أرشيف المقالات

حديث صوم الدهر

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2حديث صوم الدهر   عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأَصومنَّ النهار، ولأَقومنَّ الليل ما عشتُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنت الذي قلت ذلك؟))، فقلت له: قد قلتُه، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: ((فإنك لا تستطيع ذلك، فصُم وأفطِر، ونَمْ وقُمْ، وصُمْ من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر))، قلت: إني لأُطيقُ أفضل من ذلك، قال: ((فصُم يومًا وأفطِر يومين))، قلت: إني لأطيق أفضل من ذلك، قال: ((فصم يومًا وأفطِر يومًا، فذلك صيام داود عليه السلام، وهو أفضل الصيام))، قلت: إن لأطيق أفضل من ذلك، فقال: ((لا أفضل من ذلك)).   وفي رواية: قال: ((لا صوم فوق صوم داود عليه السلام شطر الدهر، صم يومًا وأفطر يومًا)).   • قوله: (أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت الذي قلت ذلك" إلى آخره، وفي رواية: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عبدالله، ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل"، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: "فلا تفعل، صم وأفطر، وقُم ونَم، فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لزورك عليك حقًّا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله"، فشددتُ فشُدِّد عليَّ، قلت: يا رسول الله إني أجد قوةً، قال: "فصم صيام نبي الله داود عليه السلام، ولا تزد عليه"، قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال: "نصف الدهر"، فكان عبدالله يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبِلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية قال: فصم صيام داود عليه السلام، قال: وكيف؟ قال: "كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى"، قال من لي بهذه يا نبي الله وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد مرتين "، وفي رواية: "صم من الشهر ثلاثة أيام"، قال: أطيق أكثر من ذلك، فما زال حتى قال: "صم يومًا وأفطر يومًا،" فقال: اقرأ القرآن في شهر، قال: إني أطيق أكثر، فما زال حتى قال: "في ثلاث"، وفي رواية: إنك لتصوم الدهر، وتقوم الليل، فقلت: نعم قال: "إنك إذا فعلت ذلك، هجَمت له العين، ونفهَت له النفس، لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله"، وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له صومي، فدخل علي، فألقيت له وسادة من أدم حشوها ليف، فجلس على الأرض وصارت الوسادة بيني وبينه، فقال: "أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام"، قال: قلت يا رسول الله قال: خمسًا، قلت: يا رسول الله، قال: سبعًا، قلت: يا رسول الله، قال: تسعًا، قلت: يا رسول الله قال: إحدى عشرة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صوم فوق صوم داود عليه السلام، شطر الدهر، صُم يومًا وأفطر يومًا"، وفي رواية: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنَّته، فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشًا ولم يفتش لنا كنفًا مذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه، ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ألْقِني به، فلقيتُه بعدُ، وللنسائي: فوقع على أبي، فقال: زوجتك امرأة فعضلتَها، وفعلت، وفعلت، وفعلت، قال: فلم ألتفت إلى ذلك لما كانت لي من القوة، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ألْقِني به، فأتيته معه، ولابن خزيمة: إن لكل عامل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي، فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك، فقد هلك، وللنسائي: صم الاثنين والخميس من كل جمعة.   • قوله: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله)؛ أي: أفديك بأبي وأمي. • قال الحافظ: (قوله: وصم من الشهر ثلاثة أيام بعد قوله: فصم وأفطر - بيان لما أجمل من ذلك.   • قوله: (فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر)؛ لقول الله تعالى: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [الأنعام: 160]، وذلك مثل صيام الدهر.   • قوله: "فصم يومًا وأفطر يومًا، فذلك صيام داود عليه السلام، وهو أفضل الصيام"، قلت: إن لأُطيق أفضل من ذلك، فقال: "لا أفضل من ذلك".   • قال ابن التين: استدل على كراهته من هذه القصة من أوجه نهيه صلى الله عليه وسلم عن الزيادة، وأمره بأن يصوم ويفطر، وقوله: لا أفضل من ذلك، ودعاؤه على من صام الأبد، قال ابن العربي: قوله: لا صام من صام الأبد، إن كان معناه الدعاء فيا ويح مَن أصابه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان معناه الخبر، فيا ويح من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم[1].   • قوله: (لا صوم فوق صوم داود عليه السلام شطر الدهر، صم يومًا وأفطر يومًا)، فيه أن ذلك أفضل من صيام الدهر.   • قال الحافظ: (ويترجح من حيث المعنى أيضًا بأن صيام الدهر قد يفوت بعض الحقوق - أن مَن اعتاده، فإنه لا يكاد يشق عليه، بل تضعُف شهوته عن الأكل، وتقل حاجته إلى الطعام والشراب نهارًا، ويألف تناوله في الليل؛ بحيث يتجدد له طبع زائد بخلاف من يصوم يومًا ويفطر يومًا، فإنه ينتقل من فطر إلى صوم ومن صوم إلى فطر، وقد نقل الترمذي عن بعض أهل العلم أنه أشق الصيام ويأمن مع ذلك غالبًا من تفويت الحقوق؛ انتهى.   وعن ابن مسعود أنه قيل له: إنك لتقل الصيام، فقال: إني أخاف أن يُضعفني عن القراءة والقراءة أحب إلي من الصيام؛ رواه سعيد بن منصور)[2].   • قال الخطابي: محصل قصة عبدالله بن عمرو أن الله تعالى لم يتعبد عبده بالصوم خاصة، بل تعبده بأنواع من العبادات، فلو استفرغ جهده لقصر في غيره، فالأولى الاقتصاد فيه؛ ليستبقي بعض القوة لغيره[3].   • قال الحافظ: (وفي قصة عبدالله بن عمرو من الفوائد غير ما تقدم: بيان رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته وشفقته عليهم، وإرشاده إياهم إلى ما يصلحهم، وحثه إياهم على ما يطيقون الدوام عليه، ونهيهم عن التعمق في العبادة، لما يخشى من إفضائه إلى الملل أو ترك البعض، وقد ذم الله تعالى قومًا لازموا العبادة، ثم فرَّطوا فيها، وفيه الندب على الدوام على ما وظَّفه الإنسان على نفسه من العبادة، وفيه جواز الإخبار عن الأعمال الصالحة، والأوراد ومحاسن الأعمال، ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الرياء، وفيه جواز القسم على التزام العبادة، وفائدة الاستعانة باليمين على النشاط لها، وأن ذلك لا يخل بصحة النية والإخلاص فيها، وأن اليمين على ذلك لا يلحقها بالنذر الذي يجب الوفاء به، وفيه جواز الحلف من غير استحلاف، وأن النفل المطلق لا ينبغي تحديده، بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص، والأوقات والأحوال، وفيه جواز التفدية بالأب والأم، وفيه الإشارة إلى الاقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أنواع العبادات، وفيه أن طاعة الوالد لا تجب في ترك العبادة، ولهذا احتاج عمرو إلى شكوى ولده عبدالله، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ترك طاعته لأبيه، وفيه زيارة الفاضل للمفضول في بيته، وإكرام الضيف بإلقاء الفرش ونحوها تحته، وتواضع الزائر بجلوسه دون ما يفرش له، وألا حرج عليه في ذلك إذا كان على سبيل التواضع والإكرام للمزور، وقال أيضًا: وفي الحديث جواز تحدث المرء بما عزم عليه من فعل الخير، وتفقُّد الإمام لأمور رعيته كلياتها وجزئياتها، وتعليمهم ما يصلحهم، وفيه تعليل الحكم لمن فيه أهليَّة ذلك، وأن الأولى في العبادة تقديم الواجبات على المندوبات، وأن مَن تكلَّف الزيادة على ما طُبِع عليه، يقع له الخلل في الغالب، وفيه الحض على ملازمة العبادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مع كراهته له التشديدَ على نفسه، حضَّه على الاقتصاد، كأنه قال له: ولا يمنعك اشتغالك بحقوق مَن ذُكِرَ أن تُضيِّعَ حقَّ العبادة، وتترك المندوب جملةً، ولكن أجمع بينهما[4]؛ انتهى، وبالله التوفيق.


[1] فتح الباري، (4/ 220). [2] فتح الباري، (4/ 223). [3] فتح الباري، (4/ 221). [4] فتح الباري، (4/ 225).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن