أرشيف المقالات

الرفق

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
الرفق


الرِّفق ضد العُنف، وهو يدل على موافقة ومقاربةٍ بلا عنف، يقال: رفَق الله بك، ورفَق عليك رفقًا ومرفقًا، وأصل الرِّفق في اللغة: النفع، ومنه يقال: أرفق فلان فلانًا، إذا مكَّنه مما يرتفق به، وصاحبه رفيق، والرفيق ضد الأخرق، وترك الرفق جفاءٌ وغلظة[1].
 
والرفق اصطلاحًا: لِين الجانب ولطافة الفعل، وقيل: حسن الانقياد لِما يُؤدِّي إلى الجميل، وقيل: هو اليُسر في الأمور، والسهولة في التوصل إليها[2]، وقيل: هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل والدفع بالأخف[3].
 
قال أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ): الرفق محمود، وضده العنف والحدة، والعنف ينتجه الغضب والفظاظة، والرفق واللين ينتجهما حُسن الخلق والسلامة، والرفق ثمرةٌ لا يثمرها إلا حسن الخلق، ولا يَحسُن الخلق إلا بضبط قوة الغضب، وقوة الشهوة، وحفظهما على حد الاعتدال، ولذلك أثنى المصطفى صلى الله عليه وسلم على الرفق وبالَغ فيه[4].
 
والرفق خُلقٌ رباني يحبُّه الله ويرضاه لعباده، ويُعطي عليه ما لا يعطي على الشدة والعنف، وللمتخلِّق به في الدنيا الثناء الجميل وتحقيق المطالب وتسهيل المقاصد، وفي العقبى له الثواب الجزيل من الله تعالى[5]، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه))[6].
 
وقد أخبر الله تعالى بإرادةِ التيسير على عباده والرِّفق بهم، ونفى إرادة التضييق عليهم في الدين والدنيا، فقال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقال عز مِن قائل: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6]، وقال: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، فلا يُكلِّف الله نفسًا إلا بحدود طاقتها؛ قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286].

وامتنَّ الله على نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم بإلانةِ قلبه على أُمته، فسهلَت لهم أخلاقه، وكثُر عليهم احتماله، ولم يُسرِع إليهم فيما كان منهم، فكان ذلك سببًا لتآلفهم عليه، واجتماعهم بين يديه[7]؛ قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].

كما أمر الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام بالترفق ولين القول مع أكفر الخلق وأظلمهم، فقال تعالى: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44].
 
ولَمَّا جاء رجلٌ واعظ إلى الخليفة المأمون، فوعَظه وعنَّف له في القول، قال له: يا رجل ارفق، فقد بعث الله مَن هو خير منك إلى مَن هو شر مني، وأمره بالرفق، فقال تعالى: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا...
[طه: 44][8].
 
والرفق مطلوبٌ في الأمور كلها، الدينية منها والدنيوية، كما أنه مطلوب مع كل الناس مهما كانت نِحَلهم وعقائدهم وتوجُّهاتهم، فهذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها يدخل رهطٌ من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيَلحَنون في سلامهم عليه، ويقولون: السام عليك[9]، ففهِمَتْها، فقالت: عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مهلًا يا عائشة، فإن الله يحبُّ الرفق في الأمر كله))، فقلت: يا رسول الله، أَوَلَم تسمع ما قالوا؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فقد قلتُ: وعليكم))[10].
 
والرفق زينةُ الأفعال والأقوال؛ سواء كان ذلك مع إنسان أو جماد أو حيوان، وتركه شَين وقُبح ونقصان، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كان الرفقُ في شيء قط إلا زانَه، ولا كان الخرق في شيء إلا شانه، وإن الله رفيقٌ يحب الرفق))[11]، وهو لا يأتي لصاحبه إلا بخير، وقد قالوا قديمًا: الرفق في الأمور كالمِسْك في العطور[12]، فمَن تركه في أقواله وأفعاله حُرِم الخير المتحقِّق منه، فعن جَرير بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن يُحرَمِ الرفق يُحرَمِ الخير))[13].
 
بل إن مِن فأل الخير ودلائله أن يتحلَّى قوم أو أهل بيت بخلق الرفق، فيرفق بعضهم ببعض، ويَلين بعضهم لبعض، فعن عائشة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أراد الله عز وجل بأهل بيت خيرًا، أدخل عليهم الرفق))[14]، وفي رواية: «إذا أراد الله بقوم خيرًا أدخل عليهم الرفق))[15].
 
وصاحب الرفق مُعانٌ من الله تعالى، وموفَّق لِما يريد، فعن معدان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله رفيقٌ يحبُّ الرفق ويرضاه، ويُعين عليه ما لا يعين على العنف))[16].
 
ولعل أَولى مَن يُذكَّر بالرفق في القول والفعل هم ولاة الأمر؛ لِما يملِكونه من سطوة وسلطة على العباد والبلاد، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم على مَن ولِي أمرًا من أمور المسلمين فشدَّد عليهم وأتعبهم، ولم يُيسِّر لهم مصالحهم، أن يعامله الله بجنس معاملته، ودعا لمن يرفُقُ بعباد الله أن يرفق الله به، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم مَن ولِي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقُقْ عليه، ومَن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به))[17].
 
وأكَّد أن مِن شر الرعاة ذلك العنيف في رعيته الذي لا يرفق بهم ولا يرعى مصالحهم، بل يدفع بهم؛ ليؤذي بعضهم بعضًا، ويحطم بعضهم بعضًا، فعن عائذ بن عمرو رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن شر الرِّعاء الحُطمة))[18].
 
ولا ينبغي أن يُفهَم مما سبق أن الدعوة إلى الرفق تتعارضُ مع مواطن الشدة والحزم، بل لكل منهما مكانُه وموضعه، ومِن الخطأ اللين في موطن الشدة، والشدة في موضع اللين، فقد قال سفيان الثوري لأصحابه: تدرون ما الرفق؟ قالوا: قل، قال: أن تضع الأمور مواضعها، الشدة في موضعها، واللين في موضعه، والسيف في موضعه، والسوط في موضعه، قال الغزالي: وهذا إشارة إلى أنه لا بد في مزج الغلظة باللين والفظاظة بالرفق.
ووضعُ الندى في موضعِ السيف بالعُلا *** مُضرٌّ كوضعِ السيفِ في موضعِ الندى

فالمحمود وسط بين العنف واللين، كما في سائر الأخلاق، لكن لَمَّا كانت الطباع إلى الجد والعنف أميلَ، كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جنب الرفق أكثرَ، والحاجة إلى العنف يقع على ندور[19].

[1] انظر: تهذيب اللغة 3: 212، مقاييس اللغة 2: 244، تهذيب الأسماء للنووي 3: 117 - 227، الفروق اللُّغوية للعسكري ص259، غريب الحديث للحربي 2: 354، والتوقيف على مهمات التعاريف ص247.

[2] انظر: تهذيب الأسماء للنووي 3: 117 - 227، الفروق اللغوية للعسكري ص259، والتوقيف على مهمات التعاريف ص370.

[3] انظر: فيض القدير للمناوي 2: 287.

[4] انظر: إحياء علوم الدين 3: 184، 185، فيض القدير للمناوي 1: 263.

[5] انظر: فيض القدير 2: 237.

[6] أخرجه البخاري في استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، برقم 6415، ومسلم في البر والصلة والآداب برقم 4697 واللفظ له.

[7] انظر: تفسير البغوي 2: 124، وتفسير ابن كثير 2: 148.

[8] إحياء علوم الدين 2: 334.

[9] أي: الموت العاجل عليك؛ انظر: تحفة الأحوذي 5: 189.

[10] أخرجه البخاري في الاستئذان برقم 5786، ومسلم في السلام برقم 4027.

[11] ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 41 وقال: رواه البزار، وفيه كثير بن حبيب، وثقه ابن أبي حاتم، وفيه لين، وبقية رجاله ثقات.

[12] فيض القدير 6: 241.

[13] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب: فضل الرفق، برقم 4694.

[14] أخرجه أحمد في المسند 6: 71 برقم 24471، وذكره الهيثمي في المجمع 8: 43 برقم 12649، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

[15] ذكره الهيثمي في المجمع 8: 43 برقم 12649، وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.

[16] ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 488، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجاله الصحيح.

[17] أخرجه مسلم في الإمارة برقم 1828.

[18] أخرجه مسلم في الإمارة برقم 1830.

[19] فيض القدير للمناوي 4: 57.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن