أرشيف المقالات

أخلاق العرب قبل الإسلام: الجود والإيثار

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
2أخلاق العرب قبل الإسلام
الجود والإيثار
 
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فما زِلنا مع هذه السلسلة الماتعة، سلسلة أخلاق العرب قبل الإسلام، وقد تحدثنا في اللقاء الماضي حول حاتم الطائي، وأظنكم قد سحركم الحديث حول حاتم كما سحرني، ونال إعجابكم كما نال إعجابي، حتى ربما قلتم: إن هذا ضربٌ من الخيال، أو إن هذا رجل قد صنعه خيال الأدباء، وقلتم: محال أن يكون مثل هذا الرجل قد وُجد في هذه الأرض، أو قد مر بها يومًا من الدهر.
 
لكن هذا العجب سيزول حينما تعلمون أن حاتمًا لم يكن فريدَ عصره، ولا واحدَ دهره، وأن له ضُرباءَ ربما ساوَوه في الكرم، وربما زاد بعضهم عليه، فحاتم كان وليدَ بيئة تتغنى بالكرم، وتُجِلُّ الكرماء وتُعظِّمهم، ويفوح عبير الكرماء في أرجائها، فحيثما سرَّحتَ طَرْفَكَ يمنة أو يسرة ستجد من الكرماء ما لا يسعهم الحصر، ولا يدخلون تحت العدِّ، وهذا ما سنراه اليوم في مقالتنا هذه.
 
ربما تعجب إذا قلت لك: إنني سأبدأ الحديث اليوم بمن هو أكرم من حاتم الطائي، وستقول لي: كيف تدَّعي أن هناك من هو أكرم من حاتم؟ أبَعْدَ ما حدثتنا عن كرمه الذي بلغ حد الإيثار، بل بلغ حد أن يقول: إنه إذا نزل به ضيفٌ، ولم يجد له قِرًى قطع له بعض أطرافه:
وإن لم أجدْ لنزيلي قِرًى *** قطعتُ له بعض أطرافِيَهْ
 
أبعد هذا تريد منا أن نُصدقك فيما ذهبت إليه، من أن في العرب من هو أكرم من حاتم؟ ما أراك إلا هازلًا غيرَ جادٍّ فيما تقول، أو أن قراءتك في كتب الأدب والشعر قد جعلتك تحلق في سماء الخيال، وتركن إلى مبالغات الشعراء، وخيالات الأدباء.
 
أقول لك يا صاحبي: لقد اتهمتني بما أنا منه بَرَاءٌ، وهل بيني وبينك إلا أن أرويَ لك ما ذكره سادتنا الأدباء في كتبهم التي هي المرجع لهذه الحِقبة من تاريخ أمتنا العربية؟
 
أراك تقول مرغمًا: سلَّمتُ لك، شريطة أن تسرد عليَّ مواقفهم، دون أن تغاليَ في مدحهم، وأن تترك لي الحكم عليهم، والإعجاب بهم أو عدم الإذعان لهذا الذي ذهبت إليه.
 
قلت: لك ذلك، فهلمَّ نبدأ؛ لأن قارئنا الكريم ربما استثقل هذه المقدمة الطويلة وهذا الحوار المُمل، فلنبدأ بحاتم وشهادته لغيره بأنه أكرم منه.
 
سأل رجلٌ حاتمًا فقال: هل رأيت من هو أكرم منك؟
قال حاتم: نعم، غلامٌ يتيم من طيئ، مررت بفنائه فدعاني، فنزلت ضيفًا عليه، وكان له عشرة أرؤس من الغنم، فلما صرت في بيته، ذبح لي شاة من غنمه، وكان فيما قدمه لي الدماغ، فاستطيبتُهُ، فقلت: ما أطيب الدماغ! فانسلَّ خفيفًا من بين يدي، وذبح شاة أخرى، ثم قدم لي الدماغ، فأكلته، ثم جعل يصنع ذلك حتى أتى على غنمه كلها، وأنا لا أعلم بما يفعله، فلما قمت من عنده، رأيت دماءً كثيرة، والشياه إلى جوارها، فقلت: ما هذا؟ فقال: هذه غنمي، فقلت: ذبحتَها كلها؟ قال: نعم، قلت: ما حملك على هذا؟ قال: لأنك استطيبتَ الدماغ، وما كنت لتستطيبَ شيئًا، ثم لا أقدمه لك، فقال حاتم: أُلام على السخاء، وهذا الفتى أسخى مني.
 
فقال له الرجل: فما كافأتَهُ؟
قال حاتم: أعطيته ثلاثمائة رأسٍ من الإبل، وخمسمائة رأس من الغنم.
 
فقال الرجل: أنت أكرم منه.
فقال حاتم: بل هو أكرم مني؛ لأنه جاد بكل ما يملك، وأنا جُدْتُ ببعض ما أملك.
 
فهذا فتًى يتيم، شهِد له حاتم بأنه أكرم منه، وكم في الزوايا من خبايا؟
فقال لي صاحبي: لا أستطيع أن أكتمك إعجابي بكرم هذا الفتى، وعلوِّ قدره، ولا أستطيع أن أُخفيَ تعجبي من حرصك على تسجيل الفوز عليَّ، وكأنك في مباراة تريد أن تُسجل الفوز فيها.
 
فقلت لصاحبي: ما ستراه بعدُ من كرم العرب قبل الإسلام سيجعلك أكثر إعجابًا بهم مني، حتى تقول معي:
ما أعظم هؤلاء! لو أدركوا الإسلام لكان لهم شأن عظيم.
 
أُرجئ يا صاحبي، ويا سادتي القُرَّاء بقيةَ الحديث للقاءٍ قادمٍ؛ خشيةَ السآمة عليكم، ولأن كثرة الحديث ينسي بعضه بعضًا.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١