أرشيف المقالات

موانع استدرار الرزق العشرة (2)

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2سلسلة شرح أسماء الله الحسنى (22) اسم الله الرزاق (5) موانع استدرار الرزق العشرة (2)   ما زلنا مع سلسلةِ (شرح أسماء الله الحسنى) في عددها الثاني والعشرين، بعد أن وَقَفنا في المناسبة السالفة على الجزء الأول مِن بيان موانع استدرار الرزق، ضمن شرح اسم الله "الرزاق"، وذكرنا أن هذه الموانع التي تحجُزُ الرزق وتمحَقُ بركته مجملةٌ في عشرة، ذكرنا منها أربعة؛ وهي: (ترك الأخذ بالأسباب تواكلًا واعتمادًا على القدر - وأكل الحرام أو ما فيه شُبْهة - وكفر النِّعم وازدراء عطايا الله وإن بدت قليلة - والبخل والشح).   ونتمُّ اليوم إن شاء الله تعالى الستةَ الباقية، وهي: 1 - القيام بالأعمال الشِّركيَّة المنافية للعبادة الحقَّة؛ كمَن يحلِفُ بغير الله، أو يَذبَحُ لغير الله، أو يعتقد في استمداد النفع والضر من الأموات؛ قال تعالى: ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 3، 4]؛ أي: إن الإطعام والأمن (وهما رزقٌ) منوطانِ بتوحيد الله وتحقيق العبادة الصحيحة.   2 - الإعراض عن القرآن الكريم، واعتقاد أن غيرَه من القوانين الوضعية خيرٌ منه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124]. قال الضحاك: ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه: 124] العمل السيئ، والرزق الخبيث. وقال ابن كثير رحمه الله: "﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه: 124]؛ أي: تناساه وأخذ من غيره هداه، ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه: 124]؛ أي: في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، وإن تنعَّم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فهو في قلق وحيرة وشك، فهذا من ضنك المعيشة".   وانظر اليومَ إلى مَن يرون أنفسَهم مِن عظماء الدنيا، لا تعرف الطمأنينةُ إليهم سبيلًا، ولا ترى السعادةُ إليهم طريقًا، يعيشون هواجس الخوف والحروب، وإهدار الأموال الطائلة في التسابق إلى التسلح، حتى بلغت قيمةُ صاروخ واحد 65 مليون دولار، وهو مبلغ يمكن أن ينقِذَ آلافًا من الناس من الجوع والمرض.   3 - عدم نسبة الفضل في الرزق إلى الرزاق المُنعِم، فإذا كان مَن أسدى إليك معروفًا مِن البشر يستحقُّ منك الشكر والثناء، فكيف بالذي وهَبَك الحياة، وأغدق عليك مِن النعم ما لا يحصى؟ فقد ضرب الله لنا مثلًا قصةَ قارون الذي ملك الدنيا، فلم يعتَرِفْ بالمنعم المتفضِّل، وقال: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78]؛ أي: إن الله يعلَمُ قدري، وأنني أستحقُّه بجهدي وذكائي، فكان جزاؤه أن خسف الله به وبداره الأرضَ، ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴾ [القصص: 81].   وضرب لنا كذلك مثلًا فرعونَ الذي زعم أن ما عليه مِن نعيم إنما هو له، لا لخالقه ورازقه، فقال: ﴿ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51]، فكيف كان جزاؤه هو ومَن اتَّبعه؟ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا ﴾ [الزخرف: 55] (أغضبونا بعنادهم) ﴿ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: 55]، فكان كفرانُ النعمة ونسبتُها للمخلوق وبالًا ونقمةً. قال المناوي: "ما زال شيء عن قوم أشد من نعمة لا يستطيعون ردَّها، وإنما ثبَتَت النعمة بشكر المُنعَم عليه للمُنعِم، وفي الحِكَم (مَن لم يشكر النعمة، فقد تعرَّض لزوالها، ومَن شكرها فقد قيَّدها بعقالها)".   4 - الانشغال عن الفرائض بطلب الرزق؛ لأن الذي يرزقك هو الذي أمرك بتركِ الدنيا والإقبالِ عليه في أوقات مخصوصة؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9].   قال ابن عجيبة: "بادِروا إلى تِجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا". ولذلك قال تعالى بعد ذلك: ﴿ قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [الجمعة: 11]. ومثله قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9].   5 - ترك إخراج الزكاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولم يمنعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعوا القَطر مِن السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطَروا))؛ صحيح سنن ابن ماجه. وهذا من أسباب قلة الغيثِ التي اجتاحت كثيرًا من البلاد، يهبُّون لجمع المال، ويتقاعسون عند إخراج حقِّه، حتى ذهب أحد المعاصرين إلى أن قرابة خمسةٍ في المائة من الأغنياء اليومَ فقط هم الذين يُخرِجون زكاتهم.   6 - الذنوب والمعاصي، وهي مِن أعظم أسباب منع الرزق ومحق بركته، وما أهلَك اللهُ مَن قبلنا من الأمم إلا بسبب المعاصي، ومنها الظلم الذي كان سببًا في حرمان بني إسرائيل من كثير من الأرزاق والخيرات؛ قال تعالى: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 160، 161]. فإذا قال القائل: إنهم اليوم في عيش رغيد مع إقامتهم على المعصية. قيل: إن ذلك استدراجٌ.   قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتَ اللهَ يُعطِي العبدَ مِن الدنيا على معاصيه ما يحبُّ، فإنما هو استدراجٌ))، ثم تلا صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]؛ أحمد، وهو في الصحيحة. وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].   وسبق معنا قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: ((فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب، ولا يحمِلَنَّكم استبطاءُ الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله؛ فإن الله لا يُدرَك ما عنده إلا بطاعته))؛ الصحيحة. وبيَّن صلى الله عليه وسلم كيف أن الذنب يمنعُ الرزق، فقال: ((إن الرجلَ ليُحرَمُ الرزقَ بالذنب يُصيبه))؛ صحيح سنن ابن ماجه؛ أي: يمنع الرزق الحلال، أو يمنع البركة.   قال ابن القيم رحمه الله: "ومِن عقوباتها (أي: المعاصي) أنها تمحَقُ بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة، وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا، وما مُحِيَت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق". وقال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسَعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبة في قلوب الناس، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووَهَنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبُغضًا في قلوب الناس". إذا كنتَ في نِعمةٍ فارْعَها فإن المعاصي تُزيلُ النِّعَمْ وداوِمْ عليها بشكرِ الإلهِ فإن الإلهَ سريعُ النقمْ وسافِرْ بقلبِك بين الورى لتُبصِرَ آثارَ مَن قد ظَلَمْ   إن شؤم المعصية قد يتعدَّى غير العاصي، فيرجع وبالُ معصيته في حرمان الرزق عليه وعلى غيره أيضًا، فقد قالت زينب بنت جحش رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنهلِكُ وفينا الصالحون؟"، قال: ((نعم، إذا كثر الخبث))؛ متفق عليه. يقول ابن الجوزيِّ رحمه الله في كتاب "ذم الهوى": "متى رأيتَ - وفّقك الله - تكديرًا في حال، فتذكّر ذنبًا قد وقع، فقد قال الفضيل بن عياض: "إني لأعصي الله، فأعرف ذلك في خُلُق دابَّتي وجاريتي".   وقال عكرمة: "دوابُّ الأرض وهوامها، حتى الخنافس والعقارب يقولون: مُنِعنا القطر بذنوب بني آدم". وقال مجاهد: "إن البهائم تلعَنُ عصاة بني آدم إذا اشتدَّت السَّنة، وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلًا يقول: "إن الظالم لا يضرُّ إلا نفسه"، فقال أبو هريرة: "بلى والله، حتى الحُبارى (طائر) لتموتُ في وكرها هزالًا من ظلم الظالم"؛ ذكره الذهبي في الكبائر.   إن المعاصيَ هي التي صرفت الأرزاقَ التي كان يمكن أن يستفيد منها فقراء العالم الذين يعيشون على أقلَّ مِن دولارين في اليوم، وهم قرابةُ 800 مليون شخص، إلى إنفاقِها على الحروب المدمِّرة، التي أنفق العالم عليها 1,76 تريليون دولار سنة 2015، لو وُزِّعت على أولئك الفقراء لكان نصيب كل واحد منهم 2200 دولار في السَّنة، في الوقت الذي كان مِن الممكن أن نُنفِق خمسة دولارات على كل فرد لتفادي مخاطرِ ما يسمى بالأمراض الخمجية (السيدا، والملاريا، والأمراض التنفسية).   ويُنفِق العالم على أمراض التدخين 500 مليار دولار سنويًّا، وهي أموال كان من الممكن أن يستثمر فيما ينفع الناس، بل وُجِد في بعض البلاد العربية أن المدخِّن ينفق على السجائر القاتلة أربعةَ أضعاف ما ينفقه على صحته. أيضمَنُ لي فتًى تركَ المعاصي وأرهنُهُ الكفالةَ بالخلاصِ أطاع اللهَ قومٌ فاستراحوا ولم يتجرَّعوا غُصَص المعاصي
ولعل شهر شعبان وهو الشهر الذي تُرفَع الأعمال فيه إلى الله، يرفع مِن همم المسلمين، فيتقرَّبون إلى ربهم بالإقلاع عن المعاصي، والانشغال بالصوم والأعمال الصالحة، فتَعظُم الأرزاق، وتتضاعف البركات.



شارك الخبر

المرئيات-١