أرشيف المقالات

من الدلائل العقلية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم (2) (الدوافع والأسباب المفترضة وراء ادعاء النبوة)

مدة قراءة المادة : 21 دقائق .
2من الدلائل العقلية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم (2)
الحلقة الثانية:
(الدوافع والأسباب المفترضة وراء ادعاء النبوة)
 
إذْ قد فرغنا من الكلام على أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم- وسيرته قبل البعثة ومدى مركزيتها في الدلالة على صدق دعوى النبوة، فإننا سنعرج هنا على جانب آخر له تعلق بقضية الصدق والكذب في دعوى النبوة، ألا وهو الدوافع والأسباب التي يمكن أن تحمل صاحبها على اختلاق دعوى النبوة، وهل هي موجودة في حال النبي محمد صلى الله عليه وسلم أم ليست موجودة؟
 
فمعلوم على أن المقْدِم على دعوى كاذبة خطيرة كادعاء النبوة لا بد أن يكون له من الدوافع والأسباب الحاملة له على الولوج في هذا الأمر الخطير، بل تلك الدوافع لا بد أن تكون متناسبة مع أعباء هذا الادعاء وما سيلقاه صاحبه من تحدياتٍ، وما سيبذله من تضحياتٍ.
 
إن مجازفة ادعاء النبوة كذبًا جريمةٌ ليست سهلة التنفيذ ولا سهلة التبعات ولا مأمونة العواقب ولا عارية من المخاطر ولا خالية من التضحيات الكبرى، بل هي كالسرقات الكبرى التي لا يقدم عليها إلا المجرم المحترف المغامر الطموح، وهو يعلم ما يكتنفها من أهوال ومخاطر ومصاعب، وما سيتبعها من نتائج، وأنها إما أن يكون فيها تغيير حياته إلى الغنى والثروة وإما أن يكون فيها حبل المشنقة، أو ظلام السجن حتى الموت.
 
إن كل ذي عقل صحيح سليم يجبره عقله على التفكر والتأمل في عواقب الإقدام على هذه المجازفة الخطرة وما سيجنيه منها من أرباح وما سيدفعه في سبيلها من كلفاتٍ، فيقدم ويضحي إذا ظن أن الأرباح أكثر، ويحجم إذا ظن أن جانب الخسائر أكثر، ولا يهمل تلك الحسابات والموازنات إلا الحمقى البين حمقُهم أو المجانين البين جنونُهم.
 
وإن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، لقاضية برجاحة عقله وكمال فطنته، ومن ثَم فلا يبقى على إقدام عاقل مثله على ادعاء النبوة – إن كان كاذبًا في ادعائها- إلا أن تكون له من الدوافع والأسباب ما يجعله يجازف ويغامر بسمعته وشرفه بين قومه، ويعرض نفسه لويلات وتهلكات يستغني العاقل عن إيراد نفسه مواردها بلا مقابلٍ ولا عائدٍ.
 
فما تلكم الدوافع والأسباب التي يمكن أن تقف وراء ادعاء النبوة كذبًا في حق رجل تام العقل والفطنة والفضائل كمحمد صلى الله عليه وسلم؟
 
لا يخلو ادعاء النبوة كذبًا أن تكون أسبابه والبواعث عليه تحقيق مطامع مالية أو تحقيق مطامع سلطوية.
 
وكلاهما -أعني البحث عن مطامع مالية أو مطامع سلطوية- من الدوافع التي لا تكون وليدة اللحظة، بل هما كغيرهما من أهداف الإنسان وتطلعاته وأحلامه، نتِاج من نِتاج شخصيته وأخلاقه ومُثله وقِيمه وطريقة تفكيره ونظرته للحياة ومعايير النجاح والفشل فيها.
 
وإذا كان كذلك، فإننا نقول إن تطلعات الإنسان وأحلامه وطموحاته هي نتاج طبيعة شخصيته وأفكاره وأخلاقه، وهي كذلك أسبابٌ لتكوين أخلاقه وتشكلها بما يتوافق مع تلك الطموحات والمطامع والأحلام.
 
فصاحب طبعِ الطمع والجشع المالي الغالب على شخصيته أن يحمله ذلك الطبع والخلق على أن يلهث وراء المطامع المالية متى لاحت وأين لاحت، ولا يحجزه عن الوصول إليها حاجز من مشقةٍ أو مكارم أخلاقٍ حتى يصل إلى تلك المطامع أو ييأس من الوصول إليها.
وفي ذات الوقت فإن استمرار مطاردة الإنسان للمطامع المالية ولهثها خلفها يعزز عنده خًلق الطمع ويقويه ويؤصله عنده بحيث يغلب عليه ويصبح هذا الخُلق القوي المتأصل قادرًا على توليد مطامع مالية جديدة عند صاحبه.
 
وهذا شأن جميع الأخلاق فاضلة كانت أو قبيحة؛ فممارسات الشخص للأعمال المواتية لأخلاقه هو نتاج لتك الأخلاق وهو كذلك باعث على تعزيز تلكم الأخلاق عنده وتقويتها.
فهي علاقة تفاعلية كما أن الإيمان بالله تعالى يحمل أصحابه على التزود من الأعمال الصالحة، والتزودُ من الأعمال الصالحة يقوي الإيمان في قلوب أصحابها.
 
نعود إلى قولنا إن المطامع المالية والسلطوية لا تكون وليدة اللحظة عند الشخص، بل هي نتاج شخصيته وأخلاقه وأفكاره.
فإذا نظرنا إلى شخصية محمد -صلى الله عليه وسلم- فهل نجد في أخلاق هذه الشخصية وسيرتها ما يدل على وجود المطامع المالية والسلطوية فضلًا عن رسوخها وغلبتها عليه حتى يكون ادعاء أمرٍ عظيمٍ خطيرٍ، كادعاء النبوة كذبًا، هو أحد أعراض تلك المطامع المالية والسلطوية وأبرز تجلياتها؟
 
إن صاحب المطامع المالية أو السلطوية لا ينفك عنه ذلك الخُلق ولا يقدر على كتمانه مهما حاول إخفاء ذلك، بل إن واقع الافتراض يقول: إن الباحث عن المال المتستر في بحثه عنه خلف دعوى قيمية أخلاقية هو كاذب فيها، سيكون مُراده الأول والأخير هو الوصول إلى تحقيق أهدافه المالية، ومتى انفتح أمامه الطريق إلى تحقيق أحلامه المالية سيسرع في ركوب تلك الطريق وعدم الحيدة عنها، غاية ما هناك أن يراوغ ويخدع مَن حوله أنه لا يفكر في المال وأنه ليس من غايته الأصيلة، أما اكتنازه المال وتضخيم الثروة، فأمرٌ لا بد من حصوله منه متى أتيحت أسبابه، وإلا كان وصفنا لإنسانٍ ما بأنه حريصٌ جشعٌ طماعٌ ونحو هذه الأوصاف ضربًا من العبث إذا كان هذا الشخص الموصوف بتلك الصفات لا يبالي بالمال إذا حصل له، بل لا يبالي بجمعه ولا يسعى في تحصيله.
 
وبتنزيل هذا التقرير على ما نحن بصدده من شأن افتراض وجود مطامع مالية أو سلطوية خلف ادعاء النبوة كذبًا، نقول:
لقد أوقفنا القارئ الكريم في المقالة السابقة على أخلاقه صلى الله عليه وسلم وطبائع شخصته وما اشتهر به بين قومه قبل البعثة، وأنها كانت على الغاية في الكمال الخلقي، بحيث إننا لم نجد خصومه الذين سعوا في إلحاق الضرر به بكل طريقٍ يعثرون في سجلات ماضيه الأخلاقية على ما يمكنهم تعييره به والتشنيع عليه بسببه، ونضيف هنا تأكيدًا بخصوص تلك "الأطماع المالية المفترضة" أنها لو كانت تلكم المطامع موجودة عنده ومتأصلة في شخصيته، فإنه لا بد أن يكون لها ظهور على تصرفاته وأفعاله كما أسلفنا في العلاقة التلازمية بين أخلاق الشخص وتصرفاته.
 
ذلك أنه لو كان الطمع عمومًا والطمع المالي خصوصًا خلقًا أصيلًا في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم، لا نعكس ذلك على تصرفاته وأفعاله قبل البعثة ولَوُجِد منه ما يدل على ذلك، ولكانت أقرب تهمة يتهمها به الخصوم، مثلًا، أن يقولوا: "أيها الحريص الجشع، هل تذكر حين وقعتْ منك الخزية الفلانية بسبب جشعك وطمعك"؟
 
لكن شيئًا من ذلك لم يقع، ولسنا كذلك نجد في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم قبل دعوى النبوة ما يدل على لهثه وراء الأموال أو سعيه في تجميعها من كل طريق، بل نعلم إنه عاش صباه راعيًا أغنامَ عمه ثم مساعدًا له في التجارة، ثم مُشرفًا على تجارة خديجة - رضي الله عنها - حتى اختارته زوجًا لأمانته ولما توسمت فيه من نبيل الأخلاق وكريم الشمائل، وهي صورةٌ مغايرةٌ ومباينةٌ لصورة الرجل المولع بجمع المال واكتنازه، حتى يحمله هذا الولع على افتراء واختلاق فِرية كبرى لم يسبقها أحدٌ من قومه أو أسلافه إلى اختلاقها وافترائها.
 
فهذه شواهد (قَبْلية) على عدم صحة هذا الافتراض وعدم إمكانية وجوده أصلًا، ولو أغضينا الطرف عن تلك الشواهد، وتنزلنا مع هذا الافتراض (وجود أطماع مالية وراء دعوى النبوة)، فإننا لا بد أن نتساءل: أين الشواهد (البَعْدية) واللاحقة على صحته؟ وأين تجلياتها؟
 
فأما في المرحلة المكية للدعوة وهي ثلاثة عشر عامًا، فلا نجد فيها إلا الخسائر المادية الكاملة التي لحقت بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمنذ أن بدأ دعوته ترك العمل بالتجارة وتفرغ تفرغًا لدعوته، وكان الكتاب الذي يقول إن الله تعالى أنزله عليه يأمره بأن يقول للمدعوين الذي يخاطبهم للإيمان بدعوته ﴿ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [الأنعام: 90]، ويكرر عليه ذلك بين الفينة والفينة، ثم لم تنته تلك المرحلة إلا عن حصار اقتصادي وعزل اجتماعي جائر ضد محمد صلى الله عليه وسلم وعشيرته كعقوبة قرشية لبني هاشم وبني المطلب لعدم تسليمهم محمدًا صلى الله عليه وسلم للزعامة القرشية تقضي فيه قضاءها.
 
وبكل حال فالمرحلة المكية من الدعوة لم تكن موضعًا لتحقيق الطموحات المالية إن كان محمد صلى الله عليه وسلم لديه شيء من ذلك، بل كانت موضعًا لتجسد الأضرار المادية والمعنوية له ولأتباعه أيضًا.
 
ثم لننتقل إلى المرحلة المدنية؛ حيث بدأ صلى الله عليه وسلم في تأسيس دولة جديدة، وتغيرت كليةً الأوضاع التي كان يعيشها هو وأصحابه في مكة من الاضطهاد والتعذيب والخوف والمحاربة، وصارت للمسلمين دولة وغزوات وأموال، ونصطحب معنا سؤالنا: هل شهدت تلك المرحلة من حرص محمد صلى الله عليه وسلم على جمع المال واكتنازه أو التوسع في الثروة والزيادة في الممتلكات ما يمكن جعله شاهدًا على صحة افتراض وجود دوافع مالية وأغراض مادية كانت هي السبب في فرية ادعاء النبوة خلافًا للواقع ونفس الأمر؟
 
من المؤسف جدًّا أن مفترض هذا الافتراض لن يجد من شواهد تلك المرحلة - أي المرحلة المدنية - إلا ما هو ضد ذلك الافتراض ونقيضه، فإن المنقول إلينا من سيرة محمد صلى الله عليه وسلم في تلك المرحلة أنه منذ وصوله إلى المدينة وحتى وفاته كان مسكنه هو حجرات متواضعة، منخفضة السقف، في كل حجرة منها تسكن زوجة من زوجاته، ولم يتخذ المنازل الواسعة الجميلة فضلًا عن القصور ذات الخدم والحشم.
 
وظل محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن تتحسن الأوضاع الاقتصادية للمسلمين في المدينة وبعد أن تحسنت، وفُتحت الدنيا على أصحابه، ظل محمد -صلى الله عليه وسلم- على حالة واحدة من التقلل من الدنيا، وحالةٍ واحدةٍ من الفقر وقلة ذات اليد؛ حتى إنه حتى موته لم يشبع من الخبز الجيد، وكان يمر الشهر والشهران لا يجد أهل منزله من الطعام ما يوقدون عليه النار، وكان يسأل أهله في الصباح عن الطعام، فإن وجد أكل وإن لم يجد شرع في الصوم! وكان ينام على سرير له سيور تؤثر في ظهره حتى يرثي أصحابه له، والمنقول في هذا الشأن كثيرٌ مطردٌ متواترٌ دالٌّ على مدى التقشف والفاقة والبُعد التام عن الثراء المالي أو التنعم الدنيوي، بل قد مات محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد رهن درعه عند رجل يهودي مقابل طعام يشتريه لأهله!
 
كل ذلك كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يعيشه ويحياه، وهو هو نفس الرجل الذي سأله سائلٌ بعد حصول غنائم إحدى الغزوات، فأعطاه أعدادًا كبيرة من الأغنام تملأ ما بين جبلين، وهو هو نفس الشخص الذي يقف بعد غزوة حنين فيعطي رموز العرب وساداتهم المائة من الإبل لكل واحدٍ منهم، وتجتمع حوله الجموع الكثيرة تسأله بإلحاح وإكثار ليعطيهم من الغنائم، حتى تلجئه تلك الجموع إلى شجرة يتعلق رداؤه بها، فيعلن لهم كلمته الشهيرة (لن تجدوني بخيلًا ولا كذابًا)!
 
يخرج محمد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الغنائم واقتسام الأموال الهائلة خالي الوفاض، ويرجع إلى بيته ويمارس حياته السابقة، فيجوع يومًا ويشبع يومًا، ويجد الوجبة حينًا ويفقدها حينًا، هذا ولمحمد صلى الله عليه وسلم (نظريًّا) الخُمس من الغنائم، لكن هذا الخُمس (النظري) كما أخبر هو بنفسه (مردودٌ على المسلمين)، فيتحمل به الديون عن المدينين ويقضي به حاجات المحتاجين والسائلين، ولا يُبقي لنفسه ولا أهله بيته شيئًا.
 
فأين هي تجليات الدوافع المالية والاقتصادية التي كانت له وبسببها ادعى النبوة؟! ولماذا لم يحقق آماله وطموحاته المالية، ويتخذ القصور ويحوز الملذات ويتنعم بالدنيا، وقد واتته الفرصة لذلك بعد انفتاح الدنيا عليه وعلى أصحابه؟! ألم تكن تلك الغنائم الكثيرة التي كان يوزعها هنا وهناك، كفيلة بجعله من أثرياء العرب إن لم يكن أثراهم؟!
 
أين هي الكنوز وسبائك الذهب والجواهر والأحجار الكريمة التي تركها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - لورثته وقرابته؟! فلعل قائلًا يقول: كان يُقتر على نفسه ويجمع لورثته! إن التركة التي خلفها ذلكم الرجل الذي يعطي الأموال يمنة ويسرة وكأنها ليست الأموال التي يعرفها الناس ويسيل لعابهم من أجلها، إن تركة ذلكم الرجل ما كانت إلا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضًا بخيبر جعلها لابن السبيل صدقة!!
 
وإذْ قد بدا لذي اللب والإنصاف أن أي افتراض لوجود دوافع مالية وراء ادعاء النبوة ما هو إلا ضربٌ من الجهل والعبث، فلننتقل إلى الافتراض الثاني، ألا وهو افتراض وجود دوافع سلطوية كانت هي الحافز على ادعاء النبوة كذبًا، وهنا نعيد التذكير بما أسلفناه في أول المقال بأن الأطماع المالية أو الأطماع السلطوية المفترضة إن كانت موجودة شخصٍ ما ثم حملته على اقتراف جريمةٍ نكراء في حق الله وحق الناس كادعاء النبوة كذبًا، فهي ( أي تلك الأطماع) مرض متأصل في أخلاق هذا الشخص، قد تمكن منه كل التمكن حتى دعاه إلى الوقوع في تلك الجريمة من أجل الوصول إليه، فلا بد أن تظهر أعراض هذا المرض على تصرفات الشخص وأفعاله، ويكون لها الأثر الكبير في اهتماماته وأولوياته.
 
وبناءً على هذا، فعلينا أن ننظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل دعوى النبوة وبعدها، فلا ريب أن فيها ما يشهد على ذلك الافتراض بالبطلان أو يشهد له بالصحة، وقد تقدم القول عند معالجة الافتراض السابق أن سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- تدل على أنه نشأ راعيًا للغنم في صباه ثم مساعدًا لعمِّه في تجارته ثم عاملًا في مال خديجة - رضي الله عنه - والتي أصبحت زوجته بعد ذلك.
 
وليس في أي من الحوادث المنقولة لنا قبل البعثة ما يشير إلى بحثه عن سلطة وسيادة، فلا نجد له أي محاولة من المحاولات التي يمكن أن نقول عنها: إنها كان الخطوة الأولى منه على طريق تحقيق أحلامه في السيادة والوصول إلى السلطة، لا نجد أي خبر يدل على ذلك، حتى لو كانت محاولة للوصول إلى سيادة قبيلته (بني هاشم)، فضلًا عن سيادة قريش بأكملها، فضلًا عن العرب بأجمعهم.
 
ذلك أن الذي يدعي النبوة كذبًا وبهتانًا ويقول للناس: إنه رسول لا لقريش وحدها ولا للعرب فقط، بل للعالم أجمع، لهو شخصٌ مريض بحُبِّ السلطة مرضًا قويًّا قد تمكن منه واستولى على تفكيره، حتى أوصله إلى ما يشبه أحلام اليقظة في التفكير وأبعده عن حقائق الواقع العربي وأنساه سنن الحياة من حوله.
 
أليس من الطبيعي أن ذلك الشخص المريض بحب السلطة والمهوس بها هوسًا جنونيًّا، حمله على دعوى النبوة كذبًا، تكون له محاولات سابقة على ذلك الادعاء للوثوب إلى السلطة والسعي إليها؟
 
إننا لا نعرف من سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما يتصل بالشأن العام إلا أنه حضر وهو غلامٌ مع أعمامه حرب الفجار، وأنه شهد حلف الفضول لنصرة المظلوم في دار عبد الله بن جدعان، كما شهده غيرُه من الرافضين للظلم والساعين لنصرة المظلوم، حتى حادثة وضعه الحجر الأسود عند إعادة بناء الكعبة، حينما تنازعت القبائل فيما بينها على مَن هو الجدير بحيازة هذا الشرف، لم يكن ذلك الشرف الذي ناله عن سعيٍ منه في الوصول إليه ولا لأنه وقتها كان من زعامات القرشية المشتهرة، بل وقع ذلك قدرًا عندما اقترح مُقترِحٌ أن يكون تحاكم المتنازعين إلى أول داخل من باب المسجد الحرام، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ذلك الداخل، فاقترح عليهم وضع الحجر الأسود على ثوب لتتشارك كل القبائل في حمله، حتى إذا رفعوه قام هو بوضعه في موضعه، ولم يكن رضاهم بمقترحه ناتجًا عن مكانة سيادية له بينهم، وإنما كان لما هو مشتهرٌ به من حُسن الخلق وسلامة النفس والبُعد عن الخصومات والعداوات بحيث لم يكن بينه وبين أحدٍ ما يشنؤه لأجله.
 
فإذا ما تركنا مرحلة ما قبل البعثة، وفتَّشنا في المرحلة المكية بعد البعثة، فإننا سنجد فيها - فيما يتعلق بتحقيق الآمال السلطوية - نظيرَ ما وجدناه فيها بالنسبة لتحقيق الآمال المالية إن كان لواحدةٍ منهما وجود على الحقيقة، فلقد كان المرحلة المكية مرحلة الصراع غير المتكافئ مع قريش، ولم يكن أمام محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سوى الصبر على الأذى القرشي واحتمال التنكيل والمضايقات وسائر أصناف الإيذاء والمضايقات.
 
إن تلك المرحلة لا تمثل انعدامًا لتحقيق أية تطلعات سلطوية فحسب، بل إنها كانت بمثابة التضييع للوجاهة الاجتماعية والشرفِ الذي كان قد حازه النبي -صلى الله عليه وسلم- بنسبه الهاشمي الباسق في قريش وبكماله الخُلقي الذي زاده شرفًا في قومه إلى الشرف المكتسب بالنسب والوارثة.
إننا سنجد محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ذا الهيبة الأخلاقية والوجاهة القبلية يتعرض لأصناف من الإيذاء والشتم والسخرية وما شاكل ذلك مما لم يتعرض له في حياته من قبلُ قط، بل لم يكن يقع مثلها لآحاد الناس ممن هم دونه في الشرف والمنزلة بمراحل، إنها أذية لا يتعرض لمثلها إلا أولئك الذين ضعف شأنهم جدًّا بين الناس فلا يؤبه لهم لهوانهم على الناس أو هوانهم على أنفسهم، وفوق ذلك فإن تلك الأذية الحاصلة لمحمد -صلى الله عليه وسلم- تأتيه من أعيان قريش وأشرافها كما تأتيه من رعاعها وغوغائها، فلقد كانت الدعاية القرشية تقنع الرأي العام المكي بأن الرجل قد جاء بما يتوجب معه استباحته كل الاستباحة والتفنن في النيل منه بكل سبيل.
 
أفلم يكن جميع ذلك مما لقيه محمد -صلى الله عليه وسلم- طيلة ثلاثة عشر عامًا زاجرًا له عن الاستمرار في الكذب المزعوم، ومجبرًا له على التراجع عن تلك الأهداف والأحلام السلطوية المفترضة؟!
 
ثم إننا إذا تركنا المرحلة المكية، وولجنا إلى المرحلة المدنية التي تغيرت فيها حياة محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وأصبح للمسلمين شوكة ودولة، وهنا قد يقول القائل الذي افترض أن الأحلام السلطوية الشخصية هي التي تقف خلف ادعاء النبوة كذبًا: إن المرحلة المدنية تصلح أن تكون مرحلة جني ثمار وتحقيق لتلك الأحلام، فلقد صار محمد (صلى الله عليه وسلم) هو رأس الدولة الناشئة والآمر الناهي فيها، بحيث لم يعد أحدٌ ينازعه في تلك المكانة ولا يقاربه فيها.
 
فنقول: إن الشواهد لتدلنا على أن المرحلة المدنية وإنْ كانت قد أعطت محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من السلطة والمكانة ما لا مرية فيه ولا جدال، إلا أن تلك الشواهد لتدل كذلك على أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مُلتفتًا إلى ما يلتفت إليه الباحثون عن السلطوية فضلًا عن المهوسين بها حدَّ الجنون، فإننا قد سبق أن أشرنا إلى أن الهوس بالمال والهوس بالسلطة أمراضٌ لا بد من ظهور أعراضها على أصحابها، والقارئ يقف بنفسه يوميًّا على صحة ذلك عبر ما يلمسه من تصرفات بعض الناس من حوله التي تنادي بأعلى صوتها على هوس أصحابها بالسلطة أو بالمال أو بالشهرة والصيت.
 
وأنت- أيها القارئ- إذا نظرت في سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- في المرحلة المدنية، لم تجده شيد قصرًا يمارس فيه مظاهر السلطوية، ولا حتى اتخذ مجلسًا خاصًّا بذلك على عادة أهل الرياسة والزعامة، ولا كان الرجال يقفون عند رأسه وهو جالس على الطريقة المعتادة عند الملوك وأهل الإمارة، بل لم يكن يتميز عن جلسائه بأي مظهر من مظاهر التميز، حتى إن الأعرابي الغريب كان يدخل عليه وعلى أصحابه المجلس، فيسأل: أيكم محمد؟!، وكان ينهى أصحابه عن القيام له إذا دخل عليهم، وكان يشتري حاجته من السوق بنفسه، ويساعد أهل بيته في مهنتهم إذا لم يكن عنده ما يشغله، وكانت الأَمة من جواري المدينة تأتي فتأخذ بيده وتذهب به حيث شاءت؛ ليساعدها في بعض المهام التي طُلِب منها تنفيذُها! ورأى صاحبه معاذ بن جبل طريقة تعامل الناس مع أمرائهم وملوكهم في الشام، وأنهم يسجدون للملك عند الدخول عليه، فحاول نقل تلك العادة إلى مجتمع المدينة، فسجد للنبي -صلى الله عليه وسلم- عند لقائه به كنوع من التحية، فنهاه عن ذلك، إلى غير ذلك من عشرات التصرفات والأفعال التي تقطع ببُعد صاحبها عن السلطوية، وعدم اكتراثه بها، فضلًا عن أن يكون مهوسًا بها هوسًا دعاه إلى اختلاق فرية النبوة سعيًا وراءها وطلبًا لتحصيلها.
 
وبعد، فقد ظهر بينًا أن افتراض وجود دوافع وأغراض مالية أو سلطوية تقف خلف ادعاء محمد -صلى الله عليه وسلم- النبوة كذبًا، لهو ضربٌ من الافتراض من أبعد ما يكون عن العقل، ومن أشد ما يكون مجانبة للصحة والحقيقة، وأنه سيرته وأخلاقه وسيرته قبل البعثة وبعدها ليس فيها إلا ما يشير إلى ضد ذلك الافتراض ونقيضه ومقابله، وما يجعل ذلكم الاحتمال ضربًا من الكذب والتخرُّص.
 
يتبع.......

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢