أرشيف المقالات

(11) معرفة قطاع الطريق إلى الله تعالى - عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان - محمود العشري

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
القاعدة الحادية عشر: معرفة قُطَّاع الطريق إلى الله تعالى:
 
فهأنت قد شَمَّرت عن ساعد الجدِّ، وحثَثْت الهِمَّة الخاملة، وأوقدت نارَ العزيمة الخامدة، وألجَمْت هواك بلِجام الإرادة، وجمعتَ رقاب الأماني بزمام التوكُّل على الله في الفِعْل، وبدأت السَّيْر إلى الله -تعالى- لِتَصل إلى شهر رمضان وقد توقَّدَت عزيمتُك، وانقادت لك إرادتُك، وأذعنَتْ لك هِمَّتُك، لقد بدأت المعركة الحقيقيَّة مُذْ تمحَّض اختيارك لله وجدَّ سيرك إليه، ويممَّت القلب والقالب في الإقبال عليه، فاحذر حينئذٍ قُطَّاع هذا الطريق الوعر؛ فإنَّه طريق الجن َّة، وهو محفوف بالشهوات والهَوى والشياطين والنَّزغ والشُّبهات، وكلُّها أنواع لجِنس واحد، وهو العائق عن الوصول لِدَرب القبول، المُؤْذِن لشمس عزمك بالأفول، فتعال معًا نتذاكَرْ صفات بعض هؤلاء القُطَّاع ومكامِنهم وخدعهم؛ فبذلك تتعلَّم صفة الشرِّ؛ لتتجنَّبه، والمقصود بيان نماذج من هؤلاء القُطَّاع؛ ليُستدل بهم على غيرهم.
 
فمن هؤلاء القُطَّاع: الفُتور والسَّآمة والملل، وهو مِن أعظم ما يعتري السَّالكين، وقد يتَعاظم أمْرُه ويستفحل، حتى يكون سببًا للرِّدة والنُّكوص، والعياذ بالله! وغالب شأنِ هذا الفتور مِن كثرة الفرَح بالطاعة، وعدم الشُّكر عليها، وعدم رؤية مِنَّة الله فيها، ومشاهدة النَّفس في أدائها.
 
قال ابن القيِّم - رحمه الله - واصفًا ومحلِّلاً ومُعالجًا لهذا الدَّاء: فإذا نَسِي السَّالكُ نفْسَه، وفَرِح فرحًا لا يُقارنه خوف، فلْيَرجع إلى السَّير إلى بدايات سُلوكه وحِدَّة طلبه؛ عسى أن يعود إلى سابقِ ما كان منه من السَّيْر الحثيث الذي كانت تسوقه الخشية، فيترك الفُتور الذي لا بُدَّ أن ينتج عن السُّرور.
 
فتخلُّل الفترات للسَّالكين أمرٌ لازم لا بُدَّ منه، فمن كانت فترتُه إلى مُقارَبةٍ وتسديدٍ، ولم تُخْرِجه مِن فرض، ولم تُدْخِله في محرَّم: رُجِيَ له أن يعود خيرًا مما كان، قال عمر بن الخطاب : إنَّ لهذه القلوب إقبالاً وإدبارًا، فإذا أقبلَتْ فخُذوها بالنَّوافل، وإن أدبرَت فألزِموها الفرائض.
 
وفي هذه الفترات والغيوم والحجُب التي تَعْرِض للسَّالكين - من الحِكَم ما لا يَعْلم تفصيلَه إلاَّ اللهُ، وبهذا يتبيَّن الصادق من الكاذب، فالكاذب ينقلب على عقِبَيه، ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه، والصادق ينتظر الفرَج، ولا يَيْئس من رَوْح الله، ويُلقي نفسه بالباب طريحًا ذليلاً، مِسكينًا مُستكينًا، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه ألبتَّة، ينتظر أن يضع فيه مالِكُ الإناء وصانِعُه ما يصلح له، لا بسببٍ من العبد - وإن كان هذا الافتقارُ من أعظم الأسباب - لكن ليس هو منك، بل هو الذي منَّ عليك به، وجرَّدَك منك، وأخلاك عنك، وهو الذي: ﴿ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ [الأنفال: 24]، فإذا رأيتَه قد أقامك في هذا المقام فاعلَم أنَّه يريد أن يرحَمك، ويملأ إناءك، فإن وضَعْت القلب في غير هذا الموضع، فاعلم أنه قلب مُضيَّع، فسَلْ ربَّه ومن هو بين أصابعه أن يَردَّه عليك، ويجمع شملك به.
 
وقد أخبر النبي ُّ -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّ لكل عامل شِرَّة، ولكلِّ شِرَّة فَترة))، فالطالب الجادُّ لا بدَّ من أن تَعْرِض له فترة، فيشتاق في تلك الفترة إلى حالِه وقْتَ الطلب والاجتهاد، وربما كانت للسَّالك بدايةٌ ذات نشاط، كان فيها عالِيَ الهمة ، فيفيده عند فتوره أن يَرْجع إلى ذكريات تلك البداية، فتتجدَّد له العزيمة، ويعود إلى دأبه في الشُّكر.
 
وكان الجُنَيد - رحمه الله - كثيرَ الذِّكْر لبداية سَيْره، وكان إذا ذكَرها يقول: "واشَوْقاه إلى أوقات البداية"؛ يعني لذَّة أوقات البداية، وجمع الهم َّة على الطلب والسير إلى الله، والإعراض عن الخَلْق.
 
أمَّا إذا راودَتْك السَّآمةُ في عبادتك - كصلاةٍ أو ذِكْر أو تلاوة قرآن - فلا تُرسل زمام هواك للشيطان، محتجًّا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((فوالله، إنَّ الله لا يَملُّ حتى تملُّوا))، وقد ذكَرْتُ لك في تمارين العزيمة فقْهَ هذا الحديث ونحْوِه عن الأئمَّة الأعلام، فحريٌّ بمن ملَّ العبادة أن يعود إلى نفسه؛ هلعًا وخوفًا من أن يكون ذلك من إعراض الله عنه، ولْيَستحضر في قلبه سوء أدبه مع الله، وعدمَ تعظيمه وقَدْرِه حقَّ قدره؛ إذْ تَطِيب نفسه مع شهوات الدُّنيا، ومُعافسة الأولاد والزَّوجات للساعات الطِّوال، ثم هو يُبتلى في عبادته بالملل بعد لُوَيحظات معدودات، وما رُوِي عن بعض السَّلَف من أنَّهم كانوا يتكدَّرون لطلوع الفجر ؛ لأنَّه يحول بينهم وبين لذيذ المُناجاة فيُحمَل على أنهم يحزنون لعدم تواصل لذَّة المناجاة، لا أنَّهم كانوا يكرهون طلوع الفجر، ويقدِّمون قيام الليل على الفريضة، فهذا أبعَدُ ما يكون عن هَدْيِهم، ومُتواترِ سيرتهم، كيف وهم يَعْلمون أنَّ قرآن الفجر مشهود، تحضره الملائكة ، وترفع أمره إلى الله؟!
 
ومن قُطَّاع الطَّريق إلى الله: الوساوِسُ والخواطر الرَّديئة التي تَرِد على السَّالك طريقَ الآخرة، وتشمل هذه الخواطرُ الرديئة ما يَرِدُ على المبتلَيْن بالشَّهوات من التفكير في الصُّوَر، وفيما يعشقون، ومن يَهْوون...
وكذا أصحاب الحِقْد والحسد، والأمراض القلبيَّة، والآفات النَّفْسية، وكلُّها انحرافات سلوكيَّة؛ أيْ: في السَّالك طريق الآخرة.
 
ومِن أعظمها خطرًا: وساوس الشُّبهات في وجود الله، وذاته، وصفاته، وهذا مما ابتُلِي به كثيرٌ من شباب هذه العصور؛ لِغَلبة الأفكار الإلحاديَّة والعلمانيَّة، المبنيَّة على المادَّة والتفسير العِلْمي لكلِّ الظواهر الكونيَّة، وشيوع الفَحْشاء والشهوات الصارفة للقلوب عن مُمارسة عبوديَّتِها في التسليم والإذعان.
 
وتحليلاً للخواطر؛ يُمكِنُنا تقسيمُها إلى ثلاثة أنواع:
الأوَّل: خواطر الشُّبهات؛ وهي العارضة في شأن وجود الله وذاته وصفاته، وفي قُرآنه، وأنبيائه ورسله، وقضائه وقدَرِه.
والثاني: خواطر الشَّهَوات؛ وهي وارِداتُ الذِّهْن من الصُّوَر ونماذج المعشوقات.
والثالث: خواطر القلب من آفاتٍ وأمراض نفسية؛ كالكبرياء والعُجْب والحِقْد.
 
وعلاج النَّوع الأول: باستحضار اليقين ، وكلامُنا مع مَن اعتقد وجودَ الله؛ أمَّا المُلْحد فلا خطابَ معه، وعندي: أنَّ الإلحاد هو النَّوع الوحيد من الجُنون الذي يُؤاخَذ الإنسان به، فمَن أيقن وجود الله وربوبيَّته، وهيمنتَه وتصرُّفَه، وعدْلَه وحِكْمَته - مثَّل هذا اليقين بالشمسِ يراها، ثم يستعرض الشُّبهات ويمثِّلها بمن يُماريه في رؤيته للشمس، ويُجادله في الدليل المفيد لطلوعها، حينئذٍ يردِّد قولَه - عزَّ وجلَّ -: ﴿ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [إبراهيم: 10]، ويردِّد قوله: آمنتُ بالله، ويستعيذ بالله من نزغ الشيطان ، معتَصِمًا بالله، لائذًا بحفظه وكَلاءته، متعجِّبًا من تفاهة شُبهتِه:
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الأَذْهَانِ شَيْءٌ
إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ
 
وأما النوع الثانِي: فهو الأعمُّ الأفشى بين الناس، وعلاجه من أصعب العلاجات، لكنَّنا نأتي على ذِكْر جملةٍ من الفوائد المهمَّة، المُجتثَّة لهذا المرض من جذوره.
 
فاعلم - أيُّها الأريب - أنَّ الشهوات في أصلها فطريَّة قدَرِيَّة، لا فكاك للعبد منها، فهو مَفْطور على الغضب واللَّذة، وحُبِّ الطعام والشَّراب، غير أنَّ هذه الشهوات رُكزت في الجبِلَّة لغاياتٍ، هي: حفظ النَّفس بالطعام، وردُّ الاعتداء وصيانة الذَّات بالغضب، وحفظ النَّسل باللذَّة - أعني شهوة الفَرْج - فإذا تعدَّت هذه الشَّهوات غاياتها، كانت وبالاً على أصحابها؛ ولذلك جاء عن النبيِّ - عليه السَّلام - التنبيهُ على حِفْظ الفَرْج والبطن واللِّسان، وأنَّه مِن أعظم أسباب النجاة والفوز.
 
فإذا علمتَ ذلك، تبيَّن سلطانُك على هذه الشَّهوات، وأنَّ الله -تعالى- قد أَمَّرَك في الحقيقة عليها، وأعطاك زمام قيادتها، فما عليك إلا ممارسةُ هذه الإمارة دون خوفٍ أو تباطؤ.
 
وحسم مادة الشهوات يكون بِحَسم موارد حياتِها، وأهمُّ تلك الموارد حبُّ الدنيا ، والرغبة في نوال كلِّ ما يراه من جميلٍ فيها، فقَطْعُ شجرة الدنيا من القلب كفيلٌ بِصَرف الهمة مطلقًا عن الدنيا، والاهتمام بما تحصل به النَّجاة.
 
وهاك بعضَ الفوائد المُعِينة على حسم مادة الشهوات، وصَرْفِ واردات الخواطر الشيطانيَّة:
أوَّلاً: التبَرُّؤ من حول النفس وقوَّتِها، والالْتِجاء والاعتصام والاستعاذة بالله تعالى، ومن جليل ما ينبغي ترداده في حقِّ المبتلى بالشهوة: "لا حول ولا قوَّة إلا بالله"، ومعناها: لا تحوُّل عن معصيةٍ إلاَّ بمعونة الله - عزَّ وجلَّ - ولا قوَّة على طاعةٍ إلاَّ بتوفيقٍ من الله - تبارك وتعالى.
 
ثانيًا: تذكُّر المنغِّصات: سكرات الموت ، ونزع الرُّوح، والقبر وأهواله، وسؤال الملَكَين، والبعث والنُّشور، وأهوال يوم القيامة ، والمُثول بين يدي الله عاصيًا مذنِبًا، والنار وأهوالها.
 
ثالثًا: تذكُّر المشوقات: كلذَّة المناجاة، وتوفيق الله للطاعة، وشرف الولاية، والانتساب إلى حِزْب الله، والكرامات اللاَّئقة لأوليائه عند موتهم، ودخولهم الجنَّة وما فيها من الحور العين ، اللائي لا تُقارَن الدُّنيا كلها بأنملة من أنامل الواحدة منهنَّ، ورؤية الله يوم القيامة ، ورضوانه على أهل الجنة .
 
رابعًا: تذكُّر جمال خالق الجمال البشريِّ، الذي سماه الرسول -صلى الله عليه وسلم- جميلاً، فكلُّ جمال فُتِن به المرء لو تذكَّر معه جمال الله -تعالى- لتلاشَتْ كلُّ خواطره الرَّديئة.
 
خامسًا: تذكُّر مثالب الصور المعشوقة وآفاتها وأمراضها، وفساد بواطنها وظواهرها.
 
سادسًا: البُعْد عن المُثِيرات؛ كالسَّيْر في الطُّرقات العامة - وخاصَّة في هذه الأزمنة - وفي أماكن الفجور والفسوق، أو مشاهدة التليفزيون والفيديو، والمجلاَّت والجرائد السَّاقطة، التي تهدف غواية النُّفوس المطمئنَّة، وتحبُّ أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا، ومن هذا القبيل عدَمُ المكوث في خلوة إذا طرأ عارض الشَّهوة، بل يشتَغِل بالصَّوارف التي تلهيه عن تلك الخواطر؛ كذِكْر الله، وزيارة الصَّالحين، وحضور مجالس العلم ، أو خدمة الأهل والمسلمين.
 
ويَنصح ابنُ القيِّم بما يلي:
• العلم الجازم باطِّلاع الرَّب - سبحانه - ونظره إلى قلبك، وعِلمه بتفصيل خواطرك.
 
• حياؤك منه.
 
• إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في البيت الذي خلَقه لتُسْكِنَه معرفته ومحبَّته.
 
• خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.
 
• إيثارك له أن تُساكن قلبك غير محبته.
 
• خشيتك أن تتولَّد تلك الخواطر، ويستعر شرَرُها، فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبَّة الله، فتذهب به جملة وأنت لا تشعر.
 
• أن تعلم أن هذه الخواطر بِمَنْزِلة الحَبِّ الذي يُلقى للطائر ليُصاد به، فاعلم أن كلَّ خاطر منها فهو حبَّة في فخٍّ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر.
 
• أن تَعْلم أنَّ الخواطر الرَّديئة لا تجتمع مع خواطر الإيمان ودواعي المحبَّة أصلاً، بل هي ضِدُّها من كلِّ وجه.
 
• أن تعلم أنَّ الخواطر بحرٌ من بحور الخيال، لا ساحل له، فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه، وتاه في ظلماته، فيطلب الخلاص، فلا يجد إليه سبيلاً، فيكون بعيدًا عن الفلاَح.
 
• أن تعلم أنَّ الخواطر وادي الحَمْقى، وأماني الجاهلين، فلا تُثْمر إلاَّ الندامةَ والخِزْي، وإذا غلبَتْ على القلب أورثَتْه الوساوس وعزلَتْه عن سلطانها، وانسدَّت عليه عينُه، وألقَتْه في الأَسْر الطويل.
 
أما النوع الثَّالث - وهو آفات القلب؛ كالحِقْد والحسَد، والكبرياء والعُجْب - فهو باطن الإثم، قال -تعالى-: ﴿ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾ [الأنعام: 120]، وجِمَاع دواء هذه الآفات رؤية عَجْز النَّفس، وقيامها بالله، ومشاهدة حِكْمة الله -تعالى- وتصرُّفِه في الخلق، فمِثْل هذا الاستحضار يَحُول بينه وبين الاعتراض على تقسيم الرِّزق والنِّعَم، ويحول بينه وبين رؤية النَّفس وقدرتها، ويؤول به الحال إلى التسليم بِمنَّة الله وعدله وحكمته.
 
وقد تكلَّم الإمام ابن الجوزي - رحمه الله - كلامًا نفيسًا عن هذه الآفات في كتابه: "الطب الرُّوحاني"، فراجِعْه هناك؛ تجِدْ علاجاتٍ تفصيليةً لكلِّ آفة ومرض، وحَسْبُنا من الألْف شاهد مثالٌ واحد.
 
لكن ابن القيِّم - رحمه الله - يَلْمس مَكمن الداء، ويَصِفه وصفًا دقيقًا، ثم يقترح العلاج المناسب، فيقول: "واعلم أنَّ الخطرات والوساوس تؤدِّي متعلّقاتها إلى الفكر، فيأخذ الفِكْرُ فيؤدِّيها إلى التذكُّر، فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة إلى الجوارح والعمل، فتستحكم، فتصير عادة، فردُّها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوَّتِها وتمامِها، ومعلومٌ أنه لم يُعطَ الإنسان إماتة الخواطر، ولا القوَّة على قطعها وهي تَهْجم عليه هجوم النفس، إلاَّ أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها، ورضاه به، ومُساكنته له، على رفع أقبحها، وكراهته له، ونفرته منه، كما قال الصحابة : يا رسول الله، إنَّ أحدنا يجد في نفسه ما لأَنْ يحترق حتى يصير حممةً أحبُّ إليه من أن يتكلَّم به، فقال: ((أوَقدْ وجدتُموه؟)) قالوا: نعَم، قال: ((ذاك صريح الإيمان))، وفي لفظ: ((الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة)).
 
وفيه قولان:
أحدهما: أنَّ ردَّه وكراهته صريحُ الإيمان.
 
والثاني: أنَّ وجوده وإلقاء الشيطان له في نفسه صريح الإيمان؛ فإنه إنَّما ألقاه في النَّفس؛ طلبًا لِمُعارضة الإيمان، وإزالته به، وقد خلق الله - سبحانه - النَّفس شبيهة بالرَّحى الدَّائرة التي لا تَسْكن، ولا بُدَّ لها من شيءٍ تَطْحنه، فإن وُضع فيها حيٌّ طحنَتْه، وإن وضع فيها تراب أو حصًى طحنته؛ فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنْزِلة الحَبِّ الذي يوضع في الرَّحى، ولا تبقى تلك الرحى معطَّلة قطُّ، بل لا بدَّ لها من شيءٍ يوضع فيها، فمن الناس من يَطْحن رَحاه حَبًّا يخرج دقيقًا، ينفع به نفسَه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصًى وتِبنًا ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبيَّن له حقيقة طحنه".
 
فهذه نماذج من قُطَّاع طريقك إلى الله، وسفَرِك في درب الآخرة، وسعيك في عتق رقبتك من النار ، وبَذْل ثَمن الجنة، فاحذر مثل تلك الصَّوارف وأعِدَّ لها عُدَّتها، والله الموفِّق.
 
الكاتب: محمود العشري.

شارك الخبر

المرئيات-١