أرشيف المقالات

القلوب في القرآن والسنة: المقالة الثانية

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2القلوب في القرآن والسنة
المقالة الثانية
 
من عقوبة الله لبعض الناس أن الله يجعل قلبه غافلًا عنه وعن الإيمان به وعن ذكره وشكره:
قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
 
سبب هذه الآية أن عظماء الكفار قيل من أهل مكة، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أبعدتَ هؤلاء عن نفسك، لجالسناك وصحبناك"؛ يريدون عمار بن ياسر، وصهيب بن سنان، وسلمان الفارسي، وابن مسعود، وغيرهم من الفقراء كبلال ونحوه، وقالوا: "إن ريح جباتهم تؤذينا"؛ فنزلت الآية بسبب ذلك.
 
وصبر النفس مع أهل الطاعة هو إشارة إلى نوع من أنواع الصبر الثلاثة المعروفة؛ وهي الصبر على العمل الصالح، وهناك الصبر عن المعاصي، والصبر على الأقدار المؤلمة.
 
وهذا شبيه بما في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الأنعام: 52].
 
﴿ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ﴾ [الكهف: 28]: يعبدون ربهم، ويتضرعون إليه، وعبَّر بالدعاء عن العبادة؛ لأن الدعاء هو العبادة، وهو من أخص خصائص العبادة، ﴿ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ [الكهف: 28]؛ أي: طرفي النهار، وقيل: المراد صلاة العصر، والفجر، والأولَى حملها على جميع أوقاتهم، بل وعلى كل الحالات؛ ولذلك قيل: هو الصلوات الخمس، ويدخل في الآية من يدعو في غير صلاة، ومن يجتمع لمذاكرة علم.
 
وقوله: ﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الكهف: 28]؛ يعني الإخلاص، والقرآن يعبر عن الإخلاص بوجه الله؛ كما في قوله تعالى: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ [القصص: 88]؛ قيل: إلا ما أُريد به وجهه، وفيه إثبات صفة الوجه لله تعالى على الحقيقة، كما هو اعتقاد أهل السنة.
 
وقوله: ﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 28]؛ أي: لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا؛ أي: لا تكن إرادة الزينة سببَ الإعراض عنهم؛ لأنهم لا زينة لهم من بزة وسَمْتٍ.
 
وهذا الكلام تعريض بحماقة سادة المشركين الذين جعلوا همَّهم وعنايتهم بالأمور الظاهرة، وأهملوا الاعتبار بالحقائق والمكارم النفسية؛ فاستكبروا عن مجالسة أهل الفضل، والعقول الراجحة، والقلوب النيرة، وجعلوا همهم الصور الظاهرة.
 
﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾ [الكهف: 28]؛ أي: جعلنا قلبه غافلًا لا يقبل الهدى، ولا ينتفع بآيات القرآن، و"الذكر" يطلق على التوحيد، والإيمان، وعلى القرآن، والغفلة هي الذهول عن التفكر في الشيء، والمراد هنا الغفلة عن الوحدانية والإيمان وعن سفه الشرك.
 
وقوله: ﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]؛ أي: إنما حمله على الغفلة اتباعه للهوى، فوقع بسبب ذلك في الإسراف والتضييع والهلاك.
 
ثم بيَّن تعالى أن هذه الغفلة سبب من أسباب استحقاق العذاب، بل سبب في كون البهائم أحسن حالًا من هذا الغافل الكافر بالله تعالى.
 
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].
 
يعني: لا يتفكرون بها في آيات الله، ولا يعلمون بها الخير والهدى، لإعراضهم عن الحق؛ وقوله: ﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ [الأعراف: 179]؛ أي: من الأنعام؛ لأنها تطلب منافعها، وتهرب من مضارِّها، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة.
 
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 7، 8].
 
فقوله: ﴿ وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ﴾ [يونس: 7]: سكنوا إليها، وقصروا هممهم على لذائذها وزخارفها.
 
وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴾ [يونس: 7]: لا يتفكرون بهذه الآيات ولا يتدبرونها؛ لانهماكهم في جمع الدنيا وحطامها، وانصرافهم إلى شهواتها.
 
الغفلة: هي ترك الشيء، وذهابه عن فكر الإنسان، ولم يعد يخطر على باله، أو يتذكره، رغم رؤيتهم لآيات الله سبحانه الكونية، أو القرآنية، وسماع تلك الآيات؛ فهي تمر عليهم كأن لم تكن لا يتيقظون بها، وكأنهم خشب مسندة لا يتعظون بها، فهؤلاء الذين فرحوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها أصبحوا في منزلة الغافلين عن الآخرة، أو عما هو مطلوب منهم.
 
وقال تعالى: ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 6، 7].
 
فإذا كانت غفلة القلب عن ذكر الله مرضًا يصيب القلب ويؤدي لموته، كان علاجَ ذلك بل والوقاية منه هو كثرةُ ذكر الله تعالى.
 
قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205].
 
ومعنى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ﴾ [الأعراف: 205]: مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم تعم جميع أمته، وهو أمر من الله عز وجل بذكره وتسبيحه وتقديسه، والثناء عليه بمحامده، والجمهور على أن الذكر لا يكون في النفس، ولا يراعَى إلا بحركة اللسان، ويدل على ذلك من هذه الآية قوله: ﴿ وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ [الأعراف: 205]؛ فهذه مرتبة السر والمخافتة باللفظ.
 
﴿ تَضَرُّعًا ﴾؛ أي: تخشعًا وتواضعًا وتذللًا وخضوعًا.
 
﴿ وَخِيفَةً ﴾؛ أي: وخوفًا من الله.
 
﴿ وَدُونَ الْجَهْرِ ﴾؛ أي: واذكره دون الجهر ذِكْرًا خَفِيًّا باللِّسَانِ.
 
﴿ وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾: ما بين المغرب إلى العصر، وقيل: هي العَشِيُّ.
 
﴿ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205]؛ أي: من اللاهين...
وهذا إنما كما إذا كانت الفريضة ركعتين غدوة، وركعتين عشية، قبل أن تُفرض الصلوات الخمس.
 
ولما قال الله عز وجل: ﴿ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205]، جعل بعد ذلك مثالًا من اجتهاد الملائكة؛ ليبعث على الجد في طاعة الله عز وجل، وقوله: ﴿ الَّذِينَ ﴾ [الأعراف: 206] يريد الملائكة، ثم وصف تعالى حالهم من تواضعهم وإدمانهم للعبادة والتسبيح والسجود، وفي الحديث: ((أطَتِ السماء وحُقَّ لها أن تَئِطَّ؛ ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد)).

شارك الخبر

المرئيات-١