أرشيف المقالات

المعاصي القلبية

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2المعاصي القلبية   الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فللمعاصي التي يرتكبها الإنسان بجوارحه أثرُها العظيم على بدنه ونفسه وقلبه؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن للسيئة لظلمة في القلب، وسوادًا في الوجه، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق.   وقال الحسن رحمه الله: إن العبد المؤمن ليعمل الذنب فلا يزال به كئيبًا، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: المعاصي سبب المصائب، وقال: العمل السيئ مثل الكذب – مثلًا - يعاقب صاحبه في الحال بظلمة في القلب وقسوة، وضيق في صدره، ونفاق، واضطراب، ونسيان ما تعلَّمه، وانسداد باب علم كان يَطلُبه، ونقص في يقينه وعقله، واسوداد وجهه، وبُغضه في قلوب الخلق، واجترائه على ذنب آخرَ مِن جنسه، أو من غير جنسه، وهلمَّ جرًّا، إلا أن يتداركَه الله برحمته.   وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: الذنوب والمعاصي تضر، ولا شك أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان.   وآثار الذنوب والمعاصي كثيرة جدًّا، وقد ذكَرها وفصَّلها العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم النافع: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي".   والموفق من استشعَر خطورة الذنوب، فسارع بالتوبة منها، فسلِم من أضرارها في الدنيا، وآثامها في الآخرة.   المعاصي القلبية: عندما تُذكَر المعاصي لا يدور في خلد الكثيرين إلا المعاصي الجسدية، ويغفلون عن ما هو أشد منها، وهي المعاصي القلبية؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: واعلم أن كثيرًا من الناس يسبق إلى ذهنه من ذكر الذنوب: الزنا والسرقة، ونحو ذلك، لكن الذنوب تتنوع، وهي كثيرة الشُّعب، كالتي من باب الضلال في الإيمان، والبدع التي هي من جنس العُلو في الأرض بالفساد، والفخر، والخُيلاء، والحسد، والكبر، والرياء.   حكم المعاصي القلبية: المعاصي القلبية: منها كفر، ومنها معاصٍ كبائر وصغائر، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: والمحرمات التي عليه - يعني القلب - نوعان: كفر ومعصية، فالكفر: كالشك والنفاق، والشرك، وتوابعها، والمعصية نوعان: كبائر، وصغائر، فالكبائر: كالرياء، والعجب، والكبر، والفخر، والخيلاء، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، وتمنِّي زوال ذلك عنهم، وتوابع هذه الأمور، ومن الصغائر: شهوة المحرمات وتمنِّيها.   الغفلة عن المعاصي القلبية: غفلة بعض الناس عن المعاصي القلبية، جعلتهم يتهاونون في ارتكابها؛ يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: فواجبات القلوب أشدُّ وجوبًا من واجبات الأبدان، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل من الفضائل والمستحبات، فتراه يتحرَّج من فعل أدنى المحرمات، وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشدُّ تحريمًا وأعظم إثمًا.   خطورة المعاصي القلبية: الكبائر إما أن تكون ظاهرة - وهي التي تكون بالجسد - وإما أن تكون باطنة - وهي التي تُفعَل بالقلب - وقد قدَّمها الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله في كتابه "الزواجر عن اقتراف الكبائر" على الكبائر الظاهرة، معللًا ذلك بقوله: الباب الأول: في الكبائر الباطنة وما يتبعها، وقدَّمتها؛ لأنها أخطر، ومرتكبها أذل العصاة وأحقر، ولأن معظمها أعمُّ وقوعًا، وأسهل ارتكابًا، وأمرُّ ينبوعًا، فقلَّما ينفك إنسان عن بعضها، ولقد قال بعض الأئمة: كبائر القلوب أعظم من كبائر الجوارح؛ لأنها كلها توجب الفسق والظلم، وتزيد كبائر القلوب بأنها تأكل الحسنات، وتوالي شدائد العقوبات.   ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله: والمحرمات التي عليه - يعني القلب - أشد تحريمًا من الزنا، وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة.   آثار المعاصي القلبية: إن للمعاصي القلبية آثارًا عظيمة؛ منها: أنها تمرض القلب، وهذا المرض يفسد به تصوُّره للحق وإرادته له، فلا يرى الحق حقًّا، أو يراه على خلاف ما هو عليه، أو ينقص إدراكه له، وتفسد به إرادته له، فيبغض الحق النافع، أو يحب الباطل الضارَّ، أو يجتمعان له وهو الغالب؛ ذكر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله.   ومنها: أنها قد تكون سببًا في سوء الخاتمة؛ يقول الإمام ابن رجب رحمه الله: خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة لا يطَّلع عليها الناس.   ومنها: أنها من أسباب الوقوع في الأمراض والأزمات النفسية، فما يعانيه كثير من الناس اليوم من قلق والآلام نفسية من أهم أسبابها الوقوع في المعاصي القلبية.   ومنها: أنها من أسباب حرمان حلاوة الإيمان، ولذة الطاعة.   الوقاية من المعاصي القلبية: من رام أن يتجنب الوقوع في المعاصي القلبية، فعليه أن يعمُر قلبَه بالطاعات القلبية؛ كمحبة الله ورسوله علية الصلاة والسلام، والإخلاص، والتوكل، والخوف، والرجاء، والصبر، والرضا، والشكر، والصدق، والحياء، والإنابة، ونحوها، فهي سد منيع يحجز مَن امتلأ قلبه منها من الوقوع في المعاصي القلبية، وإن مما يعين المسلم على ذلك، بعد توفيق الله له، أمور؛ منها: • قراءة القرآن الكريم بتدبر: قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فلا شيء أنفعُ للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة، والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله.   وقال العلامة السعدي رحمه الله: تدبُّر القرآن يزيد في علوم الإيمان وشواهده، ويقوِّي الإرادة القلبية، ويحث على أعمال القلوب من التوكل والإخلاص، والتعلق بالله، الذي هو أصل الإيمان.   • دوام ذكر الله عز وجل: قال العلامة ابن القيم رحمه الله: من أراد محبة الله عز وجل، فليَلهج بذكره.   • طلب العلم الشرعي: قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، وهذا حصر لخشيته الكاملة في العلماء، فمن طلب العلم ونيَّته الانتفاع به، وتزكية نفسه، أورَثه العلم الخشيةَ والتعظيم لله.   • القراءة في سيرة أصحاب القلوب الربانية: في مقدمتهم نبيُّنا وقدوتنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وسلفُ هذه الأمة وصالحوها.   * الدعاء والتضرع بصلاح القلب وزكاته: فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسالك قلبًا سليمًا)؛ أخرجه أحمد، والترمذي.   ومن وقع في المعاصي القلبية، فينبغي له المبادرة بالتوبة منها؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكثير من الناس لا يستحضر عند التوبة إلا بعض المتصفات بالفاحشة أو مقدماتها، أو بعض الظلم باللسان أو اليد، وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: وأكثر المتنزهين عن الكبائر الحسية في كبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها، ولا يخطر بقلوبهم أنها ذنوب ليتوبوا منها.   ويقول العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: يجب على الإنسان أن يطهر قلبه تطهيرًا كاملًا من كل زغل وخبث، وأن يعني بطهارة قلبه أكثر مما يعتني بطهارة بدنه؛ لأن طهارة القلب عليها المدار، وبها تكون طهارة الأعمال الظاهرة.   والكلام عن المعاصي القلبية لا يعني التهوين أبدًا من المعاصي الجسدية، فلا بد من مجاهدة النفس في اجتناب المعاصي القلبية والجسدية معًا، وسرعة التوبة منها في حال الوقوع في شيء منها.   حفظنا الله وجميع إخواننا المسلمين من الوقوع في المعاصي القلبية والجسدية.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢