أرشيف المقالات

بين الاقتداء والاستهزاء

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2بين الاقتداء والاستهزاء

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فلقد كثر الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الآونة الأخيرة، وليس مقالي هذا للدفاع عن جنابه العظيم صلى الله عليه وسلم؛ فقد تكفل ربنا عز وجل بذلك، فقال تعالى: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر: 95]، وإنما حديثي عن تفريط المسلمين في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكون ذلك أدى إلى تعرُّض رسولنا صلى الله عليه وسلم لمثل هذا الأمر.
 
فإن الله تعالى حثَّنا على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء إذا كنا مسلمين حقًّا، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]؛ أي: أيها المسلم الحقيقي، إن النبي صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة لك في كل مجالات الحياة، والسؤال الآن: هل كل واحد منا - نحن المسلمين - اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أحواله؟ هل منا من اقتدى - مثلاً - بالنبي صلى الله عليه وسلم في خُلقه الذي زكاه به ربه قائلاً سبحانه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]؟ للأسف الشديد الجواب: لا أحد يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب حق الاقتداء، بل يتهم بعضنا اليوم بعضًا، ويسُبُّ بعضنا بعضًا لأغراض دنيوية، مع أنه "لم يَكُنِ النبي صلى الله عليه وسلم سَبَّابًا ولا فَحَّاشًا ولا لَعَّانًا"؛ [صحيح البخاري]، كثرت معاملة السيئة بالسيئة، وانعدم التسامح فيما بيننا، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن "بِفَظٍّ ولا غَلِيظٍ، ولا سَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ، ولا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ"؛ [صحيح البخاري]، انتشر فينا من لا يرحم غليظ القلب، مع أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان رفيقًا رحيمًا لينًا، قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159].
 
حتى على مستوى الأسرة أصبح الخلاف الدائم بين الزوجين هو الأساس - إلا من رحم الله - مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وأنا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي))؛ [رواه الترمذي في سننه وصححه]، فكان صلى الله عليه وسلم دائمًا في خدمة أهله، رحيمًا بهم، يؤانسهم ويجالسهم ويحاورهم ويشاورهم، فلو اقتدى كل واحد منا بالنبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أهله، لانحلت كثير من المشكلات الزوجية التي نسمع عنها.
 
لم يقتدِ أحد منا - إلا من رحم الله - بالنبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأبناء والتعامل معهم، فمعظم المسلمين اليوم في هذا الشأن على صنفين: صنف يترك الابن يفعل ما يشاء ولا يبين له الحلال من الحرام، ويظن أن هذا من الحنو على الولد والعطف عليه والحب له! وصنف ثانٍ غليظ شديد على ولده، ينهره في كل تصرف يقوم به! بينما نجد قدوتنا صلى الله عليه وسلم كان رحيمًا بأبنائه رفيقًا، يعلمهم الحلال والحرام، ولا يتركهم فريسة للأفكار الهدامة، فها هو صلى الله عليه وسلم يلاعب الحسن والحسين، ويحذر من قسا قلبُه على أبنائه فلم يُقبِّلهم ولم يلاعبهم قائلاً له: ((من لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ))؛ [رواه البخاري ومسلم في الصحيحين]، وفي مقابل هذا إذا رأى من أبنائه ارتكاب الخطأ علَّمهم الحلال والحرام، فها هو الحسن بن علي رضي الله عنهما يأخذ تمرةً من تمر الصدقة فيجعلها في فيه، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ((كخ كخ)) ليطرحها، ثم قال: ((أمَا شعرت أنَّا لا نأكل الصدقة؟!))؛ [رواه البخاري ومسلم في الصحيحين]، فلو اقتدى كل واحد منا بالنبي صلى الله عليه وسلم في التربية، لكان هناك جيل ينشأ نشأة صالحة، يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وينشر الإسلام، ويُعرف الناس بهذا الرسول العظيم عن طريق السلوك الحسن والتعامل الحكيم.
 
فوالله لو اقتدينا بالنبي صلى الله عليه وسلم حقًّا، ما وُجد بيننا من يكفرنا ويبيح قتلنا.
 
لو اقتدينا بالنبي صلى الله عليه وسلم حقًّا، ما وُجد بيننا من يسعى لإفساد ذات البين.
 
لو اقتدينا بالنبي صلى الله عليه وسلم حقًّا، ما وُجدت البغضاء والشحناء بيننا.
 
لو اقتدينا بالنبي صلى الله عليه وسلم حقًّا، لكنا كما أرادنا أمة مترابطة كالجسد الواحد.
 
فيوم أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم حقًّا، ويؤدي كل منا مسؤوليته تجاه ربه وتجاه مجتمعه - يومها ستكون العزة والكرامة لهذه الأمة، يومها لن يجرؤ أحد مهما بلغ شأنه أن يتطاول على معلِّم البشرية وسيدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
فأفيقوا أيها المسلمون وأنصفوا نبيكم صلوات الله وسلامه عليه بالاقتداء به، وكونوا كما أرادكم خير أمة تعلم البشرية سبل الهداية والرشد.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢