أرشيف المقالات

لطائف إيمانية وقبسات رمضانية

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2لطائف إيمانية وقبسات رمضانية
إن الحمدَ لله تعالى، نَحمَده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعَه بإحسان إلى يوم الدين.   بين يدي المقال: رمضان هذا الشهر الفضيل الذي خصَّه الله بالتشريف والتعظيم والتكريم، بنزول أعظم نِعم الله وأوسع مِننه، وهو القرآن الكريم، كلام الله الذي أنارَ به العالمين وسدَّد به أفهام الثَّقلين، وهدى به لخير الدنيا والدين.   كثيرٌ مِن الناس يَجهَل تفضيل الله للصوم وللصائم، ومِن السُّبل التي تُعيننا على تأْدِية عبادتنا كما يَليق بجلال الله وكماله، هي معرفةُ أسرارها والاطِّلاع على بعض مكنوناتها البديعة، وهذه الأسرار مُستخرجة كالدُّرر اللطيفة من حديث نبوي شريف، ربِّ يسِّر وأعِنْ يا كريم. الحديث الشريف: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّ عملِ ابن آدمَ له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أَجزي به، والصيام جُنةٌ، وإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يَرفُث يومئذ ولا يَصخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَله، فليقُل: إني امرُؤٌ صائمٌ، والذي نفس محمدٍ بيده، لخُلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله يوم القيامة مِن ريح المِسك، وللصائم فرحتان يَفرَحهما: إذا أفطر فرِح بفطره، وإذا لَقِيَ ربَّه عز وجل فرِح بصيامه))؛ متفق عليه.
كل عمل ابن آدم: كالصلاة والزكاة والحج وسائر العبادات والطاعات. له: أي: قد يكون للناس فيها حظٌّ من الرياء والعُجب والشِّرك، ما عدا الصوم فهو عبادة باطنيَّة قلبية خالصة لله وحدَه، وهذا ثابتٌ بنص حديثٍ آخرَ: ((الصوم لي وأنا أَجزي به، يدَع شهوتَه وطعامَه مِن أجلي)).
وأعظم القُربات عند الله مطلقًا ما كانت خالصةً لوجهه، ليس فيها مثقالُ ذرةٍ مِن رياء، وهو دين القيِّمة الذي أوصى به الباري سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].
دين القيمة: المِلة القائمة العادلة المستقيمة. والصوم: دين القيِّمة وصاحبه على الملة المستقيمة. وبالتالي: فثواب الصوم يكون أعظمَ من غيره في كل العبادات، باعتبار أن هذه العبادات قد يَعتريها الرياء والعُجب والشِّرك. ومعنى الشرك هنا: فقد يتقرَّب المشركون لأصنامهم وأوثانهم بالصلاة والصَّدقات والحج، لكن لم يَثبُت أنهم تقرَّبوا إليهم بالصوم.
لطيفة: فإنه لي: هذه الإضافة هي للتشريف والتعظيم والتقديس، فالصائم ينعَم في رمضان بأنه ينتسب إلى الصفاء والنقاء والطهارة والتقديس؛ تعظيمًا لشأنه ورِفعةً لمكانه، وعلى الصائم أن يكون على علمٍ بذلك، حتى يمارس هذه العبادة لائقةً بكمال وجلال الله.
لطيفة: وَأَنَا أَجْزِي بِه: صونًا لثواب الصائم وحِفظًا واعتناءً به، وتنميةً وتربيةً له، خصَّه الله لنفسه؛ أي: إن كل الأعمال هي للإنسان يثاب عليها الحسنة بعشر أمثالها، كما بيَّن الباري سبحانه وتعالى: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [الأنعام: 160]، إلا ثواب الصوم، فهو مدَّخر عند الله، ولا يعلَم به إلا هو، لا يعلَم حسابه ولا حقيقته إلا الله، والصوم صبرٌ، وجزاءُ الصابرين بغير حساب.
ولقد خصَّ الله له بابًا في الجنة سُمِّي بالرَّيان لا يدخُل منه إلا الصائمون، ففي الحديث المتفق عليه من حديث سهل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن في الجنة بابًا يقال له: الرَّيان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخُل منه أحدٌ))، فكل الأبواب مشتركة بين الناس ما عدا باب الصائمين، فهو خاص بهم وحدَهم، فلا يَطَّلع على ما فيه من نعيمٍ سواهم!
قد تكون حسنات هذه العبادات قِصاصًا بين صاحبها وبين المظلومين، فيأخذ الغُرماء منها بقدر مظالِمهم، كما هو مبيَّن في حديث الإفلاس؛ كما في صحيح مسلم رحمه الله: ((إن الرجل يأتي يوم القيامة بأعمال صالحة أمثال الجبال، ويأتي وقد شتَم هذا وضرَب هذا، وأكَل مال هذا، وسفَك دمَ هذا، فيؤخَذ لهذا من حسناته ولهذا من حسناته، حتى إذا فنِيت حسناته ولم يَبقَ شيءٌ، فإنه يؤخَذ من سيئات المظلومين، وتُطرَح عليه، ويُطرَح في النار))، إلا حسنة الصوم فتبقى لصاحبها مُصانةً محفوظةً، ويُضاعفها له الله، ويُربيها ويُؤتي من لدنه أجرًا عظيمًا.
لطيفة: الصيام جُنة: وقايةٌ وحصنٌ من العذاب العاجل والآجل، ومضمون التقوى في الصيام هي اجتناب الذنوب والمعاصي سبب العذاب؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، وقد يسَّر الله سبيلَها بالسلاسل، فغُلَّت الشياطينُ بقيود الله، وغُلَّت النفوس بالجوع والطاعات، والجوع هو أفضل سلسلة قُيِّدت بها النفوسُ، وحُبستْ في مراح التقوى، فسهَّل الله بهذه القيود طريق التقوى سبب النجاة.
هنا أُشير إلى لطيفة مميزة، وهي أن الله كما أعدَّ للكافرين سلاسلَ وأغلالًا؛ ليقودهم بها إلى جهنَّم دارِ الجحيم، أعدَّ في المقابل سلاسلَ وقيودًا للمسلمين؛ ليَقودَهم بها إلى الجنة دار النعيم.
لطيفة: لا يرفُث ولا يَصخَب: نصوِّر مثلًا منظرًا لرجل دخل على مسؤول كبير في البلاد، كيف يكون حاله من الوقار والخجل والاحترام والخوف؟! فكيف بالحال في رمضان ونحن في رحاب الله، وفي نفحةٍ مِن نفحات رحمته جلَّ في علاه، فلنَعرِفْ قدرَ نفوسنا، ورحِم الله امرَأً عرَف قدرَ نفسه، فمقامُك أيها الصائم فوق كل تصوُّرٍ، فاعرِف أين أنت تَصول وتَجول في هذا الشهر، فلا رفثَ ولا فُسوقَ في جنان الله المفتَّحة الأبواب في هذا الرحاب، إياك والصخبَ بين يدي الله وبين يدي ملائكة كرام تَنزل كلَّ ليلة بالأمن والسلام: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 4، 5].

لطيفة: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ: المقابلة: ليس من شِيَم الصائم المرفوع المكان أن يَنزل ويَحُطَّ مِن قدره بهذه الفِعال التي تعكِّر صفو هذه الأجواء الربانية الروحانية.
وهي دعوة أيها الصائم الحبيب إلى اجتناب مثل هذه المواطن والأماكن التي تُنتهك فيها حُرمةُ الصيام ليلًا ونهارًا، فلا يراك الله في شهره إلا في ما يحب أن يرى الصالحين فيه، فصاحِبْهم والْزَمْ مجالسَهم، فثَمَّ ملائكةُ الله تَحُفُّهم بأجنحتهم.
لطيفة: خُلوف فمِ الصائم: تغيُّر رائحة فمه من أثر الصيام نتيجة الجوع والعطش، هي أطيبُ عند الله من ريح المسك، وهنا إشارة إلى فضل مجاهدة النفس وحمْلها على ما تَكره في ذات الله، فعسى أن تكره شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا.
وقد اختصَم الملأ الأعلى عند الله تقدَّس وعلا في إسباغ الوضوء على المكاره، وبالتالي فكل مَشقة وجهدٍ، وكلُّ مكروهٍ يعترض طريق السالك إلى الله، هو أطيبُ مِن ريح المسك عند الله، وكل أنين وتأوُّهٍ في ذات الله، أطيبُ من ريح المسك.
لطيفة: الفرح والسرور هي سعادة المؤمن العاجلة والآجلة، والفرجُ جِبِلَّةُ الله في خلقه، وهو شفاءٌ لكثيرٍ من الهموم والأحزان. فأبناء الدنيا يفرَحون بشهواتهم وملذَّاتهم وطيِّباتهم التي عُجِّلتْ لهم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾ [الأحقاف: 20]، وقال جل وعلا: ﴿ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ [الانشقاق: 13]؛ أي: مسرورًا بشهواته وملذَّاته في غير ما يرضي الله.   والمسلم الصائمُ له فرحةٌ بالطيبات في دنياه، يجد حلاوتها وحرارتها في رمضان عند اقتراب ساعة الإفطار، علمًا بأن الفرحَ بالطيبات من المآكل والمشارب، مأذونٌ فيه شرعًا؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 32]، فأفضلُ الأعمال عند اقتراب الإفطار، هو الانشغال بتحضير وجبةِ الإفطار، وحبذا التمرُ سنةُ نبيِّك صلى الله عليه وسلم.
وهنا تَجدرُ الإشارة إلى أن الجهات الحاكمة المسؤولة عن الآذان والشعائر الإسلامية، يجب أن تعمَل جاهدةً على تعجيل الإفطار؛ اتِّباعًا لوصية النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ))؛ رواه البخاري ومسلم رحمهما الله.
ومما يبعَث على الحياة الطيبة السعيدة، ضرورةُ اغتنام أوقات الفرح وصرفِ النفس لها؛ حتى تَنشرِحَ، ويُبْعَثَ فيها النشاطُ والحياة، فهذه الفرحةُ عند الإفطار تَجعَلُ الصائم حريصًا على هذه العبادة، يُجاهد نفسه في تَأْدِيَتِها منتظرًا ساعة الفرح والسرور؛ كجائزة الفوز المنتظرة، فتزيده قوةً ونشاطًا يستقبل بهما صلاة القيام، ويُكمل بهما عدة رمضان بكل عزم وحزمٍ.   والفرحة الكبرى غدًا يوم لقاء الله، يُتوَّجُ بأعظم التكريم، فسرورٌ وحُبورٌ ترحيبًا به في أرض المحشر؛ حيث المخاوف والشرور: ﴿ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 11، 12].
فرحةُ الصائم بصومه حين يرى ما أعدَّه الله مِن نعيمٍ مُقيمٍ، لا تَخطر على بالٍ، وأولُ الفرح هذا الاستقبال من الله للصائمين ببهجة وسرورٍ يَظهَران في قلوبهم وعلى وجوههم، ثم عند دخول جنتهم، فالله جل وعلا خصَّهم ببابٍ في الجنة وحدَهم دون غيرهم، يدخلون منه إلى دار الكرامة، فحين ينظُرون إلى ما تُوِّجُوا به من كريم العطاء وعظيم الجزاء، يفرَحون فرحًا لو وُزِّع على أهل السموات ومَن فيهنَّ وأهل الأرَضين ومَن فيهنَّ - لوَسِعَهم.
فليفرَح الصائمُ بأن له ربًّا بهذا الفضل والكرم، وبهذه الرحمة والحنان والامتنان: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].   اللهم لا تَحرمنا نعمة الصيام، وفضلَ القيام، ومتِّعنا فيهما بأسماعنا وأبصارنا وقلوبنا؛ حتى نذوقَ لذتهما العاجلة والآجلة، ولقِّنا بهما نضرةً وسرورًا، واجْزِنا بهما جنةً وحريرًا، واسْقِنا يا ربَّنا شرابًا طهورًا. اللهم نسألك الدخولَ من باب الريان مع الصائمين رمضانَ صومَ أهل الإيمان والإحسان.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن