أرشيف المقالات

يوم تبلى السرائر

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2يوم تبلى السرائر   إنَّ الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفِره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعَهم بإحسان إلى يوم الدين.   مقدمة: يهدفُ المقال إلى ضرورة العلم بحال السرائر، وأنها ستُبلى وتنجلي، وسيأتي اليوم الذي ينكشف فيه ما في الضمائر، وذلك ساعة الشدة والمحنة - سواء في الدنيا أو الآخرة - ومهما حاول العبد وقتها كتمانَ سريرته، فما له من قوة ولن يستطيع لذلك سبيلًا.   والسريرة هنا ما يُسِرُّه العبد من نيَّات خبيثة؛ كالرياء، والنفاق، وذنوب الخلوات، وغيرها. وكُلُّ سَرِيرَةٍ تُبْلَى ببَيْنٍ كَمَا الصَّفْوَانُ ثَاوٍ فِي الهَجِيجِ تَسَتَّر بَيْنَ وَحْلِ السَّيْلِ رَدْحًا وَأَضْحَى أصْلَدًا بَعْدَ الثَّجِيجِ
المفردات: السَّريرَةُ: ما يُكتَمُ ويُسَرُّ، ومنها: ذُنوب الخلوات. تبلى: تنكشف. البَيْن: الفُرْقَة أو الفراق، قد يكون الموت وما بعده. الصفوان: الصخر الأملس. ثاوٍ: ثوَى في المكان أقام واستقرَّ. الهَجِيج: الغديرُ، أو الوادي العميق. ردحًا: وقتًا طويلًا، ويقال: رَدَحَ: ثَبَتَ وتَمَكَّنَ، معناه: ثابت متمكن بمكانه. أصلدًا: صَلْدًا؛ حجر أصلد: أملس. الثَّجيج: السيل الجارف، وكذلك: هو صوت الماء المصبوب من السَّحاب، وهنا كناية عن وقت نزول المطر بغزارة وجريان السيل بقوة.   المعنى: • في البيتين تشبيهُ حال العبد الذي يرائي بعمله، أو حال المنافق الذي يكتم الكفر ويُبدي ويتظاهر بالإيمان، أو الذي يُصلِح حاله أمام الناس ويحارب الله في الخلوة؛ شبه هؤلاء بتلك الحجارة الملساء الماكثة بالوادي، والتي تتخفى بين طينِ سَيلِه الجارف، وتتستر وتحتمي تحته زمانًا، لكن لا يلبَثُ حتى ينزل المطر بغزارة، ويجري السيل بقوَّة، ويجرف ما يعترضه في طريقه من طين وغثاءٍ، ثم ما هي إلا ساعات من الزمن حتى ينكشف كل مستور، ويظهر هذا الحجر المدفون أملسَ لا تَخفى منه خافية.   • هكذا حال هؤلاء المُرائين والمنافقين، والمحاربين اللهَ في خلواتهم بالذنوب والمعاصي، مهما طال عليهم الأمد، فإن الله أجرى في سُننِه أن كل سريرةٍ ستُبْلَى وتنجلي، وذلك بفعل فاعل في الدنيا أو الآخرة.   فقد يبتلي الله سريرة العبد بمصيبةٍ أو بليَّة أو شدة، وبعدها يتجلَّى لخلق الله صدقُ هذا العبد من كذبه، وتقواه من فجوره، قال الله تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 4].   قِفْ وقفة إمعان وتدبُّر مع هذه الآية التي تكشف الخفايا، وخبث النوايا، وتدبر سوء النهاية. قد تكون هذه السيئات هي ذنوب الخلوات التي تخفى على كثير من خلق الله، فأصحاب الخلوات حسِبوا أن هذه الذنوب تَخفى على الله سبحانه وتعالى، وأن الله لا يُحاسبهم عليها، وهو سوء ظن بالعليم الخبير، الذي يجازي على النَّقير والقِطْمير، بل سيكشف أمرهم ويفضحهم بهذه الذنوب، عياذًا بالله.   • قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264]. الْمَنُّ: هو تَعداد الفضل والإحسان. والأَذى: أَن تُوَبِّخَ المُعطَى، أو يذكر منتَه وفضله عليه توبيخًا له. الرياء: اتِّصاف العبد بالخير والصلاح على خلاف ما يُخفِي.   • فالمنافق أو المرائي الذي يُظهر عكس ما يُخفي ويُسِرُّ، مَثَلُه كمَثَل هذه الحجارة المَلْساء التي تتخفَّى تحت التراب، لكن لا تلبث وينكشف أمرها وتظهر للعيان بمظهرها الحقيقي، وذلك حين نزول المطر الذي يزيل الغبار عنها، ويَحُول بينها وبين الغطاء الذي يحجبها.   وهكذا حال هؤلاء حين ينزل بهم البلاء وتشتد بهم السنون، فتراهم يتسللون من الناس لِواذًا، ويخرُجون من الدِّين كخروج السهم من الرميَّة، ويحاربون الله ورسوله في الخلوة.   • لكن أكبر مصيبة تنزل بهم وتكشف أمرهم حين يَلْقَون ربَّهم يوم القيامة، قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ﴾ [الطارق: 9، 10]. تبلى السرائر: أي تخرُج مخبَّآتُها وتظهر، فلا يستطيع العبد حينها سترَ ما بدا من سيئاته، وما كان يُضمر من خبث نياته.   الوصية: • الحذر من الرياء، فهو صفة من صفات المنفاقين التي تُلحِق بأصحابها المقتَ من الله ومن خلقِ الله، وعلى العبد أن يكون على علمٍ بحال سريرته، فيُصلِحها إن كان بها فساد، بحملها على الإخلاص، وإبعادها عن الرياء. • وليحذرْ من ذنوب الخلوات؛ فهي سبب الانتكاسات، ومعظم سُوء الخاتمة هي بسبب هذه الذنوب، عياذًا بالله.   • وليعلمِ العبد أن الله سيَبتلي العبادَ حتى يتبينَ حال نيَّاتهم؛ قال الله تعالى تحذيرًا من النفاق: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ﴾ [محمد: 29]؛ أي: أيعتقد المنافقون ومَرْضى القلوب أن الله لا يكشف أمرَهم لعبادِه المؤمنين، سواء في الدنيا أو الآخرة؟   وقفة إمعان مع حديث ثوبان: عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((لأعلمنَّ أقوامًا مِن أمتي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تِهامةَ بيضًا، فيجعلُها الله عز وجل هباءً منثورًا))، قال ثوبان: يا رسول الله، صِفْهم لنا، جَلِّهم لنا؛ ألا نكونَ منهم ونحن لا نعلم، قال: ((أَمَا إنهم إخوانُكم، ومن جِلْدتِكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوامٌ إذا خلَوا بمحارم الله انتهكوها))؛ وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه".   وهذا الحديث تقشعرُّ له الأبدان؛ لهولِ ما فيه من عِبَر تسكب له العبَرات، فالكثير من بني جِلدتنا قد اغترُّوا ببعض الصالحات من أعمالِهم، وظَنُّوا أنها ستَحُول بينهم وبين سَخَط الله تعالى وعقابه، مع ما هم مقيمون عليه من ذنوب الخلوات التي تستوجب مقت وغضب الديَّان.   قال تعالى: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 108]، هذا إنكار على المنافقين وأشكالِهم في كونهم يَسْتَخفون بقبائحهم من الناس لئلا يُنكِروا عليهم، ويجاهرون اللهَ بها وهو مُطَّلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم.   • وهو حال كثير من خلق الله في زماننا، حين يستخفي الواحد منهم بعيدًا عن أنظار الناس، ثم يحارب ربَّه بالمعاصي، وهو سبحانه مُطَّلع على سريرته، ولا تخفى عليه خافيةٌ من أمور عباده. • وهو جل جلاله أحقُّ بالخوف والخشية؛ لأنه سيُحاسب عن كل ما أسرَّه العبد وأخفاه، وما أظهره وأبداه.   أيها الشاب الحبيب: إياكَ وإطلاقَ بصرِك في خلوتك، تنظر يمينًا وشمالًا في العورات، وتقلب ببصرك في القنوات، ألا تخاف من رقيب عتيد، يخبرك بعلمه الدقيق بحركة هذه العين التي تَسْتَرِقُ النظر وتخون الله بفعلها ذلك؟!   قال جل وعلا: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19]. الفضائيات: أكبر موردٍ من موارد الشر التي هتكَت الأستار، وشتت الأفكار، وأوردت الكثير إلى النار.   أقوال السلف رحمة الله عليهم في السرائر: ♦ قال مُطَرِّف بن الشِّخِّير رحمه الله: "إذا اسْتَوَتْ سريرةُ العبد وعلانيته، قال الله عزَّ وجلَّ: هذا عبدي حقًّا" ♦ قال ابن الجوزي رحمه الله: "وقد يُخفي الإنسان ما لا يرضاه اللهُ عز وجل، فيُظهِره الله سبحانه عليه ولو بعد حين، ويُنطِق الألسنة به وإن لم يشاهده الناس، وربما أوقع صاحبَه في آفةٍ يفضحه بها بين الخلق، فيكون جوابًا لكلِّ ما أخفى من الذنوب؛ وذلك ليعلم الناس أن هناك مَن يُجازي على الزلل".   ♦ قال ابن الأعرابي رحمه الله: "أخسرُ الخاسرين مَن أبدى للناسِ صالح أعماله، وبارَز بالقبيح من هو أقربُ إليه من حبل الوريد". قال ابن القيم رحمه الله: "أجمع العارفون بالله أن ذنوبَ الخلوات هي أصل الانتكاسات". وأيَّده في ذلك ابن رجب رحمه الله فقال: "خاتمة السوء تكون بسبب دسيسةٍ باطنة بين العبد وربه".   • وصية النبي صلى الله عليه وسلم: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه: ((أوصيك بتقوى الله تعالى في سِرِّ أمرِك وعلانيته))؛ صحيح الجامع: 2544. اللهم استُرْ عيوبنا، وتجاوَز عن زلَّاتنا، وألهمنا الإخلاص فهو الخلاص. ونسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. ونعوذ بك من المنكرات وذنوب الخلوات. ونعوذ بك من الرياء والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١