شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (6)
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني في العقيدة (6)مقدمة ابن أبي زيد لكتابه "الرسالة"
تأليف الإمام: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت 386)
شرح: فضيلة الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
فوائد قبل الشروع في الدرس الثاني:
الإيمان المتعلق بالأسماء والصفات والربوبية محله الاعتقاد بالجنان، والنطق باللسان.
مسائل الإيمان، وهي التوحيد والعبادة، محلها النطق باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، ولهذا الإيمان عند أهل السنة يقوم على هذه الأركان الثلاث؛ فهو قول باللسان، واعتقاد بالجَنان، وعمل بالأركان، من أخرج شيئًا من هذه الثلاث فقد خالف أهل السنة، وأضحى من المرجئة،الوعيدية من الخوارج والمعتزلة قالوا: إن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، ولكن عندهم الإيمان قولًا واعتقادًا وعملًا شيء واحد، إذا زال زال جميعه، وإذا وجد وجد جميعه؛ ولهذا لم يقولوا: إن الإيمان يتبعض، ولم يقولوا بأن الإيمان يزيد، ولم يقولوا بأن الإيمان ينقص، ولم يقولوا بأن الإيمان يستثنى به، بل جعلوه شيئًا واحدًا، إذا ذهب بعضه ذهب باقيه، وإذا وجد بعضه وجد باقيه، وهذا هو خلافهم مع أهل السنة، أهل السنة عندهم الإيمان إذا ذهب بعضه يبقى الباقي إلا أن يذهب أصله، وهذا أمر يجب أن يفهم بين أهل السنة وبين الوعيدية،والوعيدية طبقتان: الخوارج والمعتزلة، ذكرنا لكم بالأمس أن المعتزلة أصولهم خمسة: الذي يسمونه التوحيد، وهو إنكار الصفات، إنكار القدر، ويسمونه بالعدل، إنفاذ الوعيد، ومعناه أن صاحب الكبيرة في الآخرة في النار، خالدًا مخلدًا فيها، القول بالمنزلة بين المنزلتين، وهو من فعل المعصية الكبيرة في الدنيا خرج من الإسلام ولم يدخل في الكفر، بل في محطة بينهما، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الخروج على أئمة الجَور إن قدروا على ذلك،وأنا أحب يا إخوان أن تعرفوا في هذه المسائل: حقيقة قول الوعيدية في الإيمان، وتفرقوا بينه وبين قول أهل السنة، أهل السنة لما قالوا: إن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجَنان، وعمل بالأركان، وافقهم أولئك في هذا المسمى، لكن خالفوهم في أصل عظيم في فهم هذا القول على حقيقته، فعند الوعيدية: الإيمان إذا زال بعضه، زال باقيه؛ ولهذا عندهم الإيمان لا يتبعض، وعندنا يتبعض، عندهم الإيمان ما يزيد، وعندنا الإيمان يزيد بالطاعات، عندهم الإيمان ما ينقص، نقصه ذهابه، وعندنا الإيمان ينقص بالمعاصي، عندهم الإيمان ما يجوز أن يستثنى فيه، وعندنا يجوز الاستثناء في الإيمان ما لم يكن على سبيل الشك، في المراتب الأربع التي ذكرها العلماء في الاستثناء في الإيمان، وهذه مسألة مهمة في الفرق بين حقيقة قول أهل السنة وحقيقة قول الوعيدية، وإن تشابه القولان في الصورة، ولكنهما اختلفا في الأصل والحقيقة، المرجئة في الإيمان ذكر العلماء أنهم ينقسمون إلى ثنتي عشرة، كما ذكر صاحب المقالات، أشهرهم أربع أو خمس فرق نذكرهم على سبيل الإجمال، نبدأ من دركاتهم السفلى، الصنف الأول: غلاة المرجئة، وهم الجهمية، قالوا: إن الإيمان هو المعرفة، من عرف الله فهو مؤمن، إذا جهل بالله فهو كافر، إبليس على مذهبهم مؤمن، ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الأعراف: 16]، ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82، 83]؛ إذًا إبليس يعرف ربه، فرعون يكون عندهم مؤمنًا؛ لأنه يعرف ربه، كما قال الله جل وعلا في سورة النمل: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]، وفي سورة سبحان، سورة الإسراء في آخرها، يقول الله عن موسى عليه السلام: ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [الإسراء: 102]، فرعون علم أنه ما أنزلها إلا رب السموات والأرض بصائر، من فروع هذا المذهب الخبيث أن يكون أبو طالب مؤمنًا وليس بكافر، فكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبوا كلام الله؛ لأن أبا طالب يعرف النبي ويعرف صدقه:
لقد علِموا أن ابنَنا لا مكذَّب
لدينا ولا يُعنَى بقول الأباطل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
تلوذ به الهلّاك من آل هاشم
فهم عنده في نعمة وفواضل
وهو القائل:
ولقد علمت بأن دين محمد
من خير أديان البرية دينَا
لولا الملامة أو حذار مسبة
لوجدتني سمحًا بذاك مبينَا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي
ولقد صدقت وكنت ثم أمينَا
هذا قول غلاة المرجئة، وهم الجهمية، الجهم عطَّل صفات الله، وأثبت أن الله موجود وجودًا مطلقًا، والوجود المطلق فقط في الذهن، إذًا يكون الجهم على مذهبه كافرًا؛ لأنه جهل ربه في أسمائه وصفاته، حتى في وجود الله جل وعلا، الصنف الثاني: الذين قالوا: الإيمان هو التصديق، التصديق يكون بالقلب، والكفر عندهم هو التكذيب الذي هو ضد التصديق، وهذا هو قول الأشاعرة، وقد شابهوا الجهمية في أصول في القدر، الجهمية جبرية، وهؤلاء عندهم الكسب، في الصفات: الجهمية نفوا الأسماء والصفات، وهؤلاء نفوا بعض الصفات، في باب الإيمان الجهمية قالوا: إن الإيمان هو المعرفة، وهؤلاء قالوا: إن الإيمان هو التصديق، فيكون الكفر عندهم بتكذيب القلب؛ ولهذا من حصر الكفر في التكذيب شابه في الحقيقة قول الأشاعرة، درى أم لم يدر، الأشاعرة عندهم الإيمان هو تصديق القلب، فإذا كذب القلب يكون كافرًا، وهذا ليس لدينا إليه سبيل، حتى يصرح به بلسانه ويستحله بلسانه؛ ولهذا ينتج عن قول الأشاعرة مذهب الإرجاء؛ ولهذا تجد من هؤلاء من عوامهم من إذا أمروا بالمعروف أو نهوا عن المنكر أو حملوا على الطاعات، أو حذروا من المعاصي قالوا: اتركونا، الإيمان في القلب، نحن نقول: لا إله إلا الله، هذا هو ثمرة هذا الأصل الفاسد في الإيمان، الطائفة الثالثة: هم الماتريدية، وهذا قول أبي منصور الماتريدي، أن الإيمان هو الاعتقاد بالقلب، والنطق باللسان ركن زائد ليس بأصلي، النطق باللسان لا بد منه، ولكن ليس عليه المعول، وهذا القول في حقيقته يرجع إلى قول الأشاعرة؛ ولهذا الأشاعرة والماتريدية يكادان أن يكونا واحدًا، إن كان في الصفات، وإن كان في مسائل الإيمان، الطائفة الرابعة: الذين قالوا: إن الإيمان هو النطق باللسان، من قال: لا إله إلا الله فهو مؤمن، وإن لم يصلِّ، وإن لم يصُمْ، وإن اعتقد الاعتقاد الباطل، لكن ما دام أنه نطق بلا إله إلا الله فهو مؤمن، وهذا قول الكرَّامية، عامة المرجئة، أتباع محمد بن كرام السجستاني ت255، وقولهم: إن الإيمان هو النطق فقط، وأقبح لوازم هذا القول أن يكون المنافقون مؤمنين، المنافقون يقولون: لا إله إلا الله، بل من أقبح لوازمه: أنه لو كان الإيمان مجرد النطق، لقال مشركو العرب: لا إله إلا الله، وسلموا من القتل والمهاجرة، والمنابذة والعداوة، وحفظوا دماءهم وأموالهم وكرامتهم، ولكن أولئك كانوا أعرف بالإيمان من هؤلاء؛ لأنهم عرفوا أنهم إذا نطقوا بالإيمان لا بد أن يعملوا به، ويعتقدوا موجبه، فكانوا بهذا الإيمان أعرف من هؤلاء الكرامية، الطائفة الخامسة: هم مرجئة الفقهاء، مرجئة الرأي، فقهاء العراق، الذين قالوا: إن الإيمان اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وباطلهم في أنهم أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، لكن هؤلاء إذا نظرنا إلى كتبهم الفقهية وتقريراتهم، نجدهم رتبوا على ترك العمل الجزاءات والعقوبات في الدنيا وفي الآخرة، وهذا وجه من قال من العلماء: إن الخلاف بيننا وبينهم خلاف لفظي، فقط في المسمى، أما في الحقيقة فلا، وشيخ الإسلام ابن تيمية في الإيمان الكبير، وفي الكيلانية، وفي بيان التلبيس وغيرها، حقق هذا القول، هل الخلاف بين مرجئة الفقهاء وأهل السنة خلاف لفظي صوري؟ أو خلاف حقيقي مؤثر؟ ففصل القول رحمه الله، فقال: إن الخلاف في أكثر أحواله وصوره لفظي، إلا إذا ترتب عليه مسائل، فإذا قال هؤلاء: لا يجوز الاستثناء في الإيمان، فالخلاف عندئذ يكون حقيقيًّا، إذا أخرجوا العمل عن أن يكون مؤثرًا في الإيمان زيادة أو نقصانًا، فالخلاف حقيقي، إذا قالوا: إن الإيمان ما يزيد بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي، فالخلاف والحالة هذه حقيقي، هذا هو ملخص المذاهب في مسألة الإيمان، وأهل السنة أجمعوا، كما حكى ذلك الإمام أحمد، وحكاه ابنه عبدالله، وحكاه الخلال، وحكاه محمد بن نصر المروزي، وحكاه ابن خزيمة، وابن بطة، واللالكائي، والآجري في الشريعة، وحكاه أيضًا ابن تيمية وابن القيم: أن الإيمان قول وعمل، قول باللسان، وقول بالقلب، وعمل بالجوارح، وعمل بالقلب؛ ولهذا فصل بأنه قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ينبني على خمسة أصول على التفصيل، أما عند الإجمال الذي نقل عن السلف أنه قول وعمل، قول اللسان، وقول القلب، قول القلب هو الاعتقاد، إيمانه بأسماء الله وصفاته، ووحدانيته وذاته، والعمل عمل القلب، مثل التوكل والخشية والإنابة، والخوف والرجاء، وعمل الجوارح كالصلاة والجهاد؛ ولهذا الله عز وجل يقول في الصلاة لما حولت القبلة: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ [البقرة: 143]، ومعنى الإيمان هنا بإجماع العلماء هو الصلاة، فسمى الصلاة إيمانًا؛ لأن الصلاة إيمان، ودلائل هذا كثيرة، ولا أخرج عن المقصود، وأرجع إلى ما نحن فيه.