أرشيف المقالات

لا تترك ضميرك يسخر منك

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2لا تترك ضميرك يسخر منك

دَفِّيني يا بحر؛ فإني أحتمي تحت موجك، لست أغرق، ولست أتوه في طيش غضبك، فيك الأمان، طالما أتقنت السباحة بتسبيح اللسان والضمير لله، ثم لست أغرق ما دمت احْتَطْتُ لهيجانك المتمرد؛ لأني تعودت على التمرد، وأصبحت أخشى على نفسي من سكتة الضمير، وعلى غيري ممن لم يسكن الصدق قلوبَهم فراحوا في مغبة الهوان إلى غير رجعة إلى جادَّة الصواب، فلا هم نزلوا على شطك؛ لِيُمَتِّعوا أعينهم حلاوة المنظر فيك، ولا هم تَذَكَّروا إبداع الخالق في حدِّ مَدِّكَ غير المنتهي، وهذا تقصير له لمن لم يستمتع بمنظر الغروب في آخر أفقك، فالأجدر أن نعيش حياة كلها وضوح ومواجهة؛ لتصفو السرائر، وينقى العيش الهنيء، ولو فيه أمواج ثائرة على طول العمر.
 
لذلك؛ فضلاً، لا تتركوا ضمائركم تسخر منكم، بل دعوها تنطق، وبصوت عالٍ، وبكلمات من يقين، فالضمير الأبكم شيطانٌ أخرس، لطفًا يجب أن تعرفوا أن الإثم لا يحتاج إلى إصبع اتهام لإثبات الحقيقة؛ لذا فليبدأ كل واحد فينا بمحاكمة نفسه أمام الضمير، فشجرة الاستسلام لا تثمر أبدًا؛ لأنها نكست أغصانها للخوف، والجبن، والخور، وليعلم كل واحد فينا أن عواقب الصمت وَخِيمَة، بل أشد خطورة من أسبابه، فإلى أين بالسخرية والاحتقار؟ ثم إلى أين بالتعالي والإهانة؟ ثم - والأهم - إلى أين من عقاب الله إنْ رضيتم أن تبقى ضمائركم ساكتة؟
 
الكيل يفيض بما فيه، والإناء يسكب مما فيه، والأخلاق الرفيعة تظهر وقت المحن والشدائد، فإن كان على أصحاب الغرور المُزاح بأصحاب الهمة العالية؛ فهذا نوع من الجبن المخفي، لا يبرره سوى مُرَكَّب نقص كامن فيهم؛ لأن أصحاب الهمة العالية، وإن حطوا من أنفسهم، تأبى ضمائرهم إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعًا، فالخير لا يُدْرَك إلا بطاعة الله - عز وجل - والفضل لا يضيع إلا بمعصية الله، فهل أصبح الناس الكرام - وهم نوادر - لقمةً سهلة في أفواه المتكبرين؟
 
قد يبدو الأمر "نعم" في ملامحه في عيش الدنيا المختل، وقد يبدو "لا" بتصدي الكبرياء لعنفوان الظلم تحت مظلة الكلام المنمَّق، والتكرار المتكرر لأدب القول في غياب الفعل، نعم، إنه عصر الأقوال دونما أفعال، وإلا لما تبدَّل الحال من رِضَا الناس إلى سخط غير محمود الخواتيم.
 
أشك أن العبقرية تعجز في تفسير سلوكيات الناس اليوم، وأشك أن الضمائر تتعمد الصمت؛ حتى لا تبوح بما فهمَتْهُ العقول، وأدركتْه البصائر، لكني لست أشك أن الضمير الحي هو بطل المعركة، ولْيسألْ كلُّ واحد منا نفسه هذا السؤال: أليست الجنة طيبة، وطَيِّبًا نعيمُها؟ أليست النار زمهريرًا واشتد لهيبها؟ إذًا، لماذا تصمت الضمائر وهي مكلفة بالتنبيه والإرشاد إلى ما فيه الخير والصلاح؟
 
لا يزال الليل رائعًا بسكونه، وليس يطوي من القرون إلا وودع أُمَمًا أصبحت حكايا أو أساطير، ولم يبق منها شاهد، بل بقيت عِبَرًا وأمثالاً لخير الخلائق.
 
لا يزال الصبح متألقًا بلمعانه، وليس يطوي يومه إلا وختم خواتيم الأفعال نوايا وآمالاً، ولم يبق منه سوى سراب الطيور في هجرة الفصل البارد إلى حيث الدفء والهناء والقوت.
 
لا يزال المؤمن يتألق إلى مسحات الجمال، ولو طغى الباطل، وليس يحيد عن جادة الصواب إلا ويزداد ثباتًا وإصرارًا على إحياء الضمير في قول الحق، وتصحيح الخطايا، فلِمَ تريده يا إنسان بركانًا خامدًا من الإصرار على طيشك وأنانيتك في تعذيب الخلائق المتواضعة؟ هل سكن نهر جارٍ في محله لتسكن أنت في طبعك إلى ختام ستودعه يومًا ما؟
 
لا يزال المظلوم يبكي في جنح الليل؛ تأسفًا ومرارةً لما آل إليه خاطره لما مَدَّ يديه عطاءً، ولم يتوانَ يومًا ما عن الواجب، لكنَّ الصفعة كانت أشد على خده، في رد الجميل باحتقار لا ندَّ له، ومن ثم تُصِرُّ يا ظالم أنك لم تفعل شيئًا؟
 
طيِّبٌ لي من طيِّبِ القولِ أن أُحَدِّثَ ضميرك، ولا أحدث عقلك؛ لأن عقلك الآن غائب عن الوعي، ولا أقدر على محادثة من فقدوا الوعي بغير وعي؛ لذلك سأكتفي أن أنصح نفسي وإياك ألا تترك الضمير يسخر منها، فإِنْ سَخِرَ الضمير من النفس، التوى الساعد، وانكسر القلم، وتعطلت الكلمات؛ لأنها لن تنطلق في تصحيح الهفوات، ما دام الضمير يصر على كبت الصواب.
 
في الختام، ليقفْ كل واحد فينا وقفةَ تَمَعُّن، سيرى أن الله يرسل لنا في أحْلَكِ الأوقات وأشدها رسائلَ من نور تضيء لنا الطريق، فقد تكون شخصًا، أو حكمة، أو آية قرآنية، أو حديثًا شريفًا، كلها رسائل لإيقاظ الضمير، وتنبيه العين للتبصُّر، فلمَ تصرّ يا إنسان على السير وأنت معصب البصيرة إلى ما لا تعرف منتهاه؟
 
لسنا ندرك الجواب، ولكن لا تتركوا ضمائركم تسخر منكم، من يدري ربما سَخِرَ منكم من سخرتم منه بالأمس ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140]، تحياتي للمتواضعين، وللمحتسبين، والكاظمين الغيظ، وتحياتي لمن لم يَدَعْ ضميره يسخر منه في لحظة نصرةِ مظلوم، أو إعانةِ فقير ومريض، أو تَرَاجُع عن سُوءٍ نواه في قلبه، ولكل من لبَّى نداء من هو في حاجة، ولو أن أصحاب الحاجات لا يُظْهِرُون احتياجهم، وحدها الضمائر الحية من تُحِسُّ بهم، والتي لن تكون حية حتى يلجمها أصحابها بلجام السيطرة والمواجهة الحقة وقت الحق.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير