أرشيف المقالات

كونوا لموتاكم أوفياء

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2كونوا لموتاكم أوفياء

 
الوفاء خلُقٌ كريم، وخيرُ الوفاء ما كان لمُتوفًّى لم يعد الوفيُّ له ينتظر منه على وفائه جزاءً ولا شكورًا، كم شيَّعنا مِن إخوةٍ وآباء، وأصدقاء، وأزواجٍ وزوجاتٍ إلى القبور، وواريناهم الثَّرى! فختم على حياتهم، وربَّما ختم على أعمالهم.

فهل نذكرهم؟! وهل نصلهم؟! فنعمل مِن الخير ما يصل ثوابُه إليهم؛ وفاءً لأبُوَّةٍ، وبرًّا واجبًا، أو زوجيةً كان السكنُ مِلْأَها؛ سكن ملأتْه المودَّة والرحمة، أو أُخُوَّة ورحِم وصلها لازمٌ، أو صداقة أو قرابة أو صهارة كانت بيننا وبينهم يومًا ما، أم هل انقطع الحبل بيننا وبينهم بالموت، ماتوا فنسيناهم، هكذا كأن لم يكن بيننا وبينهم ما كان؟!
كأنْ لَمْ يَكنْ بينَ الحَجونِ إلى الصَّفا ♦♦♦ أَنِيسٌ ولم يَسمُر بمكَّةَ سامِرُ

إنَّ مِن تشريعات الإسلام العظيم ما يُعزِّز هذا الخُلُق الذي أسَّسه ربنا في الفطرة، وزادَتْهُ الأيام وُدًّا.
قرآنًا وسُنَّة، علمًا وعملًا، نظريةً وتطبيقًا، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الخلق بالمكان الأشرف، حتى وفاؤه كان مضرِب المثل.

ماتتْ خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف كان وفاؤه لعهده معها؟
كان يذكُرها بالخير، ويُثني على أخلاقها بجميل الثناء، ويَذْبَح الشاة فيهدي لصديقاتها، ويكْرِم أبناءها منه ومِن غيره، ويكرم المرأة تأتيه إكرامًا يزيد عن إكرامه لغيرها من النساء يقول: ((إنها كانتْ تأتينا أيام خديجة))[1].

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالشيء يقول: ((اذهبوا به إلى فلانة؛ فإنها كانتْ صديقة خديجة، اذهبوا به إلى بيت فلانة؛ فإنها كانت تحبُّ خديجة))[2].
وعن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: (ما غِرتُ على أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما غِرت على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها؛ وما ذاك إلا لكثرة ذِكْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليذبح الشاة فيتتبع بها صدائق خديجة؛ فيهديها لهنَّ)[3].

فأين نحن مِن هذا الوفاء الجميل مع أمواتنا؛ آبائنا وإخواننا وزوجاتنا وأزواجنا الراحلين؟
والجواب - لمن حرَّكتْ هذه الكلمات فيه الوفاء لموتاه -:
شرع الإسلام أعمالًا يحصل بها الوفاء للأموات، فمن بِرِّ الوالدين ما روى أبو داود في سننه عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي عليَّ مِن برِّ أبويَّ شيء أبَرهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما))[4].
فالذي تقوم به تجاه والدك المتوفَّى هو الدعاء له، والاستغفار له؛ قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24].

وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث...
وذكر منها: ولد صالح يدعو له)
)
[5].
وإن أوصى بشيء أو عهد عهدًا، فعليك بتنفيذ وصيته، والوفاء بعهده، وأن تصل رحمَك لا سيما من جهته، وإن كان له أصدقاء فتكرمهم.

قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من أبرِّ البِرِّ أن يصل الرجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يولي))[6]؛ يعني: أهل المودَّة لأبيه بعد أن يتوفى أبوه.

ولهذا الحديث قصة جميلة تبيِّن منهج الصحابة في التلقِّي عن الله ورسوله؛ فعن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا مِن الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلَّم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامةً كانتْ على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك اللهُ إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير، فقال عبدالله بن عمر: إن أبا هذا كان ودًّا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أبرَّ البرِّ صلة الرجل ودَّ أبيه))[7].

وفي رواية عن ابن دينار عن ابن عمر أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروَّح عليه إذا ملَّ ركوب الراحلة، وعمامة يشدُّ بها رأسه، فبينا هو يومًا على ذلك الحمار إذ مرَّ به أعرابيٌّ فقال: ألست فلان بن فلان؟ قال: بلى، فأعطاه الحمار، فقال: اركب هذا، وأعطاه العمامة، وقال: اشدُد بها رأسك، فقال له بعضُ أصحابه: غفر الله لك؛ أعطيت هذا الأعرابي حمارًا كنت تروح عليه، وعمامة كنت تشدُّ بها رأسك؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من أبرِّ البِرِّ أن يصل الرجل أهلَ ودِّ أبيه بعد أن يولى))، وإن أباه كان صديقًا لعمر رضي الله عنه[8].

وإذا تصدقت عن متوفَّاك تتصدَّق بنيةِ أنَّ ثواب هذه الصدقة له؛ فإنها تصل إليه.
لا يصل إلى الميت شيء من الأعمال الصالحة إلا ما دلَّ الدليل على أنه يصل، والذي دلَّ الدليل على وصول ثوابه إلى الميت هو: الحج والعمرة، والصوم الواجب عليه قبل موته مِن نذرٍ أو كفارة أو ما شابه ذلك، وقضاء الدَّين، والدعاء له، والاستغفار، والصدقة بالمال أو بغيره.
وأما غير ذلك من الطاعات كقراءة القرآن، ونحو ذلك فقد وقع فيه الخلاف بين أهل العلم: هل يصل ثوابه إلى المتوفَّى أو لا؟ والتحقيق أن يقتصر وصول الثواب على ما أتى به الدليل.

ومِن الأعمال الجليلة التي أذكِّرك بها في هذه الأيام المباركة - أيام العشر الأوائل من ذي الحجة - أخي الكريم:
(1) الدعاء - خاصة عند صومك أو لحظة إفطارك من صومك - وأفضله يوم عرفة.
(2) إشراك الميت معك في ثواب أُضحيتك؛ فإن كنت تنوي الأضحية هذا العام - يسَّرني الله وإياك لكلِّ خير - فانوها عنك وعن أهل بيتك ومَن شئتَ معهم من الأحياء والأموات، فإنهم يثابون معك في هذه الأضحية إذا استحضرت نيةَ تشريكهم في ثوابها.

(3) العمرة والحج عنهم؛ فإنهما من أنفع القُربات لهم، وينتفعون بها كثيرًا، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك مرَّات كثيرة، فقال للسائل: ((حجَّ عن أبيك واعتمر))[9]، وللسائلة: ((حجي عن أبيكِ))[10]، وللأخرى: ((عن أمِّكِ))[11]، وسأله آخَر قال: إني لبَّيْت عن شبرمة، قال: ((من شبرمة؟)) قال: أخٌ لي أو قريب لي، قال: ((حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة))[12].


نعم يشترط لمن أراد أن يعتمر أو يحجَّ عن الميت أن يكون اعتمر أو حج عن نفسه أولًا.
وأبشِّرك يا حبيب بأن عملك هذه الأعمالَ للميت له به أجر، ولك أيضًا أجر معه، ولا يعظم على فضل الله أن يكتب لميتك أجر هذا العمل كاملًا، ويكتب لك مثله، من غير أن ينقص من أحدكما شيئًا.
فكونوا أوفياء لموتاكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته




[1] أخرجه البخاري (5658).


[2] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (225)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد.


[3] أخرجه الترمذي (2017)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.


[4] أخرجه أحمد (16103)، وأبو داود (5144)، وابن ماجه (3664)، وفيه ضَعْفٌ، انظر: المسند بتحقيق الأرنؤوط (3/ 497).


[5] أخرجه مسلم (1631).


[6] أخرجه مسلم (4631).


[7] أخرجه مسلم (4631).


[8] أخرجه مسلم (4637).


[9] أخرجه الترمذي (930)، وصححه الألباني.


[10] أخرجه البخاري (4138).


[11] أخرجه البخاري (1754)،


[12] أخرجه أبو داود (1811)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢