أرشيف المقالات

هل تبيع الدنيا بالشهادة؟

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
هل تبيع الدنيا بالشهادة؟

أرى أناسًا يقاتلون بعضهم البعض من أجل الدنيا، أرى أناسًا قد امتلأت بطونهم بالحرام والربا من أجل الدنيا، أرى أناسًا يتمتعون بكل شهوة من أجل الدنيا، أرى قلوبهم قد شيعت جنائزها، أرى الشيطان قد تملك منهم، فخالفوا أمر الله - تعالى، إنهم أناس ليسوا ببشر؛ لأنهم ينظرون إلى الدنيا كأنها هي الأولى والأخيرة، وقد حان وقت الشهادة فهي خير الموت، ودليل الشجاعة، وتملّك النفس، وانقياد للحق، وطاعة لله - تعالى، واعلم بأنه لا نفع في الدنيا ولا خير في المال، ولا سلطان في الجاه، ولا متعة في الحرام، ولا إيمان بمخالفة الرحمن.

إن الدنيا مقابل الشهادة أقل من أن يفكر الإنسان بأن يتمسك بهذه الدنيا، ألم تعلموا أن الدنيا سميت دنيا؛ لأنها دنيئة ليست بشيء بالنسبة للآخرة؟ قال - تعالى -: ﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾ [الضحى: 4]؛ فلا ينبغي للعاقل أن يَركَن إلى الدنيا، أو يغتر بها، أو يلهو بها عن الآخرة، أو تكون مانعة للموت في سبيل الله - تعالى؛ قال - تعالى -: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ [الكهف: 45]؛ فالحياة الدنيا كالماء الذي ينزل على الأرض فتنبت ثم تصبح كالهشيم تذروه الرياح فتطير به، فالدنيا مثل ذلك، قال - تعالى -: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20]؛ فالدنيا في الآية الكريمة لا يتعلَّق بها إلا الكفَّار الذين يحبون اللهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر في الأموال والأولاد، وكالنبات الذي يزول وينتهي بعد أن أصبح مخضرًّا يفتخر الإنسان به، وفي النهاية عذاب شديد لمن آثر الحياة الدنيا على الآخرة، ومغفرة من الله - تعالى - ورضوان لمن آثر الآخرة على الدنيا، فلا يعقل المقارنة بين الشهادة والحياة، فالفارق كبير.


واعلم - يا مسلم - أن الدنيا تُلهِي الإنسان حتى الهلكة، فما فيها وما بها من مال وأولاد وطعام ولذة، لا يحرك ساكنًا أمام الخير في الجنة، فالدنيا إما أن تكون في قلوبنا فنهلك، وإما أن تكون في أيدينا فنسعد، فقد حذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا حيث قال: ((أبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم))؛ متفق عليه.

وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وجلسنا حوله، فقال: ((إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها))؛ متفق عليه.

الدنيا ليست بشيء بالنسبة للآخرة؛ فهي جسرٌ نعبر عليه إلى الآخرة، فلا بدَّ أن نأخذ من الدنيا ما ينفعنا في الآخرة، وأن نترك من الدنيا ما يضرنا في الآخرة حتى ولو نفعنا في الدنيا.

يا مسلم، يا عاقل، جاهدْ في سبيل الله - تعالى - وأقبلْ على الشهادة بصدر يملؤه السرور، وبقلب يملؤه العزة، وبنفس تملؤها الفخر، فلا عيشَ إلا عيش الآخرة؛ فعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة))؛ (متفق عليه).

الجهاد أمرٌ عظيم بعظم هذا الأمر، الجهاد نصر دائم؛ لأنك إما في الجنة بعد الشهادة، وإما عزيز بعد الفوز على الأعداء، فلا تنظر إلى أيامٍ تفنَى وتزول؛ فكل ما فيها زائل حتى لو طاب عيشها فهي للفناء، وإذا وضعت الدنيا أمام الآخرة، فلن تجد الدنيا إلا حقيرة ذليلة لا نخرج منها بشيء، كالذي يضعُ إصبعه في اليمِّ فلينظر بما يرجع؛ فعن ابن شداد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بما يرجع؟))؛ (رواه مسلم).


مَن خسر آخرته من أجل الدنيا فليعلم أنه خسر خسرانًا عظيمًا؛ فالإنسان إذا خاف من الشهادة والموت في سبيل الله - تعالى - من أجل دنيا حقيرة، فوالله لقد باع نفسه بأبخس الأشياء، فهو كالجَدْي الميِّت، بل أحقر من ذلك؛ فعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بالسوق والناس كنفتيه،فمرَّ بجَدْي أسكَّ ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: ((أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟))، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ إنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: ((فوالله، للدنيا أهونُ على الله من هذا عليكم))؛ (رواه مسلم).

اثبتْ في ميدان المعركة للنصر على الأعداء لتنصرَ دينك وربك، وإن متَّ فمتْ شهيدًا كما مات الشهداء من قبلُ، واعلم أنك لن تأخذ من دنياك إلا ما قدَّره الله - تعالى - لك، واعلم أنك غريبٌ، أو عابر سبيل؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبيه فقال: ((كنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))؛ (رواه البخاري)، فلا تركن إلى الدنيا ولا تتخذْها وطنًا، ولا تحدِّث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلَّق بها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تنشغلْ بها إلا بما ينشغل به الغريب الذي يريدُ الذهاب إلى أهله، وحتى نقبل على الشهادة بصدر مبتهج لا بدَّ أن نعلم أن الدنيا لا تُعِز مَن أعزَّها، ولا تُذِل مَن أذلها، فمَن أعزها أذلتْه، ومَن أذلها أعزتْه، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كانت الدنيا همه فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة))؛ (رواه ابن ماجه).

وأفضل ما يقال عن الدنيا ما كتبه الحسن إلى عمر بن عبدالعزيز في ذم الدنيا:
"أما بعد؛ فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام، فاحذرها يا أمير المؤمنين؛ فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، تُذِل مَن أعزها، وتفقر مَن جمعها؛ كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فاحذر هذه الدار الغرارة الختالة الخداعة، وكنْ أسرَّ ما تكون فيها أحذرَ ما تكون لها، سرورُها مَشُوب بالحزن، صفوها مشوب بالكدر، فلو كان الخالق لم يُخبِر عنها خيرًا، ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم، ونبَّهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله - عز وجل - عنها زاجر، وفيها واعظ، فما لها عند الله - سبحانه - قدر ولا وزن، ولقد عُرِضت على نبينا مفاتيحها وخزائنها، فأبَى أن يقبَلها، وكَرِه أن يحبَّ ما أبغضه خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه، ذواها الله للصالحين اختيارًا، وبسطها لأعدائه اغترارًا، أفيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها؟ ونسي ما صنع الله بمحمد - صلى الله عليه وسلم - حين شدَّ على بطنه الحجر، والله ما أحد من الناس بسط له في الدنيا، فلم يخَفْ أن يكون قد مكر به، إلا كان قد نقص عقله، وعجز رأيه، وما أمسك عن عبدٍ فلم يظن أنه قد خير له فيها، إلا كان قد نقص عقله وعجز رأيه".

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير