أرشيف المقالات

الله لا يحب الكافرين

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
الله لا يحبُّ الكافرين

قال تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [الروم: 44، 45]، والكفر هو التغطية والسِّتر، ولهذا سُمِّي الفلاحون في اللغة كُفَّارًا؛ لأنهم يغطون البذور بالتراب.
 
جاء في أساس البلاغة للزمخشري: "كفَرَ الشيءَ وكفَّرهُ غطّاه، يقالُ: كفَّر السحابُ السماءَ، وكفر المتاع في الوعاء، وكفر الليل بظلامه، وليل كافر، ولبس كافر الدروع، وهو ثوب يلبس فوقها، وكفرت الريح الرسم، والفلاحُ الحبَّ، ومنه قيل للزُرَّاع الكفَّار، وفارسٌ مكفر، وكفر نفسه بالسلاح، وتكفَّر به؛ قال ابن مفرغ:






حَمى جارَهُ بشرُ بن عمرو بنِ مرثدِ
بألفي كَمَيٍّ في السلاحِ مُكَفَّرُ"[1]






 
والكفر نوعان:
النوع الأول: كفر الاعتقاد: وفيه الخروج من دائرة الإسلام، وهو على أنواع:
1- مَنْ لم يؤمن بالإسلام في الأصل؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، ومِنْ هؤلاء مُشركو قريش، واليهود والنصارى وبقية العقائد والمِلَل والنِّحَل من غير المسلمين، ممن سمعوا بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم ولم يُؤمنوا.
 
2- من أنكر أو أبغض حُكمًا من أحكام الإسلام، أو جحَد نصًّا من القرآن الكريم، أو سنةً ثابتةً عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك الاعتقادُ بأنَّ الله - جل جلاله - لم يحفظ القرآن الكريم، وأنَّ هذا القرآن محرفٌ أو مُبدَّل، أو الاعتقادُ بخيانة أصحاب النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم أو سَبُّهم، أو الاعتقاد بعدم صلاحية أحكام الدين الإسلامي لهذا الوقت؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: 150، 151].
 
3- القيام بأعمال شركية؛ كاتخاذ إلهٍ مع الله - جل جلاله - أو التوكل على غير الله - جل جلاله - أو الدعاء من غير الله - جل جلاله - أو الاعتقاد بأنَّ هناك من يضرُّ وينفع غير الله - جل جلاله - قال تعالى: ﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ [الزمر: 3].
 
4- موالاة غير المسلمين، وحُبُّهم وإعانتهم على حساب المسلمين؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51]، ومن ذلك تعظيم شعائرهم كلبس الصليب أو تعليقه.
 
5- الاستهزاء والسُّخرية من الدين؛ قال تعالى: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 140].
 
6- ممارسة السحر وتعلُّمه وتعليمه؛ قال تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102].
 
النوع الثاني: كفر النِّعَم؛ قال تعالى:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112]، فنِعَم الله - جل جلاله - من الخير على عباده لا تُعدُّ ولا تُحصى، هي كثيرة ومتنوعة؛ قال تعالى: ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]، وتقضي هذه الآية أنَّ الإنسان ظلوم لأنه يضع هذه النعم في الغالب في غير موضعها، وكفَّار لأنه لا يُحقِّق فيها أركان الشكر ليكون عبدًا شكورًا كما أراد الله - جل جلاله - منه أنْ يكون.
 
وعبادُ الله الشاكرون قليلون، كما أثبت ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 17]، وقِلَّة عباد الله الشاكرين إنما لأنهم يُخفِقون في أنْ يحقّقوا أركان الشكر؛ والتي هي ثلاثة أركان[2]:
الركن الأول: أنْ يقرَّ الإنسانُ ويعترف أنه في نعمة على الحال الذي هو عليه، فينظر إلى من هو أدنى منه في الدنيا فسيرى أنه في نعمة، ومثال ذلك من منحه الله عينًا واحدةً عليه أن ينظر إلى من لا عين له، ومن منحه الله مالاً وإن كان قليلاً، فلينظر إلى من لا يملك حتى ثمن رغيف الخبز؛ يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18].
 
الركن الثاني: أنْ يؤمن العبدُ إيمانًا راسخًا لا يقبل الشك أنَّ هذه النعمة من الله - جل جلاله - وحده لا من غيره، فلا يقل: بجهدي، أو بعلمي، أو بدهائي، أو بفضل فلان، ونحو ذلك، إنما الجهد وفلان أسبابٌ يجعلها الله - جل جلاله - لإيصال هذه النعمة للإنسان؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [النحل: 53].
 
لقد فهم نبيُّ الله سليمان عليه السلام هذا القصد حين قام ذلك الشخص بنقل عرش بلقيس أمامه، قبل أنْ يرتدَّ طرف عين سليمان عليه السلام؛ يقول الله - سبحانه وتعالى - في هذه القصة: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40].
 
الركن الثالث: أنْ ينفق هذه النعمة مهما كان شكلها وحجمها ونوعها في طاعة الله - جل جلاله - وليس في عصيانه أو في طاعة غيره، كما نرى كثيرًا من الناس ممن ينفق أو يسخِّر نعمًا كبيرة أسبغها الله - جل جلاله - عليه بغير ثمن، وبلا مسألة منه، وكان له حظٌّ وافرٌ منها، ولكنه يسخرها لخدمة بشر مثله لا يضرونه ولا ينفعونه؛ يقول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144].



[1] أساس البلاغة؛ الزمخشري، (1 / 547).


[2] انظر: تنميتنا الإسلامية، عبدالستار المرسومي (ص: 83 - 84).

شارك الخبر

المرئيات-١