل عليه بعد الفترة إنَّما نزل في أول يوم من شهر شوال، بعد نهاية شهر رمضان الذي تشرَّف فيه بالنُّبوة والوحي، وأنه كان آخر مجاورةٍ له بحراء، وإذا ثبت أنَّ أول نزولٍ كان في ليلة الاثنين الحادية عشرة[6] من شهر رمضان، فهذا يعني أنَّ فترة الوحي كانت لعشرة أيام فقط، وأنَّ الوحي نزل بعدها صبيحةَ يوم الخميس لأوَّل شوال من السَّنَة الأولى من النبوة[7].   وأما ما ذُكِر في حديث عائشة - رضي الله عنها - عن محاولة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم التردِّي من شواهق الجبال، فقد ذهب ابنُ حجر إلى أنه بلاغ مُرسَل من مراسيل الزُّهري، ومراسيل الزهري ضعيفة[8].   وردَّ الألبانيُّ هذه الزيادة بعلتين: الأولى: تَفرُّد مَعْمر بها دون يونس وعقيل؛ فهي شاذَّة. الثانية: أنها مُرسَلة معضلة، ولم تأت من طريقٍ موصولة يحتجُّ بها. ثم ذكر أنَّها زيادة منكَرة من حيث المعنى؛ إذْ لا يليق بالنبيِّ المعصوم أن يحاول قَتْلَ نفسه مهما كان الدافع له على ذلك[9].   عودة الوحي: ثم حدَّث النبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن عودة الوَحْيِ إليه مرةً أخرى، فقال: ((فبينما أنا أمشي إذْ سمعتُ صوتًا من السَّماء، فرفعْتُ رأسي، فإذا الملَك الذي جاءني بحراءٍ جالسٌ على كرْسيٍّ بين السماء والأرض، فجُئِثْتُ[10] منه رعْبًا، فرجعْتُ، فقلت: زمِّلوني زملوني، فدَثَّروني، فأنزل الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾ [المدثر: 1]، إلى: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5]، ثم حمي الوحي وتتابع))[11].   2- ظلَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يدعو إلى الله سرًّا ثلاث سنوات. الشرح: فلما نزلَتْ ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾ [المدثر: 1]، كان إيذانًا له صلَّى الله عليه وسلَّم ببدء الدَّعوة إلى الله، فبدأ النبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يدعو إلى الله سرًّا؛ حفاظًا منه على الدَّعوة وعلى مَن معه مِن المؤمنين وهم قِلَّة، وحتَّى لا يَعلم المشركون بذلك، فيَقْضوا على الدعوة في مهدها.   وأكَّد العلماء على أنَّ هذه الفترة كانت ثلاث سنوات، فقد اجتهد النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في هذه الفترة في دعوةِ مَن يغلب على ظنِّه أنه سيَدخل في هذا الدِّين، وسوف يكتم أمرَه، وهذا من باب السياسة الشرعيَّة، والنظر المصلحيِّ للدعوة إذا كان الجهرُ يضرُّ بها[12].   3 - أسلم السَّابقون الأولون؛ مثل: خديجة، وعلي، وزيد، وأبي بكر، وغيرهم. الشرح: قد علمنا فيما سبق أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أخذ يدعو من يغلب على ظنه أنه سيدخل هذا الدين، وأنه سوف يكتم أمره.   فكانت خديجةُ رضي الله عنها أوَّل من دعاها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الإسلام، فأسلمَت، ثم ثنَى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأمين سرِّه، وموضع ثقته؛ أبي بَكْر، فأسلم، ولم يتردَّد، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ الله بعثَني إليكم فقُلتم: كذبتَ، وقال أبو بكْرٍ: صدقَ...))[13]. فكان الصدِّيقُ رضي الله عنه أوَّلَ داعيةٍ في الإسلام.   وكان ببركة إسلامه ودعوته ثلَّة مباركة، دخلَت في الدِّين، وكانت من السابقين الأولين، وكان لها في الإسلام أعظمُ بذلٍ وبلاء، فرضي الله عنهم أجمعين، منهم عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ذو النُّورين، والزبير بن العوَّام، وهو حواريُّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وابن عمته صفيَّة بنت عبدالمطلب، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص خال المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم وطلحة بن عبيدالله، وكلُّ هؤلاء الذين دخلوا الإسلام على يد أبي بكر من العشرة المبشَّرين بالجنة رضي الله عنهم أجمعين.   وكان أول من أسلم من الغلمان عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكان ابن ثماني سنين، وقيل: أكثر من ذلك، وكان من سابق سعادته أنه كان في كفالة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكان أوَّلَ من أسلم من الموالي زيدُ بن حارثة، حِبُّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكان غلامًا لخديجة، فوهبَتْه لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا تزوَّجها.   ثم دخل - بعد هذه الثلَّة الفاضلة التي سبقَت لها السعادة، وسبقت إلى الإيمان والعبادة - ثلَّةٌ أخرى كريمة فاضلة، منهم أبو عبيدة بن الجرَّاح، أمين هذه الأمَّة، وسعيد بن زيدٍ من العشرة المبشَّرين، وخبَّاب بن الأرتِّ، وعبدالله بن مسعود، وأسماء، وعائشة، وقد أسلمَتْ عائشة - رضي الله عنها - وهي طفلة صغيرة، أمَّا أسماء، فكانت متزوِّجة بالزُّبير بن العوام.   وتوالَى إسلامُ الأفاضل من قريشٍ، فأسلم جعفرُ بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عُمَيس، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مَظْعون، وعمَّار بن ياسر، وصُهَيب بن سنان الرومي[14].   وكان من السابقين بلالُ بن رباح، وعمرو بن عبسة السلمي، وياسر وسميَّة والدا عمَّار، والمقداد بن الأَسْود.


[1] صحيح: أخرجه البخاري (3902)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلَّى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة. [2] صحيح: أخرجه مسلم (2347)، كتاب: الفضائل، باب: في صفة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ومبعثه وسِنِّه. [3] متَّفق عليه: أخرجه البخاريُّ (3)، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، مسلمٌ (160) كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم. [4] سبق تخريجه. [5] انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 172. [6] والصواب: الحادية والعشرون. [7] "الرحيق المختوم" (76). [8] "فتح الباري" 12/ 359 - 360. [9] انظر: "دفاع عن الحديث النبوي والسيرة" (41). [10] جئِثتُ: ذُعِرتُ وخِفْت، يقال: جُئث الرجل، وجئف وجُثَّ: إذا فَزِع. [11] متفق عليه: أخرجه البخاري (4925)، كتاب: التفسير، باب: وثيابك فطهر، ومسلم (161) كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم. [12] "وقفات تربوية مع السيرة النبوية" الشيخ أحمد فريد (68) بتصرف. [13] صحيح: أخرجه البخاري (3661)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لو كنتُ متخذًا خليلاً))، وأحمد في "فضائل الصحابة" (297). [14] "وقفات تربوية" 68، 69.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣