أرشيف المقالات

فقه اسم الله الحسيب (2)

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2سلسلة شرح أسماء الله الحسنى (28) فقه اسم الله: الحسيب (2)
انتهينا في المناسبة الماضية مِن القسم الأول مِن شرح اسم الله "الحسيب" - ضمن سلسلة شرح أسماء الله الحسنى في جزئها السابع والعشرين - وعرَفنا أنه اسمٌ جليلٌ يدلُّ على الكفاية من جهة، وعلى المحاسبة مِن جهة أخرى.   وتبيَّنَّا أن الله تعالى كافٍ مَن أخلَصَ التوكلَ عليه، فلا يحتاج إلى غيره، ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36]، وأنه مُحاسِبٌ عبادَه ﴿ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62]، لا يُعجِزُه حسابُ أعمال الخلائق، بل يُوكِل حساب الحسنات والسيئات إلى العباد أنفسهم، فيقول المؤمن: ﴿ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴾ [الحاقة: 19، 20]، ويقول الكافر والمنافق: ﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴾ [الحاقة: 25، 26]. وَهُوَ الحَسِيبُ كِفَايَةً وَحِمَايَةً ♦♦♦ وَالحَسْبُ كَافِي الْعَبْدِ كُلَّ أَوَانِ
وموعدُنا - اليوم إن شاء الله تعالى - مع فقهِ هذا الاسم المبارك "الحسيب"، الذي سنتناوله من ثمانيةِ أوجهٍ: 1- العلم بأن كفاية الله لعباده عامةٌ وخاصةٌ: فالعامة تتعلق بكفاية الله تعالى لجميع البشر؛ إيجادًا وإمدادًا وإعدادًا، فهيَّأ لهم سبحانه سُبُلَ عيشِهم، وما تقوم به حياتُهم.   وأما الخاصة، فتتعلَّق بعباده المؤمنين، وأصفيائه المتَّقِين، وأنقيائه المتوكلين، ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]؛ أي: كافيه أمورَ دينِه ودنياه.   ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَوَى إلى فراشه قال: ((الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا، وَسَقَانَا، وَكَفَانَا، وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لا كَافِيَ لَهُ وَلا مُؤْوِيَ))؛ مسلم.   وعلَّمنا صلى الله عليه وسلم أن نقول عند الخروج من البيت: ((بِسْمِ الله، تَوَكَّلْتُ عَلَى الله، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ))، قال صلى الله عليه وسلم: ((يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ، وَكُفِيَ، وَوُقِيَ؟)).   وكتب معاويةُ إلى عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: أنِ اكتُبِي إليَّ كتابًا توصيني فيه، ولا تُكثِري عليَّ، فكتبَتْ إليه: "سلامٌ عليك، أما بعد: فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنِ التَمَس رضاء الله بسَخَط الناس، كَفَاه الله مُؤْنَة الناس، ومَن التَمَس رضاء الناس بسَخَط الله، وكَلَه الله إلى الناس))، والسلام عليك"؛ صحيح سنن الترمذي.   2- تحقيق اسم الله الحسيب يقتضي التوكلَ عليه، وصدقُ التوكل يدفعُ المضرَّة والأذى، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، قال بعض السلف: "جعل اللهُ تعالى لكلِّ عملٍ جزاءً مِن جنسه، وجعل جزاءَ التوكل عليه نفس كفايتِه لعبده، فقال: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]، ولم يقل: نُؤتِه كذا وكذا من الأجر؛ كما قال في الأعمال، فلو توكَّل العبدُ على الله تعالى حقَّ توكُّله، وكادَتْه السموات والأرض ومَن فيهن، لجعل له مخرجًا من ذلك وكفَاه ونصره".   3- الاعتقاد بأن الله يُحصِي كلَّ شيءٍ مِن أقوالنا وأفعالنا، وحركاتنا وسكناتنا، لا يغيب عنه من ذلك شيءٌ، قال تعالى: ﴿ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ﴾ [الجن: 28]، وقال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].   4- مِن فقه "الحسيب" أن الحاكمَ يُجرِي القوانين الانضباطية بين الناس، ويُحاسِبهم على مخالفتهم لها، ولا حقَّ في الاعتراض عليها ما دامت مُوافِقةً لكتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمَعَت عليه الأمَّةُ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إن أُناسًا كانوا يُؤخَذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخُذُكم الآن بما ظهَر لنا مِن أعمالكم، فمَن أظهر لنا خيرًا أَمِنَّاهُ وقرَّبناه، وليس إلينا من سريرته شيءٌ، الله يحاسبه في سريرته، ومَن أظهر لنا سوءًا لم نَأْمَنه ولم نُصدِّقه، وإن قال: إن سريرتَه حسنةٌ"؛ البخاري.   ولو سَرَتْ هذه المحاسبة على وجهِها الأكمل، لَمَا تفشَّت بيننا مظاهرُ الغش والرِّشوة والمحسوبية، ولكن الفَطِن منا مَن يُؤدِّي المظالم في الدنيا قبل يوم الحساب، فالله كفيلٌ بردِّ الحقوق إلى أصحابها، قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 25، 26].   5- الإيمان باسم الله "الحسيب" يُفضِي إلى استشعار معيَّة الخالق للعبد في كل زمان ومكان، وإذا كان الله معك، فمَن عليك؟ وإذا كان عليك، فمن معك؟ قال الإمام أحمد رحمه الله: "إذا أحببتَ أن يدومَ الله لك على ما تُحِب، فدُمْ له على ما يحب".   وقال سفيان الثوري رحمه الله: "أصلِحْ سريرتَك يُصلِحِ اللهُ علانِيَتَك، وأصلِحْ فيما بينك وبين الله يُصلِحِ اللهُ فيما بينك وبين الناس، واعمَلْ لآخرتك يكفلِ اللهُ أمرَ دنياك، وبِعْ دنياك بآخرتك تربَحْهما جميعًا، ولا تَبِعْ آخرتك بدنياك فتخسَرَهما جميعًا".   6- المؤمن يحسب حسناته وسيئاته، ويقوم مِن أعمال العبادة بما يُقوِّي به سِجلَّ حسناته، وأيسرُ ذلك مؤونةً أدعيةٌ خفيفة، وأعمالٌ يسيرة علَّمَنَاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: فمن الصِّنف الأول: ما رَوَتْه جُوَيرية رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرةً حين صلَّى الصبح وهي في مسجدِها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسةٌ، فقال: ((ما زلتِ على الحال التي فارقتُك عليها؟))، قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد قلتُ بعدَكِ أربعَ كلماتٍ ثلاثَ مراتٍ، لو وُزِنَت بما قلتِ منذ اليوم لوزنَتْهنَّ: سبحان الله وبحمده، عددَ خلقه، ورِضا نفسه، وزنة عرشه، ومدادَ كلماته))؛ مسلم.   ومن الصنف الثاني: ما رواه سعدُ بن أبي وقاص أن خبَّابًا قال لعبدِالله بن عمر رضي الله عنهما: ألا تسمَعُ ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمِع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن خرج مع جنازة مِن بيتها وصلى عليها ثم تبِعها حتى تُدفَنَ، كان له قيراطانِ مِن أجر، كلُّ قيراط مثلُ أُحُدٍ، ومَن صلى عليها ثم رجع، كان له من الأجر مثل أُحُدٍ))، فأرسل ابنُ عمرَ خبَّابًا إلى عائشة يسألُها عن قول أبي هريرة، ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت، وأخذ ابن عمر قبضةً مِن حصى المسجد يُقلِّبُها في يده حتى رجع إليه الرسولُ، فقال: قالت عائشة: صدَقَ أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض، ثم قال: "لقد فرَّطنا في قراريطَ كثيرةٍ!"؛ مسلم.   7- عدم المبالغة في إصدار الأحكام، وإن كانت ثناءً ومدحًا؛ دفعًا للغرور أو التغرير؛ فعن أبي بكرةَ أن رجلًا ذُكِر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأثنى عليه رجلٌ خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَيْحَكَ، قطعتَ عُنُقَ صاحبِك - يقولُه مرارًا - إن كان أحدُكم مادحًا لا محالة، فليقل: أحسبُ كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبُه الله، ولا يزكِّي على الله أحدًا))؛ البخاري. إنَّا لنفرَحُ بالأيام نقطَعُها وكلُّ يومٍ مضى يُدنِي مِن الأجَلِ فاعمَلْ لنفسِكَ قبلَ الموتِ مجتهدًا فإنَّما الربحُ والخُسرانُ في العَمَلِ
8- ومِن أعظم ما يستوجبُه الإيمان باسم الله "الحسيب"، أن يُحاسِب المؤمنُ نفسَه عن أعماله قبل أن يُحاسَبَ عليها، فلا يُقدِّم رِجلًا ولا يخطو خُطوةً إلا على هُدًى مِن كتاب الله، أو تشريعٍ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يكفيه اللهُ همَّ الدنيا والآخرة.   قال الحسن رحمه الله: "رحِم اللهُ عبدًا وقف عند همِّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخَّر". قال ميمون بن مِهران: "لا يكون العبد تقيًّا حتى يُحاسِبَ نفسَه كما يحاسب شريكه: مِن أين مطعمه وملبسه؟". وقال الحسن: "كان عمر رضي الله عنه ربما تُوقَد له النارُ، ثم يُدنِي يدَيْه منها ثم يقول: يا بن الخطَّاب، هل لك على هذا صبرٌ؟".   ومن قصص السلف في ذلك: أن رجلًا مؤمنًا أرسل طعامًا إلى البصرة عن طريق وكيلٍ، وقال: "بِعِ الطعام بسعرِ يومِه"، فلما وصل هذا الوكيل إلى البصرة، استدعى التجَّار، ونصَحُوه أن يؤخر البيع أسبوعًا واحدًا ليرتفع السعرُ، ففعل، وربِح أرباحًا طائلة، وبشَّر موكله بهذه الأرباح، لكن المؤمن الذي يحتاط لدينه وماله قال له: "ادفَعِ الثمن كلَّه لفقراء البصرة، فقد دخل على مالي الشبهةُ"، وهو يرى أن ذلك احتكارٌ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحتكِرُ إلا خاطئٌ))؛ مسلم. هي الدارُ دارُ الأذى والقذى ودارُ الفناءِ ودارُ الغِيَرْ ولو نِلْتَها بحذافيرِها لَمِتَّ ولم تقضِ منها الوَطَرْ أَيَا مَن يُؤمِّلُ طولَ البقاءِ وطولُ الخلودِ عليه ضَرَرْ إذا ما كبِرتَ وفات الشبابُ فلا خيرَ في العيشِ بعدَ الكِبَرْ



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير