أرشيف المقالات

منزلة الصديقية من كلام ابن قيم الجوزية

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2منزلة الصدّيقيّة من كلام ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى -
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: أما بعد: فهذه نبذة لطيفة مباركة - إن شاء الله - متعلقة بالصدّيقيّة وتعريفها وأهميتها، وحقيقتها، ومراتبها وأنواعها وأحوالها ودرجاتها، اقتطفتها من كتاب "مدارج السالكين" لابن قيم الجوزية - رحمه الله - سائلا المولى أن ينفع بها وأن يخلص لي النية فيها إنه تعالى سميع قريب مجيب الدعاء، مع التنبيه بأن العناوين موضوعة مني ليسهل على القارئ فهمها مع تصرف في تقديم النصوص وتأخيرها.   تعريف الصدّيقية: "الصدّيقية: كمال الإخلاص والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهرا وباطنا".   مفتاح الصديقية مبدؤها وغايتها: وفي "الصحيحين" من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا فجعل الصدق مفتاح الصديقية ومبدأها وهي غايته فلا ينال درجتها كاذب ألبتة لا في قوله ولا في عمله ولا في حاله ولا سيما كاذب على الله في أسمائه وصفاته ونفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه عن نفسه فليس في هؤلاء صديق أبدا وكذلك الكذب عليه في دينه وشرعه بتحليل ما حرمه وتحريم ما لم يحرمه وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لم يوجبه وكراهة ما أحبه واستحباب ما لم يحبه كل ذلك مناف للصديقية.

وكذلك الكذب معه في الأعمال: بالتحلي بحلية الصادقين المخلصين والزاهدين المتوكلين وليس في الحقيقة منهم.   حقيقة الصديقية: فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال القلوب التي هي من أعمال الجوارح وهو حقيقة الصديقية وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره.   الصديقية أعلى مراتب الصدق: قال ابن القيم: "فأعلى مراتب الصدق: مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل".[1]
منزلة الصديقية في الإسلام وأهميتها: قال ابن القيم: "هي منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه من صال به لم ترد صولته ومن نطق به علت على الخصوم كلمته فهو روح الأعمال ومحك الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين ومن مساكنهم في الجنات: تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين.

وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان: أن يكونوا مع الصادقين وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119] وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ﴾  [النساء: 69] فهم الرفيق الأعلى وحسن أولئك رفيقا ولا يزال الله يمدهم بأنعمه وألطافه ومزيده إحسانا منه وتوفيقا ولهم مرتبة المعية مع الله فإن الله مع الصادقين ولهم منزلة القرب منه إذ درجتهم منه ثاني درجة النبيين.[2]   أنواع الصديقية: 1- فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها.
2- والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد.
3- والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص واستفراغ الوسع وبذل الطاقة.
فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق.
وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به تكون صديقيته ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضى الله عنه وأرضاه ذروة سنام الصديقية سمي الصديق على الإطلاق والصدّيق أبلغ من الصدوق والصدوق أبلغ من الصادق   الصديقية أعظم مرتبةً من مرتبة التحديث: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والصديق أكمل من المحدث لأنه استغنى بكمال صديقيته ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف فإنه قد سلّم قلبه كله وسره وظاهره وباطنه للرسول فاستغنى به عما منه.

وكان هذا المحدث يعرض ما يحدث به على ما جاء به الرسول فإن وافقه قبله وإلا رده فعلم أن مرتبة الصديقية فوق مرتبة التحديث".[3]   عنوان الصدّيقيّة: 2- قال ابن القيم: "فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصديقية ومنشور الولاية النبوية وفيه تفاوتت مراتب العلماء، حتى عد ألف بواحد فانظر إلى فهم ابن عباس وقد سأله عمر ومن حضر من أهل بدر وغيرهم عن سورة إذا جاء نصر الله والفتح وما خص به ابن عباس من فهمه منها أنها نعى الله سبحانه نبيه إلى نفسه وإعلامه بحضور أجله وموافقة عمر له على ذلك وخفائه عن غيرهما من الصحابة وابن عباس إذ ذاك أحدثهم سنا وأين تجد في هذه السورة الإعلام بأجله لولا الفهم الخاص ويدق هذا حتى يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهام أكثر الناس فيحتاج مع النص إلى غيره ولا يقع الاستغناء بالنصوص في حقه وأما في حق صاحب الفهم فلا يحتاج مع النصوص إلى غيرها.[4]   السبيل إلى الصديقية: 3- قال ابن القيم: "فمن تعبد الله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة ولأجل هذه المراغمة حمد التبختر بين الصفين والخيلاء والتبختر عند صدقة السر حيث لا يراه إلا الله لما في ذلك من إرغام العدو وبذل محبوبه من نفسه وماله لله عز و جل.

وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأول، وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وصاحب هذا المقام إذا نظر إلى الشيطان ولاحظه في الذنب راغمه بالتوبة النصوح فأحدثت له هذه المراغمة عبودية أخرى.   أحوال مرتبة الصديقية: وقد أمر الله تعالى رسوله: أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال: وقال: ﴿ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 80].
وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين فقال: ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الشعراء: 84] وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ [يونس: 2] وقال: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54، 55].   فهذه خمسة أشياء: 1- مدخل الصدق. 2- ومخرج الصدق. فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله وفي مرضاته بالظفر بالبغية وحصول المطلوب ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها ولا له ساق ثابتة يقوم عليها.
3- ولسان الصدق: وأما لسان الصدق: فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم بالصدق ليس ثناء بالكذب كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه: ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ﴾ [مريم: 50] والمراد باللسان ههنا: الثناء الحسن فلما كان الصدق باللسان وهو محله أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقا وعبر به عنه.
4-وقدم الصدق: وأما قدم الصدق: ففسر بالجنة وفسر بمحمد وفسر بالأعمال الصالحة.
وحقيقة القدم ما قدموه وما يقدمون عليه يوم القيامة وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك.
5- ومقعد الصدق: الجنة وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل لرضوانه.   أعلى درجة الصديقية وأكمل الناس فيها: إن مثل حال الصدّيق مع النبي كمثل رجلين دخلا دارا، فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئياته والآخر: وقعت يده على ما في الدار ولم ير تفاصيله ولا جزئياته لكن علم أن فيها أمورا عظيمة لم يدرك بصره تفاصيلها ثم خرجا فسأله عما رأى فى الدار فجعل كلما أخبره بشيء صدقه لما عنده من شواهده وهذه أعلى درجات الصديقية ولا تستبعد أن يمن الله المنان على عبد بمثل هذا الإيمان فإن فضل الله لا يدخل تحت حصر ولا حسبان فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نور من البصيرة ازداد بها نورا إلى نوره..".[5]
"وبهذا يتبين أن التسليم (لله وللرسول) من أجل مقامات الإيمان وأعلى طرق الخاصة وأن التسليم هو محض الصديقية التي هي بعد درجة النبوة وأن أكمل الناس تسليما أكملهم صديقية".[6]
"وقال صلى الله عليه وسلم: من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا غفرت له ذنوبه وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما ينتهي وقد تضمنا الرضى بربوبيته سبحانه وألوهيته والرضى برسوله والانقياد له والرضى بدينه والتسليم له ومن اجتمعت له هذه الأربعة: فهو الصديق حقا وهي سهلة بالدعوى واللسان وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها من ذلك: تبين أن الرضى كان لسانه به ناطقا فهو على لسانه لا على حاله".   الصديقية أعظم درجة من جميع الطاعات الأخرى: كالجهاد والصيام والقيام....وغير ذلك.
فما سبق الصدّيق الصحابة بكثرة عمل وقد كان فيهم من هو أكثر صياما وحجا وقراءة وصلاة منه ولكن بأمر آخر قام بقلبه حتى إن أفضل الصحابة كان يسابقه ولا يراه إلا أمامه ولكن عبودية مجاهد نفسه على لذة الذنب والشهوة قد تكون أشق ولا يلزم من مشقتها تفضيلها في الدرجة فأفضل الأعمال الإيمان بالله والجهاد أشق منه وهو تاليه في الدرجة ودرجة الصديقين أعلى من درجة المجاهدين والشهداء.   الصدّيقون أكمل الناس أدبا مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم: وانظر أدب الصديق رضي الله عنه مع النبي في الصلاة: أن يتقدم بين يديه فقال: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله كيف أورثه مقامه والإمامة بالأمة بعده فكان ذلك التأخر إلى خلفه وقد أومأ إليه أن: اثبت مكانك جمزا وسعيا إلى قدام بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام تنقطع فيها أعناق المطي والله أعلم.   الصديقون أكثر الناس فراسة: "كان الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقائع فراسته مشهورة فإنه ما قال لشيء: أظنه كذا إلا كان كما قال ويكفي في فراسته: موافقته ربه في المواضع المعروفة".


[1] المصدر السابق (2/270). [2] المصدر السابق (2/269). [3] مدارج السالكين لابن القيم (1/40) بتحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي - بيروت 1393هـ. [4] المصدر السابق (1/41) [5] المصدر السابق (1/443). [6] المصدر السابق (2/148).



شارك الخبر

المرئيات-١