أرشيف المقالات

من آثار الإيمان باسم الله تعالى: الغفور (3)

مدة قراءة المادة : 20 دقائق .
من آثار الإيمان باسم الله تعالى: الغفور (3)

11- لولا مغفرة الله تعالى لهلكنا:
قد يعتقد البعض أن شؤم المعصية قاصر على العاصي، والحق أن شؤم المعاصي أعظم من ذلك بكثير؛ فإنه طريق الخسران والبوار، وسبب لهلاك الحرث والنَّسل والديار، ولولا مغفرته جلَّ في علاه، لكنا في خبر كان، ولحلَّ بنا غضبُ ذي الجلال والسلطان؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ [النحل: 61]، ويقول جل في علاه: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ [فاطر: 45].
 
يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى: " ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [النجم: 32]، فلولا مغفرته لهلكَت البلاد والعباد، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض، ولما ترك على ظهرها من دابة"[1]، ويقول في موضع آخر: "﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 173]؛ أي: وصفه المغفرة والرحمة اللتان لا يخلو مخلوق منهما، بل لا بقاء للعالم العلوي والسفلي إلا بهما، فلو يؤاخذ الله الناس بظلمهم، ما ترك على ظهرها من دابة"[2].
 
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41]، فانظر كيف ختَم سبحانه هذه الآية باسمه الغفور، فلولا مغفرته سبحانه وتجاوزُه عن العصاة والمذنبين، لزالت السماوات والأرض بأمره، فلا تسَل عند ذاك عما يحل من الدمار والهلاك!
 
فالله عز وجل يخبر في هذه الآية عن كمال قدرته، وتمام رحمته، وسعة حلمه ومغفرته، وأنه تعالى يمسك السماوات والأرض عن الزوال، فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحدٌ من الخلق، ولعجزتْ قدرتُهم وقواهم عنهما، ولكنه تعالى قضى أن يكونا كما وُجِدا؛ ليحصل للخلق القرار والنفع والاعتبار، وليعلموا من عظيم سلطانه وقوة قدرته ما به تمتلئ قلوبهم له إجلالًا وتعظيمًا، ومحبةً وتكريمًا، وليعلموا كمال حِلمه ومغفرته بإمهال المذنبين، وعدم معالجته للعاصين، مع أنه لو أمر السماء لحصبتْهم، ولو أذِن للأرض لابتلعتْهم، ولكن وسعتهم مغفرته، وحلمه وكرمُه: ﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44] [3].
 
12- قد تتعدى مغفرة الله تعالى للعبد إلى إبدال سيئاته حسنات:
فما أكرمه من كريم، وما أرحمه من رحيم، وما أجلَّه من غفور، يذنب المذنب ويسيء المسيء، فيأتي ربَّه تائبًا، فلا يقابله بالمغفرة فحسب، بل يُبدل سيئاته حسنات، فمن "فضله وجوده وكرمه أن تعهد بأن يبدل سيئات المذنبين إلى حسنات؛ قال تعالى عن التائبين: ﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]"[4].
 
فتتبدل "أفعالهم وأقوالهم التي كانت مستعدة لعمل السيئات تتبدل حسنات، فيتبدل شركُهم إيمانًا، ومعصيتهم طاعة، وتتبدل نفس السيئات التي عملوها، ثم أحدثوا عن كل ذنبٍ منها توبة وإنابة وطاعة تبدل حسنات كما هو ظاهر الآية..."[5].
 
"وما ذاك إلا أنه كلما تذكَّر ما مضى، ندم واسترجع واستغفر، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار، فيوم القيامة وإن وجده مكتوبًا عليه، لكنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته، كما ثبتت السنة بذلك، وصحت به الآثار المروية عن السلف، رحمهم الله تعالى"[6].
 
ومن هذه الآثار ما صح عن المصطفى المختار عليه أفضل الصلاة والسلام ما تعاقب الليل والنهار: "إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا من النار، وآخر أهل الجنة دخولًا إلى الجنة، يؤتى برجل، فيقول: نَحُّوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا؟ فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئًا، فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول: يا رب، عملت أشياءَ لا أراها ها هنا"، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه"؛ رواه مسلم.
 
و عن أبي طَويلٍ شَطَبٍ المَمدُودِ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت رجلًا عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئًا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجَةً إلا أتاها، فهل له من توبة؟ قال: "فهل أسلمت؟"، قال: أما أنا فأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله، قال: نَعَم، تفعلُ الخيرات، وتتركُ السيئات، فيجعلُهنَّ اللهُ لكَ خيراتٍ كلَّهنَّ، قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: نعم، قال: الله أكبر! فما زال يكبر حتى توارى"[7].
 
13- عدم الاغترار بمغفرة لله تعالى والإسراف في المعاصي:
كما هو حال كثير من أهل الإسلام[8]، فتجد الكثيرين يغترون بسَعة مغفرة الله تعالى وعِظم رحمته، فيتمادى الواحد منهم في العصيان، ويسرف في الآثام، محتجًّا بقول العزيز المنان: " ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحجر: 49]، ومتغافلًا عن الإتمام: ﴿ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 50]، وهذا من الإرجاء المذموم الملام، القائم على الإفراط في الرجاء وتغليبه على الخوف من العزيز الديان.
 
وقد ذكر الله تعالى أن من صفات المتقين: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135]؛ "أي: إذا صدر منهم أعمال سيئة كبيرة، أو ما دون ذلك، بادروا إلى التوبة والاستغفار، وذكروا ربَّهم، وما توعَّد به العاصين ووعَد به المتقين، فسألوه المغفرة لذنوبهم، والستر لعيوبهم، مع إقلاعهم عنها وندمهم عليها، فلهذا قال: ﴿ ﴿ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135]"[9].
 
فالمسلم لا يجوز له "أن يسرف في الخطايا والمعاصي والفواحش بحجة أن الله غفور رحيم، فالمغفرة إنما تكون للتائبين الأوَّابين؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 25]، وقال سبحانه: ﴿ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النمل: 11].
 
فاشترط تبدُّل الحال من عمل المعاصي والسيئات إلى عمل الصالحات والحسنات؛ لكي تتحقق المغفرة والرحمة..."[10].
 
14- من الفروق بين مغفرة الله تعالى ومغفرة غيره:
أ- مغفرة الله تعالى لعباده تكون عن علم بذنوبهم، وإحاطة بمعاصيهم، بخلاف المخلوق فإنه إن غفر للمخطئ في حقِّه، فقد يغفر دون إحاطة بتفاصيل ذنب المخطئ، ولو علِم عِظَمَ ما كان يُسره المخطئ من الكيد له في صدره وسوء طَويته، ما غفر له البتة!
 
أما الله تعالى فقد علِم الذنوب والمعاصي بتفاصيلها وجزئياتها وملابساتها؛ فهو الذي يعلم السر وأخفى، ومع ذلك فإنه يغفر عن علم تام سبحانه، وقد ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يدعون الله تعالى بقولهم: "رب اغفِر وارحَم، وتجاوَز عما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأكرم"[11].
 
ب- مغفرة الله تعالى تكون تامة دون منٍّ ولا عتاب، بخلاف المخلوق فإنه قد يغفر عن بعض الإساءة دون بعض، وقد يمن بل، يعاتب المذنب في حقه ولو بعد حين.
 
ت- مغفرة الله تعالى تتضمن سترَه سبحانه على عبده المذنب، بخلاف المخلوق فإنه قد يغفر لمن أساء له، ثم ما يلبث أن يهتكَ ستره ويفضَحه، خاصة إذا صدر منه أمر يقلقه.
 
ج- مغفرة الله تعالى للعبد تضمن محوَ ذنبه وإزالة سيئاته، بل ربما قد تبدل حسنات إذا صدَقت توبته، وهذا ما لا يملكه المخلوق ولا يستطيعه، فإنه قد يغفر ويصفح عن المسيء في حقه، لكنه لا يملك محوَ الذنب من صحيفته ولا تغييره إحسانًا.
 
ومن الفروق:
15- مغفرة الله تعالى لعباده إنما هي محض فضل:
اتصاف الله جل وعلا بالمغفرة، إنما هو محض فضل ورحمة منه سبحانه بعباده، وليس ذلك عن حاجة منه سبحانه لهم، فهو الغني عنهم، بل الغني عن العالمين؛ كما قال عز شأنه: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]، وكل ما سواه فقير إليه؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]، أما المخلوق فقد يغفر لمصلحة وحاجةٍ واضطرار!
 
كما أن مغفرته لهم ليست عن خوف منهم، فهو القوي العزيز القهار الجبار الذي قهر كل شيء، وغلب كل شيء، فلو شاء أن يهلك أهل السماوات والأرض لفعَل ولم يمنعه أحدٌ، ولعل هذا هو السر في اقتران اسم الله تعالى "الغفور" باسمه سبحانه "العزيز"؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]، وقوله تعالى: ﴿ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾ [الزمر: 5]، فهو سبحانه يغفر لعباده مع كمال عزَّته، فهو الغفور الغفار مع عزة لا ذلَّ فيها ولا هوان، خلافًا للمخلوق فإنه قد يغفر عن ذل وخوف أو عجزٍ.
 
وإذا تأملنا قول البارئ سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 135]، علِمنا حقًّا أنه سبحانه هو الذي يملك الغفران دون غيره.
 
16- دعاء الله تعالى بأسمائه: الغفور الغافر الغفار:
يقول الله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180]، فأمرنا سبحانه بدعائه بأسمائه، وهذا الدعاء كما أسلفت ثلاثة أنواع:
دعاء مسألة، ودعاء ثناء، ودعاء عبادة:
أ- سؤال الله تعالى بأسمائه: الغفور الغافر الغفار:

وذلك بأن يسأل العبد ربَّه المغفرة، متوسلًا بأسمائه الدالة على صفة المغفرة، فالتوسل بذلك بين يدي الدعاء من أقوى ما يعين على تحقُّق الإجابة، وذلك كأن يقول: اللهم يا غفور، اغفِر لي، أو يا غفار اغفِر لي، أو يا غافر الذنب اغفِر لي.
 
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأمر عباده أن يسألوه بأسمائه وصفاته، ففتح لهم باب الدعاء رغبًا ورهبًا؛ ليذكره الداعي بأسمائه وصفاته، فيتوسل إليه بها، ولهذا كان أفضل الدعاء وأجوبه ما توسَّل فيه الداعي إليه بأسمائه وصفاته؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180]"[12].
 
ومن ذلك ما علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم الصديق رضي الله عنه: "قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفِر لي مغفرة من عندك، وارحَمني إنك أنت الغفور الرحيم"؛ متفق عليه.
 
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "والدعاء ثلاثة أقسام: أحدها أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته:
وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾.
 
والثاني أن تسأله بحاجتك وفقرك وذُلِّك، فتقول: أنا العبد الفقير المسكين البائس الذليل المستجير، ونحو ذلك.
 
والثالث أن تسأل حاجتك، ولا تذكر واحدًا من الأمرين، فالأول أكمل من الثاني والثاني أكمل من الثالث، فإذا جمع الدعاء الأمور الثلاثة كان أكملَ!
 
وهذه عامة أدعية النبي، وفي الدعاء الذي علمه صِديق الأمة رضي الله عنه ذكر الأقسام الثلاثة، فإنه قال في أوله: ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، وهذا حال السائل، ثم قال: وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وهذا حال المسؤول، ثم قال: فاغفر لي، فذكر حاجته، وختم الدعاء باسمين من الأسماء الحسنى تناسب المطلوب وتقتضيه"[13].
 
ب- الثناء على الله بأسمائه: الغفور الغافر الغفار:
وذلك بأن يثني على ربه بصفة المغفرة ويحمده عليها، فهو سبحانه يحب أن يحمد ويُثنى عليه، وهو أهلٌ لكل حمدٍ وثناء جل جلاله.
"فلا يُثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وكذلك لا يسأل إلا بها"[14].
 
ج- التعبد بأسماء الله: الغفور الغافر الغفار:
من أعظم ما يجب أن يعتني به العبد في باب الأسماء الحسنى أن يعلم كيف يتعبَّد الله بها، فذلك من أجلِّ القُربات وأعظم الطاعات.
فكيف نحقِّق التعبد بأسماء الله تعالى: الغفور الغافر والغفار؟
يتم ذلك بأمرين:
• الأول: طرق أبواب المغفرة بكل أشكالها، فتعبُّد العبدِ باسم الله الغفور يقتضي أن يجدَّ في تحصيل أسباب المغفرة بصدق وحسنِ ظنٍّ بربِّه، فالله تعالى عند ظن عبده به، فليوقن أنه مهما أذنب ومها عصى، فمغفرة الله أعظم، وهي شاملة لذنوب العباد ما لم تصل إلى حدِّ الشرك.
 
فكلما أذنب بادَر بالتوبة والاستغفار، والإكثار من الحسنات؛ فإنهنَّ يُذهبن السيئات، ولا ييئَس ولا يقنط؛ يقول الشيخ عبدالرزاق البدر: "وينبغي هنا أن يعلم أن علم العبد بهذه الأسماء العظيمة بابٌ عظيم لنيل عالي المقامات، ولا سيما مع مجاهدة النفس على تحقيق مقتضياتها من لزوم الاستغفار وطلب العفو، ودوام التوبة ورجاء المغفرة، والبعد عن القنوط وتعاظم غفران الجُرم، والعبد على خير عظيم ما دام طالبًا عفوَّ ربِّه، راجيًا غفرانه"[15].
 
• الثاني: التحلي بالمغفرة، فكما يحب العبد ويرجو أن يغفر الله له الزلات، ويمحو عنه السيئات، فليعامل غيره بنفس ما يرجو؛ ليعفو عن المسيء له، ويغفر ما اقترفه في حقه، فذلك أدعى لأن يغفر الله له، فالله تعالى يحب من يتَّصف ببعض صفاته، ومن ذلك المغفرة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22].
 
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى[16]: "وهذه الآية نزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال، فلما أنزل الله براءةَ أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على مَن كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأُقيم الحد على مَن أقيم عليه شَرَع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يعطفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه، وهو مِسْطَح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد وَلَق وَلْقَة تاب الله عليه منها، وضُرب الحد عليها، وكان الصديق رضي الله عنه معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب، فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: ﴿ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]؛ أي: فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك، فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب يا ربَّنا أن تغفر لنا، ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصديق هو الصديق؛ رضي الله عنه وعن بنته".
 
يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: "حظ العبد من هذا الاسم (الغفار) أن يستر من غيره ما يجب أن يستر منه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ستر على مؤمن عورتَه، ستر الله عز وجل عورته يوم القيامة"[17]، والمغتاب والمتجسس والمكافئ على الإساءة بمعزل عن هذا الوصف، وإنما المتصف به من لا يُفشي مِن خَلْقِ الله تعالى إلا أحسَن ما فيه، ولا ينفك مخلوق عن كمال ونقص وعن قبحٍ وحُسن، فمن تغافل عن المقابح وذكر المحاسن، فهو ذو نصيب من هذا الوصف؛ كما روي عن عيسى صلوات الله عليه أنه مرَّ مع الحواريين بكلب ميت قد غلب نتنُه، فقالوا: ما أنتن هذه الجيفة! فقال عيسى عليه السلام: ما أحسن بياض أسنانه، تنبيهًا على أن الذي ينبغي أن يذكر من كل شيء ما هو أحسن"[18].



[1] تيسير الرحمن: 821.


[2] تيسير الرحمن: 350.


[3] تيسير الرحمن: 691.


[4] النهج الأسمى: 126.


[5] تيسير الرحمن: 587.


[6] تفسير ابن كثير: 127/6.


[7] رواه البزار والطبراني واللفظ له، وصحَّحه الألباني.


[8] إلا من رحم الله.


[9] تيسير الرحمن: 148.


[10] النهج الأسمى: 126.


[11] صح موقوفًا عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما، وقد روِي مرفوعًا ولم يصحَّ، أفاده العلامة الألباني رحمه الله تعالى.


[12] الصواعق المرسلة: 3/911.


[13] جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمد خير الأنام: 153.


[14] بدائع الفوائد: 1/172.


[15] فقه الأسماء الحسنى:172.


[16] سبقت الإشارة إلى هذه القصة، لكن رأيت أن أعيدها بنقل كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى؛ لعِظَم شأنها في باب العفو والغفران لزلات الإخوان من أهل الإيمان، فما أحوجنا إلى الاقتداء بالصديق رضي الله عنه؛ ليزول كل ما بيننا من الشحناء، وليغفر كل مسلم لأخيه المسلم، راجيًا من الله تعالى أن يعامله بالمغفرة والصفح والإحسان.


[17] هكذا في الأصل لكن اللفظ الثابت:" من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة...".


[18] المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى: 80-81.

شارك الخبر

المرئيات-١