أرشيف المقالات

نبضات رمضانية

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
2نَبَضاتٌ رمضانية

وفى رمضان تنبِضُ القلوب حبًّا، تارة يظهر أثر ذلك النبضُ شِعرًا، وتارة نثرًا، ولِمَ لا؟ والشهر شهر البركات، شهرٌ تتابع فيه الفتوحات والنفحات على النفس والجسد والروح، فتَرِقُّ القلوب، وتنطقُ الألسنَةُ بأطيب الكلمات، إنها قلوبٌ وألسِنَةٌ ذابت في حُب شهرِ رمضان.
 
بسَكِينَةٍ بَلَغَت مداها، وخشوعٍ لامَسَ السماء، وشعرٍ شَابَ في رحاب القرآن، نامَ إلى جوار قارئ القرآن قط صغير، كأن القط قد سَكَنَ بسُكُونِ قارئ القرآن، بل أمِنَ من الفزع حين جَاورَ مؤمنًا خاشعًا، يا مرحبًا بشهر القرآن، لعلنا يُصيبنا الله من بركاته ورحماته، فنَأمَن في الدنيا والآخرة.
 
ليلُ رمضان ليس ككل ليلٍ، خاشعٌ ببكاءِ المخبتين، مُضيء بنور القرآن، ساكنٌ لِكثرة السكِينَةُ المتنزلة، عامرٌ بخيراتِ المتصدقين، فكم في الطرقات من طارقين لأبواب الفقراء والمساكين، مباركٌ ببركةِ الدعاء، لَيْلُه ليسَ كَكُلِّ ليلٍ، إنهُ ليلٌ بشهرٍ كريم.
 
إنهُ رمضان فُتِحَت أبوابٌ وأُغلِقَت أبوابٌ، وكل يختارُ بابًا يَلِجُ مِنْهُ إلى نتيجةِ عملِه، فُتحت أبواب الرحمة والجنة، وأُغلقَت أبواب النار، رحمة وسلامًا لِمَن فاز، وخَيْبَةً وعذابًا لمن خسِرَ وخاب، فابحث عن أبوابٍ ترضى بما خلفها، واختَر لنفسك ما بعدها، ولَعَلَّنَا نفوز فنلتقي بالجنة.
 
بينَ الدروب تخطو الأقدام، تبحثُ الأرواح عن ركنٍ تَركَنُ إليه، عن مأوى يأويها، عن مُلتَجَأٍ يحميها؛ لِتَشعر بالأمان، تبحث عن السكِينَة، وهناك في دَربِها تجدُ الروح "بُقعَةً مُبارَكة"، وخير البقاعِ المساجد، ازدادت بركةً بأيامٍ مُباركات، لا يحتاج لِطَرقِ الباب، فالبابُ دَومًا مفتوحٌ لا يُغلق، إذا أقبلَ خاشعًا خاضعًا منيبًا تُغدَقُ عليه الخيرات، ولِمَ لا وهو "شهر البركات"، فأهلًا رمضان!
 
أَتَظُن أن ساكِنات الديَار لا تَرقُبْنَ خطواتك؟ واهِمٌ إن ظننت ذلك، فجميلةُ الدار تُرَاك في الغُدوَةِ والرَّوْحَةِ، تَتَلَصَّصُ على همساتِك، تقتفى أثرَ مِشيتك، تتشممُ اختلافات روائح عطورك، ولِمَ لا؟! وهي زهرةُ الدارِ ورَوْحُهَا ونُورُها المُشرِق، وما أجمل إكرامها في شهر الكَرَم، أكرِموا بناتكم ونساءَكم، فما يُكرمهُنَّ إلا كريم، ولا يُهينُهن إلا لَئِيم، وأنتم أهل كرم وجُودٍ، أهلًا رمضان!
 
وتظل تَسمو الروح حتى ترتقى تلامسُ السماء في الدنيا تصفو النفوس، وترِق الأفئدة، تجري دموعُ الخاشعين أنهارًا، فتُروَى لأجلها الحقول بأمطارِ السماء، فلولا ركوعهم لمُنِعَ القِطرُ بذنوبنا، في جوف الليل، وبَردِ الفجرِ، وحرِّ الصيف، وزمهرير الشتاء، وعَصفِ الخريف والربيع، لهم ريحانٌ كَريَاحِينِ الجَنَّة، عليهم سَكِينةٌ ووقار، ولِم لا ونحن في شهرِ البركات، فأهلًا رمضان!
 
تَسطَعُ شمسُنا كأن الليلَ مُلازمٌ لنُورِها، نورٌ مُشْرَبٌ بِظَلَام، نُهرول في الدُّنيا نريد الوصول، ولكننا ما علمنا أنه سَعيٌ دون طائل، كأنها حلقَةٌ مُغلقَةٌ علينا، فلا البابَ يُفتح، ولا الظلامُ ينجلي، ولا الشمسُ تُشرق نَقيَّة!
 
آآه منها هذه الدُّنيا، شغلتنا، ضَيَّعَتنا، أصابت منا بقَدرِ ما أردنا أن نُصيبَ منها، لعلنا نَفيق فنحذَر، حينها نَنجو، ولم لا ننجو وهي فُرصَةُ النجاة ونحن في رمضان، فأهلًا رمضان!
 
أفرانُ صَهرِ المعادن وإن كانت مخصصة للمواد الصلبة، فهي تُسَخنها حتى تذوب فتُشَكِّلها مرةً أخرى على ما يريدُه الصانع، فقلُوبنا تحتاج أيضًا إلى أفرانٍ لِصَهرِ جمودها، وتحطيم كِبريائها وتَرويِضِ تَمَرُّدِها، وتليين تَعَنُّتها ورفضها للحق، ثم يُعادُ تشكيلها رُويدًا رُويْدًا، ثم تُصقَل حتى تَلمعَ إشراقًا بِنقائها، لَعَلنَا حِينَئِذٍ تَصفو نفوسُنا، ورمضان فُرصَة لإعادة تشكيل الروح لتسمو وترتقي، ولم لا ونحن في شهر التَّغيير إلى الخير، ونحن في شهر الخَيرات؟! إنه شهر رمضان، فأهلًا رمضان!
 
"العسل الأسود والخمر ورمضان"،عملية صنع العسل الأسود بينها وبين صنع الخمر فرقٌ يسير:
فإذا تَم غَليُ عصير القصب بشدة دون أن يُترك للتخَمُّرِ كانَ حلالًا، فإذا نُسِيَ بعد أن يُعصَرَ فترةً حتى تَخَمَّرَ كان حرامًا.
 
وهكذا حياتنا كلها، الفارقُ بسيط بينَ صلاحِها وفسادِها، ومن ذلكَ أن الوقتَ محدود، نعم إنه شهرُ رمضان، فلقد فاتَ أكثر من ثُلُثَه، فلو أجَّلْنَا استغلاله لَتَحَوَّلَ من فائدة إلى خَسارة، فأَحسِن استغلال الفرصَة حتى تُسقَى العسلَ الحلالَ الطيبَ بدلًا من سُقيا الخمرِ الحرامِ الخبيثِ.
 
نعم إنها فرصة، إنهُ رمضان، وَرَدَ أن كَثرَة الخُطَى إلى المساجد تُمحَى به الخطايا والذنوب، وأن انتِظَارَ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ رِبَاطٌ بل هُو "الرِّبَاط"، وأن الوُضوءَ خَمسَ مَراتٍ في اليومِ والليلةِ يُسقِطُ ويُمحِي ويُنَقِّي الصحيفَةَ من الذنوب كما يُنقى الجَسَد من الدَّنَسِ إذا اغتسل خَمسَ مَرَّاتٍ في اليومِ والليلةِ بنَهرٍ نَقِي وذلك النهرُ أمام باب بيته".
 
هذا في المُعتَادِ من الأيام، فما بالُكَ بأيامِ رمضان؟!
 
فأهلًا رمضان.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن