أرشيف المقالات

من أخلاق الكبار

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2من أخلاق الكبار
قد يقف بين يدي النَّاس ناصحٌ أو واعظ يتكلَّم، ومن بين السامعين مَن له نصيب من العلم والمعرفة بما يُقال، فمن هؤلاء السامعين من يَمتطي رجليه ويلوي كتفيه ويَنصرف؛ لأنَّ المتحدث أقل منه علمًا أو سنًّا أو قدرًا!   ومنهم مَن يستمع لا لغرض الفائدة، ولكن حبسه أدبُه عن الانصراف، فيبقى يَستمع والمتكلِّم يمضي في كلامه، وإن كان أقل منه في كلِّ المقاييس، عن عطاء رحمه الله قال: "إنِّي لأسمع الحديثَ من الرجل وأنا أعلم به منه، فأُريه من نَفسي أنِّي لا أُحسن منه شيئًا"، وعنه قال: "إنَّ الشابَّ ليتحدث بحديث، فأسمع له كأني لم أسمعه، ولقد سمعته قبل أن يولد"[1].   ومنهم - وهم قليلون جدًّا - مَن يمكث في مكانه مستمعًا؛ ليَستفيد من الحديث، وإن كان في الذروة من العلم والفهم والدِّراية، وبينه وبين محدِّثه عشرات السنين المعرفية؛ لعلَّه يَجد في النَّهر ما لا يجد في البحر، وهذا والله العلم النافع، ففي مثل هذه المواطن تُعرف ثمرة العِلم الذي يُرجى به الله، ويراد منه تقويم النَّفس، إنَّه الأدب الجمُّ، والحرص على تلقِّي الحكمة ممَّن جاء بها، وإحسان الظنِّ بالنَّاس، وإساءة الظنِّ بالنَّفس، بعيدًا عن نزق العلم وغروره الذي يقصر صاحبه على استماع الأكثر علمًا، والأكبر سنًّا، والأعلى قدرًا! وهذا مرَض خطير، أُصيب به بعضُ طلاب العلم ومَن فوقهم، وسببه: الجهل والغفلة، ورفع النَّفس واحتقار غيرها، وإذا كان طالب العلم أو غيرُه يلازِم هذا الخُلق فلن ينبل في العلم والعمل، قال وكيع: "لا يَنْبُل الرجلُ حتى يكتبَ عمَّن هو فوقَه، ومن هو مثله، ومن هو دونه"[2]، ولا أعني بهذا الترغيبِ التزهيدَ في البحث عن العلوِّ اكتفاء بالنزول؛ وإنما أعني الحثَّ على التزيُّن بهذا الخُلق النبيل إذا تحدَّث متحدث، أو وجد من لديه علم أو عمل، فيستفاد منه، وإن كان دون السَّامع أو الآخِذ.   فلقد كان من أسباب برَكة علم السَّلف: أنَّ الواحد منهم ربما حمل العلمَ عن تلميذه، ومن هو أصغر منه سنًّا، فيتواضع بين يديه، ويَرمق مفيده بعين الإجلال والإكبار.   فليس شرطًا ألَّا يَجلس الإنسان مستمعًا إلَّا ليستفيد معرفةً جديدة من كلِّ حديث ومتحدِّث، ولو كان الأمر كذلك لتعطَّل كثير من الجُمع والجماعات؛ فالكلام في العلم والهدى له مَقصَدان رئيسان: الأول: تعلُّمٌ من جهل، والثاني: تَذكرة من غفلة، وفي كلِّ مقصد مقاصد متفرِّعة عنه.   وكم من عالمٍ نحرير، يَعلم العلمَ مسألةً مسألة تعلُّمًا وتعليمًا وتأليفًا، استفاد من إنسانٍ أقل منه بمفاوز في درجات العلم والعقل والعمل، حتى ربَّما انتفع بكلمةِ إنسان من عرض النَّاس وعامَّتهم؛ لأنَّ العالم يَعلم، لكنَّه قد ينسى ويَغفل، فيأتيه التذكير، ويحرص على العمل لكن قد يَعتريه فتورٌ وسَهو، فيحتاج إلى شحناتٍ جديدة تولِّد عنده النشاط من جديد، وتشحذ عزمه على الثَّبات والمضيِّ، وتنبِّهه من سِنَة كان يظنها من اليَقظة، وفي القرآن مثالان يدلَّان على استفادة ذي العلم علمًا ممَّن هو دونه، الأول في قوله تعالى: ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [المائدة: 31]، والثاني في قوله تعالى: ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ ﴾ [النمل: 22]، قال أحمد بن حنبل رحمه الله - في محنة خلق القرآن -: ما سمعتُ كلمةً منذ وقعتُ في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابيٍّ كلَّمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد، إن يقتلك الحقُّ متَّ شهيدًا، وإن عشتَ عشتَ حميدًا؛ فقوَّى قلبي[3].   وقال أيضًا: لستُ أبالي بالحبس، ما هو ومنزلي إلَّا واحد، ولا قتلًا بالسيف؛ إنما أخاف فِتنة السوط، فسمعه بعضُ أهل الحبس، فقال: لا عليك يا أبا عبدالله؛ فما هو إلَّا سوطان، ثمَّ لا تدري أين يقع الباقي! فكأنه سُرِّي عنه[4].   بل إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما توفِّي فثقل الحادِث على النَّاس، ما استطاعَت بعضُ الأذهان أن تَقبله من أول وهلة؛ ومن هؤلاء عمر رضي الله عنه، فقد قام في الناس يُنكر حدَث الموت، ويتوعَّد من يصدِّقه، فأجلسَه أبو بكر رضي الله عنه، وأسكتَه، فلم يفعل، فأنشأ أبو بكر يَخطب، وقرأ قوله تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144][5]، وعمر يَعلمها ويحفظها، ولكنَّه غفل عنها، فلمَّا سمعها رجع إلى التصديق.   فأقول: لا يستهيننَّ الإنسان بحديثٍ أو متحدث، وليتعلَّم ويعمل بأدَب الإنصات وتلقُّف الحكمة الشرود؛ فلعلَّ كلمة يَسمعها تكون سببَ الهداية في الحياة، أو منبهًا يوقِظ من غفلة.


[1] تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم (ص: 48). [2] الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث (ص: 21). [3] سير أعلام النبلاء (11/ 241). [4] المصدر السابق (11/ 240). [5] رواه البخاري (1/ 419).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١