أرشيف المقالات

تصافح القلوب

مدة قراءة المادة : 3 دقائق .
2تصافح القلوب

في الآونةِ الأخيرة طغَتِ الماديات، وتفجَّرت الشهوات، وغابت الإنسانيات، فاستَشْرَتْ في زمانِنا حُمى التنافر، وتعالَت بعدها الأصواتُ بالتشاجر، ثم تقاطعت النفوس بالتدابر، وماتت في الإخوة عواطفُ الألفة ووُد المشاعر، فأين نحن مِن إسلام التناصح والتناصر؟! وأين هي روحُه المشرقة بالتصافح والتغافر؟!
 
لقد مُلئت القلوب بكل شيء سوى عطر المودَّة، وتعفَّنت بُذُور الصلة عندنا فذبُلت ورودُ المحبة؛ وذلك بسبب تغيُّر الأحوال، وفساد الأوضاع، وكثرة الأسقام، وتفشي الأوجاع.
فما أحوجَنا إلى التخلق بالعفو والتسامح!
وما أشدَّ طلبنا للنصرة والتصالح!

إن أفئدتنا السقيمة قد صارت سوداءَ مكفهرَّةً قاتمة، فهي تُشبِه الليل البهيم الذي تُظلله السُّحبُ الغائمة، ونحن في حيرةٍ مِن أمرنا عما تحمِلُه المُزن العائمة، أغيثٌ نافع هو أم مطر دافع؟! أنستبشر بالمولود، أم نبكي على المفقود؟!
 
فيا أهل الإيمان:
إذا كان ابن آدم ذا خطأ ونسيان، فإن سعادتَه تكمُنُ في عفوِه عن أخيه الإنسان، وإن حياته الطيبةَ تكون بالعمل الصالح والإيمان، فأين العفو والصلح والغفران؟!
 
أناديكم بكل قلب مؤمن فيكم:
أنْ تَجاوَزوا عن الهَنَات، واغفِروا للآخرين السقطات، وانظُروا في سوابق فضلهم والخيرات، فهذا هو نتاجُ الفكر السليم، وهو ثمرة خُلق المسلم القويم.
فأي حياة تُرتَجى لتلك القلوب الحاقدة السوداء؟!
وأي نعيم يُنتظر للأرواح الشريرة الخرقاء؟!
 
فيا جموع المؤمنين:
اسمَعوا مني أخبركم على يقين، فإني لكم - واللهُ يعلم - ناصحٌ أمين:
ألا فتَجاوَزا عن قبح الذنب، تُستَرْ عنكم الخطيئة من الرب!
واغفِروا زلات العباد، تنعموا بفضل الكريم الجَوَاد؛ فالجزاء دائمًا من جنس العمل، فكونوا كطائرٍ رأسُه المحبة وجَناحاه الرجاءُ والوَجَل.
 
إنَّ لتصافحِ القلوب درجاتٍ ومستويات، أعظمُها التطابق، وأوسطها التوافق، وأقلُّها الترافق، ولا يكون هذا بالاختلاف والتضاد والتراشق، وإن شئتَ فاسمع ما قاله الله تعالى: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [الحجر: 85]، والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه[1].
 
ولن تتصافحَ الأيادي من قرب، حتى تتلاقى القلوب في الدرب، ولن تُطرَد الأحزان وتكفكف الدموع، حتى توقد من الداخلِ أنوار الشموع، فبداية التصافح إذًا قلبية، وحقيقته داخلية، فعُودوا إلى رب البرية.
فوثِّق - يا أُخيه - الصلةَ بإخوانك، وشارِك خِلانك، يُصلِحِ الله لك من شانك، ويطرُدْ عنك أحزانك، وتهنَأْ بإيمانك.

صدِّقوني، إنكم ستموتون وستُقبَرون، وتُنسَون وقليلًا ما تُذكَرون، فأصلِحوا الآن ما فسد من القلب، واعتَنوا كثيرًا بالتربة الخصبة للحب، واستأصِلوا منها جذور الغلِّ، وقلموا لها أغصان الحسد، وصافِحوا بنبض قلوبكم كلَّ أحد، تنالوا الثواب الجزيلَ مِن الفرد الصمد.
 
وختامًا:
يا أيها العباد، كونوا مِن أهل التراحم والتواد، وحرِّروا أنفسكم من سجن الضغائن، واكسروا قضبان الأحقاد؛ فالعمر قصير، وإلى الزوال يصير، فاجتهدوا بالصفح عن الخَلق في دار الفناء، يثبْكم الخالق فينزع منكم الغل في جنة الخلد ودار البقاء.



[1] - ابن القيم، مدارج السالكين، 2 /167.

شارك الخبر

المرئيات-١