ونطق الكرسي كما نطق الحجر
ممدوح اسماعيل
أنا كرسى صُنِعت خصيصًا لأجل كل قعيد أقعده المرض عن السير والحركة والنشاط، ولكن عندما جلس الشيخ أحمد ياسين عليَّ وشممت رائحته الزكية وجدت رجلًا صحيح الفكر، قويَّ الهمة، روحه عالية. أتعبني بعزيمته وحيويته، وتأملت حولي فوجدت كراسي كثيرة ثابتة لا تتحرك بأربعة أرجل، صنعوها لاصحابها لتبقى جامدة لا تتحرك بهم، وجلس عليها رجال فكرهم مريض، وهمتهم ضعيفة، ونواباهم خبيثة، ولا نشاط لهم إلا في المظالم. أدمنوا أوامر الظلم والفساد، وبخلوا بالعمل الصالح. ظنوا أنهم مخلدون فالتصقوا بالكراسي، ورفعوا أرجل كراسيهم ليتعالوا على الناس، ولصقوا الذهب على المساند ليفتخروا، وتمايلوا على كراسيهم تكبرًا. أما ذاك الشيخ القعيد ـ رحمه الله ـ فما وجدت فيه إلا تواضعًا لكل الناس، وقلبًا منفتحًا محبًا للخير والفلاح. كنتَ قدوة للأصحاء تعمل فيعملون بعملك، تقول فيقولون بقولك، تصلي فيصلون معك. رأيتك تعلِّم مَنْ حولك كيف تكون المقاومة، ولم يكن لك حديث إلا عن الجهاد من أجل تحرير فلسطين. أرهقتني كثيرًا بسعيك للجهاد والاستشهاد، وكلما تلفَّتُّ بحثًا عن أصحاب الكراسي ذات الأربع أرجل لا العجلات أصحاء الجسد، مرضى القلوب، أجدهم يختبئون منك ويتحدثون عن حتمية الاستسلام، وأنه خيار ولا خيار سواه. ولا يفوتني أن أذكر كم كانت سعادتي وأنا بصحبتك في سجون اليهود، ولم أرَك في المحنة إلا صابرًا محتسبًا مؤمنًا بربك، واثقًا من طريقك لم تتزحزح عنه قيد أنملة في الوقت الذي يشم أصحاب الكراسي الأخرى رائحة المحن يُهرعون إلى المؤامرات والمؤتمرات. وعندما خرجت معك من السجن إلى غزة سعدت غزة وحق لها أن تسعد، وخرج الجميع يرحبون بالبطل القعيد، وفرحت أنا؛ فما أسعدها من صحبة أن تصاحب بطلًا في زمن شحت فيه البطولة! وكم أبكيتني يا شيخ المجاهدين وانت تبكي حزنًا على من فرطوا في فلسطين وفي أوسلو ومدريد، وسمعت أنفاسك ومناجاتك لربك وانت تسأله العون على مواصلة الجهاد رغم الخيانة والخائنين، ولا أنسى حكمتك في درء كل خلاف بين المجاهدين وحلمك على المخالفين من أبناء فلسطين، ويوم دنس السفاح أرض المسجد الاقصى سمعت منك زمجرة الأسد، فاهتزت عجلاتي وتخلخل الحديد في جنباتي وأنت تعلنها: لا بديل للجهاد، حيَّ على الجهاد؛ فانطلقت قوافل الاستشهاد وانتفاضة المجاهدين نحو تحرير فلسطين. ورغم المخاطر والصعوبات كنت في كل مكان بطلًا مجاهدًا، قائدًا تقود كتائب المجاهدين دون كلل ولا ملل، وكنت أتعجب وأفتخر بك وأنت المعذور عند الله، ومن لا عذر لهم يلهون ويخادعون مغرورين بكراسيهم ظنًا منهم أنها باقية تحميهم؛ فلا هي تبقى، ولا هم يبقون. وعندما أُطلقت صواريخ الباطل تعلن استشهاد أصحابك لم أرَ منك وهنًا ولا حزنًا، بل وجدتك مستبشرًا فرحًا بالشهداء واختيار الله لهم وصمودهم على الطريق حتى الموت، وكنت دائمًا تردد: نحن طلاب شهادة. واقتربت منك صواريخ الباطل تريد النيل منك، ونجَّاك الله؛ فما عرفت منك خوفًا ولا وجلًا، بل صممت على طلب الشهادة، وأراد محبوك أن تختبئ فكشفت صدرك للموت ساعيًا للشهادة، والتفتُّ إلى أصحاب الكراسي ذات الأربع أرجل الأصحاء فوجدتهم يتترسون بكل ما لديهم من سلاح وعتاد وحصون، حتى جاءت الساعة وكانت الأوجاع تشتد بجسدك الضعيف، ولكن قلبك كان أقوى من الجبال الرواسي، وروحك تهفو إلى السماء، وصلينا الفجر وخرجنا من المسجد، وأنت في طهر الملائكة تسبِّح الله القوي العزيز، واندفعت صواريخ الباطل تمزق جسدك الضعيف وأنا معك شاهدًا على بطولتك ونضالك، وتهاويت أنا على الأرض بعد ما تكسرت أجزائي، إلى السماء مع الخالدين. فلعلك نلتَ ما أردت يا أعظم قائد في عصر عُبَّاد الكراسي!
أما أنا فيكفيني أني كنت كرسي أحمد ياسين. لقد كنتُ كرسىًا لقائد عظيم وشيخ من شيوخ المجاهدين عاش ومات من أجل فلسطين والأقصى، وإني لفخور على كل الكراسي في العالم، فمَنْ مثلي عاش مع أحمد ياسين؟ فجُل الكراسي استعبدت جالسيها فضيعوا كل مبدأ وعقيدة وقيمة إلا أنا أتعبني صاحبي طوال حياته من أجل مبادئه وعقيدته حتى لحظة استشهاده تمزقتُ معه. وأخيرًا أتساءل: هل يتعظ عُبَّاد الكراسي، أم يقولون في سرهم: نحن لسنا مثل أحمد ياسين، ولن نعمل بعمله؛ فلن تُدَمَّرَ كراسينا. ومهما قالوا أو عملوا فلن يبقى لهم ذكر إلا بشرّ ما صنعوا. أما أنت فنحسبك شهيدًا يبقىك الذكر الطيب. والسلام عليك يا أحمد.
__________
(*) محام وكاتب إسلامي.
ونطق الكرسي كما نطق الحجر
ممدوح اسماعيل
أنا كرسى صُنِعت خصيصًا لأجل كل قعيد أقعده المرض عن السير والحركة والنشاط، ولكن عندما جلس الشيخ أحمد ياسين عليَّ وشممت رائحته الزكية وجدت رجلًا صحيح الفكر، قويَّ الهمة، روحه عالية. أتعبني بعزيمته وحيويته، وتأملت حولي فوجدت كراسي كثيرة ثابتة لا تتحرك بأربعة أرجل، صنعوها لاصحابها لتبقى جامدة لا تتحرك بهم، وجلس عليها رجال فكرهم مريض، وهمتهم ضعيفة، ونواباهم خبيثة، ولا نشاط لهم إلا في المظالم. أدمنوا أوامر الظلم والفساد، وبخلوا بالعمل الصالح. ظنوا أنهم مخلدون فالتصقوا بالكراسي، ورفعوا أرجل كراسيهم ليتعالوا على الناس، ولصقوا الذهب على المساند ليفتخروا، وتمايلوا على كراسيهم تكبرًا. أما ذاك الشيخ القعيد ـ رحمه الله ـ فما وجدت فيه إلا تواضعًا لكل الناس، وقلبًا منفتحًا محبًا للخير والفلاح. كنتَ قدوة للأصحاء تعمل فيعملون بعملك، تقول فيقولون بقولك، تصلي فيصلون معك. رأيتك تعلِّم مَنْ حولك كيف تكون المقاومة، ولم يكن لك حديث إلا عن الجهاد من أجل تحرير فلسطين. أرهقتني كثيرًا بسعيك للجهاد والاستشهاد، وكلما تلفَّتُّ بحثًا عن أصحاب الكراسي ذات الأربع أرجل لا العجلات أصحاء الجسد، مرضى القلوب، أجدهم يختبئون منك ويتحدثون عن حتمية الاستسلام، وأنه خيار ولا خيار سواه. ولا يفوتني أن أذكر كم كانت سعادتي وأنا بصحبتك في سجون اليهود، ولم أرَك في المحنة إلا صابرًا محتسبًا مؤمنًا بربك، واثقًا من طريقك لم تتزحزح عنه قيد أنملة في الوقت الذي يشم أصحاب الكراسي الأخرى رائحة المحن يُهرعون إلى المؤامرات والمؤتمرات. وعندما خرجت معك من السجن إلى غزة سعدت غزة وحق لها أن تسعد، وخرج الجميع يرحبون بالبطل القعيد، وفرحت أنا؛ فما أسعدها من صحبة أن تصاحب بطلًا في زمن شحت فيه البطولة! وكم أبكيتني يا شيخ المجاهدين وانت تبكي حزنًا على من فرطوا في فلسطين وفي أوسلو ومدريد، وسمعت أنفاسك ومناجاتك لربك وانت تسأله العون على مواصلة الجهاد رغم الخيانة والخائنين، ولا أنسى حكمتك في درء كل خلاف بين المجاهدين وحلمك على المخالفين من أبناء فلسطين، ويوم دنس السفاح أرض المسجد الاقصى سمعت منك زمجرة الأسد، فاهتزت عجلاتي وتخلخل الحديد في جنباتي وأنت تعلنها: لا بديل للجهاد، حيَّ على الجهاد؛ فانطلقت قوافل الاستشهاد وانتفاضة المجاهدين نحو تحرير فلسطين. ورغم المخاطر والصعوبات كنت في كل مكان بطلًا مجاهدًا، قائدًا تقود كتائب المجاهدين دون كلل ولا ملل، وكنت أتعجب وأفتخر بك وأنت المعذور عند الله، ومن لا عذر لهم يلهون ويخادعون مغرورين بكراسيهم ظنًا منهم أنها باقية تحميهم؛ فلا هي تبقى، ولا هم يبقون. وعندما أُطلقت صواريخ الباطل تعلن استشهاد أصحابك لم أرَ منك وهنًا ولا حزنًا، بل وجدتك مستبشرًا فرحًا بالشهداء واختيار الله لهم وصمودهم على الطريق حتى الموت، وكنت دائمًا تردد: نحن طلاب شهادة. واقتربت منك صواريخ الباطل تريد النيل منك، ونجَّاك الله؛ فما عرفت منك خوفًا ولا وجلًا، بل صممت على طلب الشهادة، وأراد محبوك أن تختبئ فكشفت صدرك للموت ساعيًا للشهادة، والتفتُّ إلى أصحاب الكراسي ذات الأربع أرجل الأصحاء فوجدتهم يتترسون بكل ما لديهم من سلاح وعتاد وحصون، حتى جاءت الساعة وكانت الأوجاع تشتد بجسدك الضعيف، ولكن قلبك كان أقوى من الجبال الرواسي، وروحك تهفو إلى السماء، وصلينا الفجر وخرجنا من المسجد، وأنت في طهر الملائكة تسبِّح الله القوي العزيز، واندفعت صواريخ الباطل تمزق جسدك الضعيف وأنا معك شاهدًا على بطولتك ونضالك، وتهاويت أنا على الأرض بعد ما تكسرت أجزائي، إلى السماء مع الخالدين. فلعلك نلتَ ما أردت يا أعظم قائد في عصر عُبَّاد الكراسي!
أما أنا فيكفيني أني كنت كرسي أحمد ياسين. لقد كنتُ كرسىًا لقائد عظيم وشيخ من شيوخ المجاهدين عاش ومات من أجل فلسطين والأقصى، وإني لفخور على كل الكراسي في العالم، فمَنْ مثلي عاش مع أحمد ياسين؟ فجُل الكراسي استعبدت جالسيها فضيعوا كل مبدأ وعقيدة وقيمة إلا أنا أتعبني صاحبي طوال حياته من أجل مبادئه وعقيدته حتى لحظة استشهاده تمزقتُ معه. وأخيرًا أتساءل: هل يتعظ عُبَّاد الكراسي، أم يقولون في سرهم: نحن لسنا مثل أحمد ياسين، ولن نعمل بعمله؛ فلن تُدَمَّرَ كراسينا. ومهما قالوا أو عملوا فلن يبقى لهم ذكر إلا بشرّ ما صنعوا. أما أنت فنحسبك شهيدًا يبقىك الذكر الطيب. والسلام عليك يا أحمد.
__________
(*) محام وكاتب إسلامي.