أرشيف المقالات

تفسير الربع الأخير من سورة يس

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [*] الربع الأخير من سورة يس
• من الآية 55 إلى الآية 64: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ﴾؛ أي: مَشغولونَ عن غيرهم، (وشُغلهم الشاغلُ هو التلذُّذ بأصناف النَّعيم)، وهم ﴿فَاكِهُونَ﴾؛ أي: فَرِحونَ مَسرورون ﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ﴾؛ أي: في ظلال الجَنَّة ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ﴾؛ أي: يَجلسونَ مُتَّكِئينَ على السُرُر المزيَّنة، تحت الظلال المُمْتَدٌّة (والسُرُر جمع سرير)، ﴿لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ﴾؛ أي: لهم في الجَنَّة مِن كل أنواع الفواكه اللذيذة، ﴿وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ﴾؛ أي: يَتحقَّق لهم كل ما يَتمنَّونه ويَشتهونه، ولهم نعيمٌ آخر أكبر مما هم فيه، حين يَرون ربَّهم في الجَنَّة، فيُكَلِّمهم قائلًا: ﴿سَلَامٌ﴾؛ أي: سلامٌ لكم مِن كل مكروه، وقد كان هذا ﴿قَوْلًا﴾ لهم ﴿مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ بهم.   ♦ ويُقال للكفار في ذلك اليوم: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾؛ أي: تميَّزوا عن المؤمنين، وانفصِلوا عنهم، ويقول اللهُ لهم توبيخًًا وتذكيرًا: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ﴾؛ يعني: ألم أوصِكم على ألْسِنة رُسُلي ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ ولا تُطيعوه؟ ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾؛ أي: عداوتُه ظاهرةٌ للإنسان، ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾؛ يعني: وأمَرتُكم بأن تعبدوني وحدي، ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾؛ أي: هذا هو الطريق القويم الموصل لِجَنَّتي (وهو عبادتي وطاعتي ومعصية الشيطان)، ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا﴾؛ أي: خلقًا كثيرًا، ﴿ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ﴾؛ يعني: ألم يكُن لكم عقل يَنهاكم عن اتِّباع الشيطان؟! إذًا فـ ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾؛ أي: التي كنتم توعَدونَ بها في الدنيا على كُفركم وتكذيبكم للرسل، ﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ﴾؛ أي: ادخلوها لتَلتهب أجسادكم فيها، وتُعانوا مِن حَرِّها الشديد، جزاءً ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾.
• الآية 65: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ﴾؛ أي: نُغلق أفواههم فلا يستطيعون الكلام، ﴿وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ﴾ فتَشهد بالمعاصي التي بَطَشتْ بها، ﴿وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾؛ أي: تَشهد أرجُلهم بما سَعَتْ إليه مِن المعاصي.
• الآية 66: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾؛ يعني: لو شئنا لأعمينا أبصارهم كما أغلَقنا أفواههم، ﴿فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ﴾؛ أي: فحينئذٍ سارَعوا إلى الصراط ليَمُرُّوا فوقه، ﴿فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾؛ يعني: فكيف يَمُرُّونَ عليه وقد عُمِيَتْ أبصارهم؟!   • الآية 67: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ﴾؛ يعني: ولو شئنا لَغَيَّرنا خَلقَهم وأقعدناهم في أماكنهم على الصراط ﴿فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا﴾؛ أي: فحينئذٍ لا يستطيعون أن يَمْضوا أمامهم على الصراط، ﴿وَلَا يَرْجِعُونَ﴾ وراءهم.   • الآية 68: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ﴾؛ أي: نُطِلْ عمره حتى يصل إلى سنِّ الشيخوخة ﴿نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾؛ أي: نُعِدْه في هذه السِنِّ إلى حال الطفولة مرة أخرى، فيَصير ضعيفَ العقل والجسد، بعد أن كان قويًّا راشدًا أثناء فترة شبابه، ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ أنَّ القادر على أن يفعل ذلك بهم، قادرٌ أيضًا على بَعثهم بعد موتهم؟   • الآية 69، والآية 70: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ﴾؛ أي: ما عَلَّمنا رسولنا محمدًا الشِعر، ﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ أن يكون شاعرًا، (وهذا ردٌ على مَن اتهَموه كَذِبًا بأنَّ الذي يتلوهُ شِعرٌ)، فإنهم يَعلمونَ أنه لم يتعلَّم الشِّعر طوال حياته، وكذلك يعلمون أن هذا القرآن لا يُشبه الشِّعر في شيء (لا في الوزن ولا في القافية)، ﴿إِنْ هُوَ﴾؛ أي: ما هذا الذي يتلوه ﴿إِلَّا ذِكْرٌ﴾ يَتذكر به أصحاب العقول السليمة ﴿وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: قرآنٌ واضح في تمييز الحق مِن الباطل، ومُوَضِّحٌ للأحكام والحِكَم والمواعظ ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا﴾؛ يعني: (حيَّ القلب والضمير)، ﴿وَيَحِقَّ﴾ به ﴿الْقَوْلُ﴾؛ أي: الحُكم بالعذاب ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾؛ لأنهم قد قامت عليهم الحُجَّة بالقرآن.
• الآية 71، والآية 72، والآية 73: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا﴾ - وهي الإبل والبقر والغنم - ﴿فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾؛ أي: فهم مالكونَ لأمرها (يتصرَّفون فيها كما يشاؤون)؟ ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ﴾؛ أي: سَخَّرناها لهم لينتفعوا بها، ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ﴾؛ أي: منها ما يَركبونه في أسفارهم، ويَحملون عليها أثقالهم ﴿وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ بعد أن يذبحوها، (ولولا هذا التسخير، لَمَا قدروا عليها أبدًا)، ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾؛ (كالانتفاع بأصوافها وأوبارها وأشعارها، إذ يَصنعون منها ثيابهم وأثاث بيوتهم وغير ذلك)، ﴿وَمَشَارِبُ﴾ إذ يَشربون ألبانها، ﴿أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾؛ يعني: ألَا يشكرونَ ربَّهم الذي أَنعَم عليهم بهذه النِّعَم، فيُخلِصوا له العبادة، ولا يعبدوا معه أحدًا مِن خَلْقه؟!   • الآية 74، والآية 75: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً﴾؛ يعني: ورغم هذه الأدلة على قُدرة الله تعالى وإنعامه على خلْقه، فإنَّ المشركين قد اتَّخذوا مِن دُون الله آلهةً يعبدونها ﴿لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ﴾؛ يعني: إنهم عَبَدوها طمعًا في نَصْرها لهم وإنقاذهم مِن عذاب الله، (وذلك بشفاعتها لهم عند الله تعالى كما يَزعمون)، كلا، ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ﴾؛ أي: لا تستطيع تلك الآلهة أن تنصر عابِديها، ولا حتى تستطيع أن تنصر نفسها، ﴿وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾؛ يعني: والمُشركون وآلهتهم جميعًا مُحضَرون في العذاب، مُتبرِّئ بعضُهم مِن بعض.
• الآية 76: ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾؛ أي: لا يَحزُنك أيها الرسولُ قولُ المُكَذِّبين فيك بأنك شاعر، فإنَّ قولهم لا يَضُرُّك شيئًا، ﴿إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾؛ أي: نعلم ما يُخفونه مِن الكِبر والعناد، ونعلم ما يُظهرونه للناس بهذه الأقاويل حتى يصدُّوهم عن الإيمان بك، وسنُجازيهم على ذلك كله (وفي هذا تصبيرٌ للنبي محمد صلى الله عليه وسلم).
• من الآية 77 إلى الآية 80: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ﴾ المُنكِر للبعث ﴿أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ﴾؛ أي: مِن ماءٍ حقير مُستَقذَر، ثم أخرجناه مِن بطن أُمِّهِ لا يَعلم شيئًا، حتى إذا رَبَّيناهُ وأصبح رَجُلًا ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾؛ يعني: فإذا به يَقْوى ويَغترُّ، ويُصبح شديدَ الجدال في إنكار البعث، ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا﴾؛ أي: جَعَلَ إعادتنا للخلْق أمرًا عجيبًا وغريبًا، ﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾؛ أي: نَسِيَ ابتداء خلْقِه، ونَسِيَ قُدرة ربِّه الذي خَلَقَه مِن العدم، فـ ﴿قَالَ﴾: ﴿مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾؟ يعني: مَن يستطيع أن يُحيي العظام المتفتتة؟ ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، (وهذا هو القياس العقلي الواضح، إذ بالبَداهة أنَّ مَن أوجد شيئًا مِن العدم، قادرٌ على إيجاد مِثله في أيِّ وقت) ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾؛ يعني: وهو سبحانه عليمٌ بجميع خلْقه، خبيرٌ بتكوينهم.   ♦ ورغم أنَّ لَفْظ "العِظام" مؤنَّث إلا إنه تعالى ذَكَرَ معها لفظ "رميم"، ولم يَقُل "رَميمة"؛ وذلك لأن العظام ليست مؤنثًا حقيقيًّا، بل هي مؤنَّث مَجازيٌّ؛ (يعني: مما لا يَبيض ولا يَلد)، فلذلك يجوز أن تأتي مع لفظَي: (رميم) و(رميمة)، وهذا مِثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56].   ♦ ثم ذَكَرَ سبحانه دليلًا آخر على قُدرته على البعث، فقال: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ﴾؛ أي: أَخرَج لكم مِن الشجر الأخضر (الذي سارت الماء في أغصانه)، فأخرَجَ منه ﴿نَارًا﴾ مُحرِقة ﴿فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾؛ يعني: فإذا أنتم توقدون النار مِن هذا الشجر الرطب، فهو سبحانه القادر على إخراج الشيء مِن ضِدِّه، كما أَخرَج أمامكم النارَ مِن الماء (فكذلك يُخرج مِن الموتى أحياءً يوم القيامة).
• الآية 81، والآية 82: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾، (ويُعيدهم كما بدأهم؟) ﴿بَلَى﴾ إنه قادرٌ على ذلك، (بل إنَّ هذا أَهوَنُ عليه مِن خلْق السماوات والأرض)، ﴿وَهُوَ الْخَلَّاقُ﴾ لجميع المخلوقات، ﴿الْعَلِيمُ﴾ بتكوين الأجساد والأرواح التي خَلَقها، فلذلك لا يَصعُب عليه إعادتها مرة أخرى، و ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ﴾؛ أي: شأنه سبحانه أنه ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ﴾ ﴿فَيَكُونُ﴾؛ يعني: فإذا به كائنٌ موجود كما أرادَه الله.   • الآية 83: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛ أي: تَنَزَّهَ اللهُ وتَقدَّسَ عن العجز والشرك، فهو المالك لكل شيء، المتصرِّف في شؤون خلْقه بلا مُنازع أو مُمانِع، وقد ظهرتْ لكم دلائل قُدرته وتمام نعمته، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بعد موتكم، ليُحاسِبكم ويُجازيَكم على جميع أعمالكم.


[*] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السَّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسَر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرُّف)، عِلمًا بأنَّ ما تحته خطٌّ هو نصُّ الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خطٌّ فهو تفسير الآية الكريمة. • واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدِّيًا لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبُّون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمَّن أكثرَ مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم مِن سِيَاق الآية)، وإننا أحيانًا نوضِّح بعضَ الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢