أرشيف المقالات

منهج ابن كثير في الدعوة إلى الإيمان بالله

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
منهج ابن كثير في الدعوة إلى الإيمان بالله
 
الإيمان بالله تعالى هو الركن الأول من أركان الإيمان، ومعرفتُه غاية كل مسلم؛ لأن معرفة الله وعبادته هي أشرفُ المَطالِبِ، وأعلى المراتب، وأنبل المقاصد، والله سبحانه لما خلَقَ الخَلْق لم يتركهم هملًا، بل أرسَل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فالقرآن الكريم من أوله إلى آخره متضمِّنٌ لعقيدة التوحيد، والرسول صلى الله عليه وسلم جاءت دعوته لتقرير هذه العقيدة، وترسيخها، وبيانها، والعمل على تطبيقها والتمسُّك بها.
 
والإيمان بالله هو الإقرار والاعتراف بأن الله هو الرب الخالق الرازق المحي المميت المدبِّر لجميع الأمور، وهذا مقتضى توحيد الربوبية، وكذلك الإيمان بأن الله هو الإله المستحقُّ للعبادة وحده دون سواه، وهذا هو مقتضى توحيد الألوهية، وكذلك الإيمان بأسماء الله وصفاته، وإثباتُ ما أثبَتَه لنفسه أو أثبَتَه لرسوله صلى الله عليه وسلم، ونفيُ ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف، وهذا هو توحيد الأسماء والصفات.
 
ولقد قرَّر الإمام ابن كثير هذه الأقسامَ الثلاثة وبيَّنها، ودعا إلى الإيمان بها واعتقادها والتسليم بها، في مواضعَ كثيرة من تفسيره، فقال رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22]:
"وهذه الآية دالَّةٌ على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل بها كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع، فقال: وهي دالة على ذلك بطريق الأَولى؛ فإن من تأمَّلَ هذه الموجوداتِ السفلية والعلوية، واختلافَ أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة، عَلِمَ قدرة خالقها وحكمته، وعلمه وإنعامه، وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب وقد سئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ قال: يا سبحان الله! إن البعرة تدل على البعير، وإن أثر الأقدام لَيدلُّ على المسير، فسماءٌ ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدلُّ ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!
 
وحكى فخر الدين عن الإمام مالك رحمه الله أن الرشيد سأله عن ذلك، فاستدَل باختلاف اللغات والأصوات والنغمات.
 
وعن أبي حنيفة رحمه الله أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى، فقال لهم: دعُوني؛ فإني مفكِّر في أمر قد احترت فيه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة[1] فيها أنواع من المتاجر، وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها، وتخترق الأمواج العِظام حتى تتخلَّص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد، فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكم! هذه الموجوداتُ بما فيها من العالم العلوي والسلفي، وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة، ليس لها صانع؟! فبُهِتَ القوم، ورجَعوا إلى الحق، وأسلَموا على يديه.
 
وعن الشافعيِّ رحمه الله أنه سئل عن وجود الباري تعالى، فقال: هذا ورقُ التوت طعمه واحد، يأكله الدود فيخرُج منه الإِبْرَيْسَمُ، ويأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتُلقيهِ بعرًا وروثًا، وتأكله الظِّباء فيخرج منها المسك، وهو شيء واحد.
 
وعن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن ذلك، فقال: هاهنا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينما هو كذلك إذ انصدَعَ جداره، فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن بصوت مليح؛ يعني البيضة إذا خرج منها الدجاجة"[2].
 
وقال أيضًا: "شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية وألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغِه عليهم النِّعَمَ الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم ﴿ الْأَرْضَ فِرَاشًا ﴾ [البقرة: 22]؛ أي: مهدًا كالفِراش مُقَرَّرةً موطأة مثبَّتة بالرواسي الشامخات، ﴿ وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾، وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى: ﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 32]، وأنزل لهم من السماء ماء - والمراد به السحاب هاهنا - في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مُشاهَد، رزقًا لهم ولأنعامهم، كما قرَّر هذا في غير هذا الموضع من القرآن، ومِن أشبهِ آية بهذه الآيةِ قولُه تعالى: ﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 64]"[3].
 
وهكذا نجد ابن كثير رحمه الله يستخدم المنهج الحسيَّ والعقلي في الدعوة إلى الإيمان بوجود الله سبحانه، فهو يستدل على توحيد الربوبية بالآيات والبراهين والدلائل الكونية والطبيعية، ويورد الأقوال والأمثلة التي ذكرها العلماء في ذلك.
 
وكذلك الشأن في توحيد الألوهية؛ فقد دعا رحمه الله إلى عبادة الله وحده دون سواه، وأنه لا يتم تحقيق "لا إله إلا الله" إلا بذلك، فيقول رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [النساء: 87]: "وقوله: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ إخبار بتوحيده وتفرُّده بالألوهية لجميع المخلوقات"[4].
 
وقال عند تفسير الآية: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 163]: "يخبر تعالى عن تفرُّده بالألوهية، وأنه لا شريك له ولا عديل له، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا إله إلا هو، وأنه الرحمن الرحيم"[5].
 
كما يقرِّر رحمه الله أن الإله الخالق الرازق المحيي المميت المدبِّر لجميع الأمور هو سبحانه الرب والإله المستحق للعبادة دون سواه، فما دام "أنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم النعمَ الظاهرة والباطنة....
فبهذا استحَقَّ أن يُعبَدَ وحده ولا يُشرَك به غيره"[6].
 
وهو هنا استخدم المنهج العقليَّ في الدعوة إلى الإيمان بتوحيد الألوهية، فما دام أنه سبحانه الخالق الرازق المحيي المميت، فلِمَ يُعبَدُ غيره؟ ولمَ يُتوكَّلُ على سواه؟ فقال عند تفسيره الآية: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [العنكبوت: 61]: "يقول تعالى مقرِّرًا أنه لا إله إلا هو؛ لأن المشركين - الذين يعبُدون معه غيره - معترفون أنه المستقلُّ بخلق السموات والأرض، والشمس والقمر، وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده، ومقدِّر آجالهم واختلافها، واختلاف أرزاقهم، ففاوَتَ بينهم؛ فمنهم الغنيُّ ومنهم الفقير، وهو العليم بما يُصلِح كلًّا منهم، ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستبدُّ بخلق الأشياء، المتفرِّد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك، فَلِمَ يُعبَدُ غيره؟ ولِمَ يُتوكلُ على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه، فليكن الواحد في عبادته، وكثيرًا ما يقرر تعالى مقام الالهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية وكان المشركون يعترفون بذلك، كما كانوا يقولون في تلبيتهم "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك"[7].
 
فواجب الدعاة أن يقوموا بواجب الدعوة إلى توحيد الله في ربوبيته، وأنه سبحانه الخالق الرازق المحيي المميت، وأنه ربُّ كل شيء ومليكُه، فلا خالقَ غيره، ولا ربَّ سواه، وأن كل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته، وأنه سبحانه الإله المعبود وحده دون سواه، كما أن عليهم أن يسلُكوا منهج الرسل في العناية بتوحيد الألوهية، ودعوة الناس إلى توحيد الله وعبادته وعدم الإشراك به، وأنه لا ينبغي أن ينصرف الدعاة بسبب ظهور موجة الإلحاد في هذا العصر عن الاهتمام بتوحيد الألوهية، والاكتفاء بدعوة الناس إلى الإيمان بوجود الله وبيان عظمته، بل يكون هذا طريقًا للدعوة إلى عبادته وعدم الإشراك به سبحانه.
 
وأما توحيد الأسماء والصفات، فمنهج ابن كثير رحمه الله هو الإيمان بأسماء الله وصفاته على منهج السلف، وعدم الخوض والجدل الكلامي والفلسفي، واتِّباع أسلوب القرآن في ذلك، كما أنه رحمه الله عند تقريره للإيمان بأسماء الله وصفاته يستخدم المنهج العاطفيَّ في زيادة الإيمان، والخوف من الله وخشيته ومحبته، والتوكل عليه والالتجاء إليه، من خلال أسماء الله وصفاته، فيقول رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]: "أي: إنما يخشاه حقَّ خشيته العلماءُ العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتَمَّ، والعلم به أكمل، كانت الخشيةُ له أعظَمَ وأكثر"[8].
 
وقال رحمه الله عند تفسيره الآية: ﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ [البقرة: 255]: "أي لا يُثقِلُه ولا يُكْرثه حفظُ السموات والأرض ومَن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهلٌ عليه، يسيرٌ لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزُبُ عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلُّها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة، وهو الغنيُّ الحميد، الفعَّال لما يريد، الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء، الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره، ولا رب سواه"[9].
 
وابن كثير كما ذكرنا يرى أن منهج السلف هو المنهج الصحيح في إثبات الأسماء والصفات، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه، فيقول: "﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255] كقوله: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [سبأ: 23] وكقوله: ﴿ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9]، وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجودُ فيها طريقةُ السلف الصالح: إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه"[10].
 
وقال رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]: "المسلك في ذلك طريقة السلف: إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسُّنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل"[11].



[1] موقرة: محملة وثقيلة، المعجم ص 1049.


[2] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 78.


[3] المرجع نفسه 1/ 76.


[4] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 649.


[5] المرجع نفسه 1/ 250.


[6] المرجع نفسه 1/ 76.


[7] انظر تفسير القرآن العظيم 3/ 519.


[8] انظر تفسير القرآن العظيم 3/ 678.


[9] المرجع نفسه 1/ 384.


[10] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 384.


[11] المرجع نفسه 3/ 180.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣