أرشيف المقالات

علاج كثرة الجدال

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2علاج كثرة الجدال
1 - أن يبتغي في حديثه رضا الله تعالى، وهذا سبيل النجاة: وفي قصَّة كعب بن مالك ما يشهد لهذا؛ حيث قال رضي الله عنه: "فلمَّا بلغني أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجَّه قافلاً[1] من تبوك، حضرني بثِّي[2]، فطفقتُ[3] أتذكَّر الكذبَ، وأقول: بِمَ أخرجُ من سخطه غدًا؟ وأستعين على ذلك كلَّ ذِي رأيٍ من أهلي، فلما قيل لي: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا، زاح عنِّي الباطل، حتى عرفتُ أنِّي لن أنجو منه بشيء أبدًا، فأجمعتُ صدقَة، وصَبَّحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قَدِم من سفرٍ بدَأ بالمسجد، فركَع فيه ركعتين، ثمَّ جلس للنَّاس، فلمَّا فعل ذلك جاءه المخلَّفون فطفقوا يعتذرون إليه - وكانوا بضعة وثمانين رجلاً - فقَبِل منهم رسولُ الله علانيتَهم وبايَعَهم واستغفَر لهم، ووَكَل سرائرَهم إلى الله، حتى جئتُ، فلمَّا سلمتُ تبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضَب، ثمَّ قال: ((تعالَ))، فجئتُ أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي: ((ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعتَ ظهرَك[4]؟))، قال: قلتُ: يا رسول الله، إنِّي والله لو جلستُ عند غيرك مِن أهل الدنيا لرأيت أنِّي سأخرجُ من سخطه بعذرٍ، ولقد أُعطيتُ جدلاً، ولكنِّي والله لقد علمتُ لئن حدَّثْتُك اليومَ حديثَ كذبٍ ترضى به عنِّي، ليُوشكنَّ الله أن يُسْخِطَكَ عليَّ، ولئن حدَّثْتُك حديثَ صدقٍ تَجِدُ عليَّ فيه[5] إنِّي لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذرٌ، والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيسر منِّي حين تخلَّفْتُ عنك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمَّا هذا فقد صدق، فقُم حتى يقضيَ الله فيك))..." الحديث؛ (رواه البخاري ومسلم).   الشاهد من الحديث هو قول كعب بن مالك رضي الله عنه: "ولقد أُعطيتُ جدلاً، ولكنِّي والله لقد علمتُ لئن حدَّثْتُك اليوم حديثَ كذبٍ ترضى به عنِّي، ليُوشكنَّ الله أن يُسْخِطَكَ عليَّ، ولئن حدَّثْتُك حديثَ صدقٍ تَجِدُ عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله..."، وقد كان، فقد تاب الله عليه، فأنزل فيه وفي صاحبَيه قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة؛ فقال تعالى: ﴿ ...
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ...
﴾، إلى قوله تعالى: ﴿ ...يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 117 - 119].   2 - كسر الكِبر الباعث على الجدال المذموم: والكِبر: هو استعظام النَّفس، ورؤيةُ قدرِها فوق قَدْر الغير، ومَن تكبَّر فقد نازَع اللهَ في صفةٍ من صفاته، وهي الكبرياء، قال تعالى: ﴿ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الجاثية: 37].   • وفي "صحيح مسلم" أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: الكِبرياءُ ردائي، والعَظمة إِزاري، فمَن نازعني واحدًا منهما، ألقيتُه في جهنَّم ولا أبالي)).   • قال الخطابي رحمه الله كما في "عون المعبود" (11/150): "معنى هذا الكلام: أنَّ الكبرياء والعظمة صفتان لله سبحانه، واختصَّ بهما، لا يشركه أحدٌ فيهما، ولا ينبغي لمخلوقٍ أن يتعاطاهما؛ لأنَّ صِفة المخلوق التَّواضع والتَّذلُّل، أمَّا ضرب الرِّداء والإزار مثلاً في ذلك، يقول والله أعلم: كما لا يشرك الإنسان في رِدائه وإزارِه، فكذلك لا يَشركني في الكبرياء والعظمَة مخلوقٌ".
ا.هـ.   • والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرجه الإمام مسلم: ((الكِبرُ: بَطر الحقِّ[6]، وغمطُ النَّاس[7]))، فانظر ماذا فعل الكِبر فيهم؟ حرمَهم أخلاقَ المؤمنين؛ من التواضع، وكَظْم الغيظ، والعَفو، وبَسْط الوجه؛ بل دعاهم إلى الجِدال والمراء لإفحامِ الخصم، وازدراءِ واحتقار الغَير، فوقعوا بذلك في خطرٍ داهم، وشرٍّ ماحِقٍ.   3 - التواضع والاعتراف بالخطأ: وهذا العنصر له علاقةٌ بما قبله؛ فإذا تواضع الإنسان فإنه لا يقلِّل من شأن النَّاس، ويقبل النصيحةَ ويعترف بخطئه إذا أخطأ ويعود إلى الصَّواب، وقد مدح الله تعالى المتَّقين فقال: ﴿ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].   • وذكر ابن القيم في "مدارج السالكين" (2/ 269): "أنَّ أبا ذرٍّ رضي الله عنه عيَّر بلالاً رضي الله عنه بسَوادِه، ثمَّ ندِمَ فألقى بنفسِه فحلف: لا رفعتُ رأسي حتى يَطأ بلالٌ خدِّي بقدمَيه".   • وعدم الاعتراف بالخطأ يجعل الإنسانَ يردُّ الحقَّ، فكم من شيخٍ كبيرٍ، أو عالم مشهورٍ ناقشه تلميذٌ صغير في مسألة وتبيَّن له خطؤه، ولكنَّه لم يرجع إلى الحقِّ أَنَفَة وكبرًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكما قيل: لكنَّهم لم يسمعوا قولَ الهدى لمَّا أتى مِن أصغر الأبناءِ بل حارَبوه بكلِّ أمرٍ منكرٍ ورمَوه بالتقصيرِ والإعياءِ   • وانظر إلى سلفنا الصالح، كانوا يقبلون الحقَّ أينما كان: فها هو أبو حنيفة رحمه الله يقول: "تعلَّمتُ نُسُكَ الحَلْق من حلاَّق"، والإمام مالك رحمه الله يَرجع إلى قول تلميذِه الصغير محمد بن إدريس الشافعي في مسألةٍ من مسائل الطلاق.   وصدق الفُضيل بن عياض رحمه الله عندما سئل عن التواضع فقال: "أن تَخضع للحقِّ وتنقادَ له، ولو سمعتَه من صبيٍّ قَبلتَه، ولو سمعتَه من أجهل النَّاس قبلتَه".   4 - عدم تزكية النفس ورميِ الغير بالجهل والتقصير: فلا عبرةَ بتزكية الإنسان نفسَه أمام النَّاس؛ وإنَّما العبرة بمَن زكَّاه الله تعالى، قال تعالى: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32]، وفي "صحيح مسلم" أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تُزكُّوا أنفسَكم؛ الله أَعلم بأهلِ البرِّ))، وكان الصحابي الجليل عتبة بن غزوان رضي الله عنه يقول: "أعوذ بالله من أن أكون في نفسِي عظيمًا، وعند الله صغيرًا"؛ (صفة الصفوة: 1/147).   5 - أن يسكت إذا ما اشتهى الكلام، وألاَّ يتكلم إلا إذا اشتهى السكوت: فإنَّه عندئذٍ لن يتكلَّم إلا بحقٍّ.   تنبيه: مَن أراد تصحيحَ فِكْر، أو تصويب رأيٍ، أو تقديم نصيحة للإنسان، فليُقدِّمها بلطفٍ ولِين، وحبَّذا لو كانت في السرِّ، والأمر كما قيل: "النصيحة في العَلَن فضيحة"، وقال بعضهم: تعمَّدنِي بنصحِك بانفرادي وجنِّبْني النصيحةَ في الجماعَهْ فإنَّ النُّصح بين الناس نَوع من التوبيخ لا أَرضى استِمَاعَهْ   6 - معرفة شؤم وعاقبة الجدال، والآثار المترتبة عليه: أ- الجدال المذموم سببٌ للحرمان من البركات؛ فقد أخرج البخاريُّ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلةِ القَدْر، فتلاحى[8] رجلان من المسلمين، فقال: ((خرجتُ لأخبركم بليلةِ القَدْر، فتلاحى فلان وفلانٌ فرُفِعَت، وعسى أن يكون خيرًا، فالتمِسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)). ب- يورث البغضاءَ والكراهية. ج- الحرمان من السَّعادة التي يحظى بها الباحثُ عن الحقِّ. د- طول ممارسة الجدال المذموم يورِث التَّمادي في الباطل. ه- يؤدِّي إلى سوء العاقبة بالحرمان من المنزلة العالية في الجَنَّة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجَنَّة لمَن ترك المِرَاءَ وإن كان مُحِقًّا...))؛ (أخرجه أبو داود).


[1] قافلاً: راجعًا. [2] البث: الحزن، والمعنى: أني حزنتُ. [3] طفقتُ: بدأت. [4] ابتعت ظهرك: اشتريت دابةً للحرب. [5] تَجِدُ عليَّ فيه: أي تغضب عليَّ بسببه. [6] بطر الحق: إنكاره، والاستنكافُ عن قبوله، وردُّه. [7] غمط الناس: احتقارهم واستصغارهم وازدراؤهم. [8] تلاحى: تخاصَم وتنازع وتشاتم.



شارك الخبر

المرئيات-١