أرشيف المقالات

ما أحوجنا إلى الله !

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2ما أحوجنا إلى الله!
 
ما يفتأ المؤمنون في حاجة إلى ربهم، إلى عفوِه ورحمته وتأييده ومعيَّته، وهي حاجة متجددة مع كل حركة وسكنة، لا تبرح ساحة المؤمنين، سواءٌ في حال السَّراء أو الضراء، العافية والبأس، الشِّدة والرخاء، ولكنهم أحوج إليه عندما تدلَهِمُّ الخطوب، وتحاصرهم المشكلات، وتنزل بهم الكروب، فيرتمي الواحد منهم بباب الله منكسرًا متذللاً متضرعًا، يستنزل أسباب القوة والثَّبات والمنعة، مستصحبًا قول الله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [البقرة: 257]، فلا مخرجَ من ظلمات البغي والعدوان والتسلُّط إلا بفضل الولي المنعم سبحانه وتعالى، يأخذ بيد المؤمن المشتكي من ضَعفه وعجزه وهوانه إلى باحة النُّور المبين الذي يزيح كل ظلمة، وينير العقول والقلوب، ويهدي السالكين إلى أفضل السُّبل والمناهج، ويغمر المؤمن بالعزيمة القوية والطمأنينة السابغة.

في المقابل يأوي مَن لا دِين له ولا يقين إلى ما دون الله من الطواغيت؛ يطلب عندهم النَّجدة والفوز، فيُركِسونه في مزيد من الظلمات، وشتان بين من التجأ إلى ربِّ العالمين واتخذه ملاذًا عند الأزمات والكربات، وبين مَن ظنَّ أن نجاتَه بيد مخلوقٍ لا يبرح دائرة النسبية، لا مركزه السلطوي ولا الاجتماعي ولا المالي، ولو بدا في وقت من الأوقات منتفخًا بشيء من هذا منتفشًا به، والطاغوت باطلٌ تحرسه قوة؛ فهو معها إلى زوال ولو بعد حين، أما المؤمنون فهم آوون إلى ركن شديد؛ لذلك يدورون مع الحق حيث دار بثبات ويقين ولو كان لا يملِكُ القوة؛ لأنهم مع التوحيد الخالص لله تعالى، والولاية المذكورة في الآية الكريمة تنفي جميع أنواع الوثنيات، وتهدم الصنمية مهما كان اسمُها وشكلها، تستوي في ذلك الوثنية الدِّينية بصورتها الساذجة المتمثلة في عبادة غير الله، والوثنية السياسية التي يمثلها التشريع الوضعي المخالف لشرع الله، والذي يشير إليه حديثُ عدي بن حاتم رضي الله عنه:
أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهبٍ، فقال: ((يا عديُّ، اطرح عنك هذا الوثَنَ))، وسمعته يقرأ في سورة براءة: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 31]، قال: ((أمَا إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه))؛ رواه الترمذي.

كما تناقض الولاية الأصنام البشرية من أولياء وشيوخ وزعماء وأكابر من كل نوع؛ فالمؤمنون يجلُّون مَن يستحق الإجلال، ويقيمونهم المقام المناسب لعِلمِهم وصلاحهم وفضلهم، لكنهم لا يتجاوزون ذلك إلى إخراجهم من حدود البشرية وصفاتِ العبودية، لا أحياءً ولا أمواتًا، وكم من أتباعٍ أحسنوا الظن في متبوعيهم، وبالغوا في إسناد خصائصِ العظَمة إليهم - فانتهى بهم الأمرُ إلى إضفاء القُدسيَّة عليهم وعلى آرائهم وأقوالهم، واتخذوهم أولياءَ ولايةٍ حجبتهم عن الله تعالى وقدرته، حتى وهم يقرُّون له بذلك نظريًّا!

إن للمؤمنين تعاملاً حيًّا واعيًا مع ربهم، وبمقتضى إيمانهم بولايته، يُهرَعون إليه كأفراد وكأمَّة، يستقوُون به من الضَّعف، ويستنصرونه عند غلبة الظُّلم، ويبثُّون بين يديه أحزانهم وأشجانهم، مستحضرين صفات الربوبية والألوهية والولاية، فهو سبحانه وتعالى:
• ربٌّ قريب: لا يحتاج إلى المناداة، وإنما يناجيه المريض والمغلوب والعاجز عن الدفع عن نفسه فيسمع ويجيب: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ﴾ [المجادلة: 7].

• بابه مفتوح: لا يُغلَقُ في ليل ولا نهار، لا حاجب عليه ولا واسطة، لا يُخضع مَن يطرقه إلى أي تشريفات أو بروتوكول، لا حاجة إلى رجل دِين أو شفيع في الدنيا إلا ما كان من عمل صالح وإنابة صادقة: ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴾ [القمر: 10 - 13]، وحرف الفاء هنا يفيد الاستجابة الفورية، فما إن أقبل نوحٌ عليه السلام على ربِّه بالشكوى المتذلِّلة حتى فُتح الباب، وأُجيبت الدعوة، وهذا جديرٌ أن يحدث مع أيِّ مؤمن في أيِّ زمان.

• ربٌّ قادر: يتخذ المؤمنون اللهَ تعالى وليًّا؛ لأنه صاحب القدرة التي لا حد لها ولا نهاية؛ فهو القادر والقدير، لا يُعجِزه شيء ولا أحد عن إمضاء إرادته وإنفاذ مشيئته، القوة كلها له، فإذا احتمى به المؤمن واستقوى به أمدَّه بشيء منها، وكان يدَه التي يبطش بها، وحينئذ ينتصر على القوة الأرضية؛ لأنها خفيفة الوزن، ضئيلةٌ أمام القوة الربانية التي يغرف منها أولياء الله: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18].
• ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58].

وأين قوة المتجبِّرين من قوته؟ وأين مكرُهم من مكره؟ وأين هم من الله؟ ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: 91].

• ليس بغائب ولا بغافل: قد يعتمد الإنسان على صاحب قوة وسطوة وثروة ومنعة لقضاء حاجاته المشروعة وغير المشروعة، وللإفلات من المحاسبة والعقاب، لكن هذا الذي يعتمد عليه قد يغيب، وقد تضيع أسبابُ قوته، وقد يموت فتتلاشى امتيازات صاحبه وحصانته وينقلب ذليلاً مهزومًا، أما المؤمنون فاعتمادهم على ربٍّ تفرَّد بصفات الجمال والجلال والكمال، لا يغيِّبه نومٌ عميق ولا خفيف، ولا تأخذه غفلةٌ تَشغَله عن شأن جليل أو حقير من شؤون خَلْقه، هو مع الداعي المتضرع بالإجابة، ومع الظالم بالأخذ على يده والانتقام منه ولو بعد حين:
• ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ﴾ [النمل: 62].
•﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ [إبراهيم: 42].

•﴿ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ﴾ [الدخان: 12].

إن ولايةَ الله للمؤمنين تملأ أفئدتهم ثقةً بربهم، وتورِثهم ثقة بأنفسهم لاقتحام العَقبات الكَأْداء، خاصة في أزمة غربة الإسلام وهوان المسلمين، فما أحوج الأمةَ إلى الله في مثل الحِقبة الخانقة التي تجتازها! بين أعداء متكالبين، ومناصرين مقصِّرين، ودُخَلاء متربصين، ومنافقين جاهروا بنفاقهم نكاية في أهل الإيمان، هنا يجب مضاعفة الإقبال على الله في محاريب الصلاة والبيوت المؤمنة، وساحات الجهاد والمقاومة، ودروب الدعوة والسير إلى الله، فهذا أوان ظهور ولاية الله لعباده المؤمنين؛ يجبُرُ ضعفهم، ويقوِّي عزائمهم، ويثبِّت أقدامهم، ويَشفي صدورهم، ويُنير عقولهم ليدفعوا أمارات اليأس، وينهَضوا من الكبوة، ويستردُّوا المبادرة، ويُبطلوا سِحر السَّحرة المعاصرين والنبوَّات الكاذبة، والمصيبة كلُّ المصيبة أن يوكَل الناس إلى أنفسهم، ويُحرَموا مدَدَ السماء والتوفيقَ الإلهي، وقضية ولاية الله للمؤمنين لا يفقهها بداهةً إلا المؤمنون، أما اللادينيُّون والعَلمانيون فهم - برؤيتهم المادية ونظرتهم الدنيوية المحدودة - محجوبون عنها، فيسخَرون منها، ويعدُّونها مجرد وهمٍ، أو ذريعة نفسية لتغييب الواقع وتبرير العجز، وأنَّى لهم أن يفهموا لطيفةً إيمانية وهم منقطعون عن اللهِ والوحي وحقائق السماء؟ وماذا تُجدي خططهم وتحليلاتهم وهم يرونها تبُوء بالفشل الذريع منذ أمسكوا بزمام السياسة والإعلام والاقتصاد في بلادنا؟ وهذا يجعَلُ أَوْبة المؤمنين إلى أسباب التمكين أوكَدَ؛ ليرى القاصي والداني عجائبَ القدرة الإلهية عندما يتناسق سَير الصف المؤمن مع سُنن الله المجتمعية، ويستجمع ما استطاع من الأسباب، ويتوج ذلك بالتوكُّل على الله، فيستحق نيلَ ولاية الله تعالى...
فما أحوجَنا إلى الله عز وجل! إلى مصاحبة كتابِه تلاوةً وتدبُّرًا وعملاً! وإلى ذِكره ذِكرًا كثيرًا بالجَنان واللِّسان والحال! وإلى الائتمار بأمرِه والانتهاء عن نهيِه! وصبغِ حياتِنا بالسَّمت الذي يرتضيه! واسترخاص الأموال والأنفس في سبيل إعلاء كلمتِه، والانتصار لعباده المؤمنين المستضعَفين!

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١