أرشيف المقالات

أحباب الله

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2أحباب الله


الحمد لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على نبينا محمد الصادق الوعد الأمين.

لا شكَّ أن محبةَ الله غايةُ كلِّ مؤمن؛ فإن كلَّ عطاء، وكلَّ بذل، وكلَّ صبر، وكلَّ سعي، وكلَّ ما يقدمه المؤمن الصادق - من أجل تلك الغاية السامية، فإذا أحبَّ اللهُ العبدَ أسعده في دنياه وآخرته، وتجلَّى عليه بالتوفيق والسداد، ووهبه الحكمة والرشاد، وأدخَلَه في واسع رحمته ودار كرامته.


وإن محبةَ الله للعبد، وذِكره إيَّاه أعظمُ من محبته وذكرهُ هو له؛ لأن العبد لو أحبَّ الله وذكَرَه هذا شيءٌ فطري؛ فهو الذي خلقه، ورزقه، وآتاه من كلِّ ما سأل، ونِعَمُه عليه لا تُحصَى ولا تُعدُّ ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]، والنفوس جُبِلتْ على حبِّ مَن أحسن إليها؛ فهو الذي خلق ورزق، وأَعدَّ لهم جناتِ عدنٍ - إن هم أطاعوه - لا تفنى فيها الأعمار ولا تنقضي، لهم نعيم دائم في جنان الخلد، وقصور وحورٌ عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، وفواكه وهم مكرمون، قال تعالى في وصفِ ما أعدَّ لعباده المؤمنين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾ [البروج: 11] وغيرها من الآيات كثير.


فتعالَوْا يا أحبتي نتلمَّس مَن هم أحباب الرحمن، وما هي صفاتُهم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن لهم صفاتٍ وأحوالاً جليلة.


إنهم أقوام خاضوا مع نفوسهم حروبًا مريرة، حتى فتحوا حصون نفوسهم وشيطانهم، مرفرفِينَ بلواء الانتصار؛ فاستحقوا بذلك محبةَ الله، فإن الإقبال على ما يُحبُّ اللهُ ورسوله يُخالِفُ رَغَبات النفس والشيطان؛ فالنفس أمَّارة بالسوء، والشيطان يُوسوسُ للإنسان بذلك، ولا بد من مجاهدة النفس؛ كي تزكوَ وتكون طاهرة طيبة، فإن طابتقُبلت؛ لأن الله جل في علاه طيِّبٌ لا يقبل إلا طيبًا، فتنال محبةَ خالقها لها.

فمحبة الله أصلُ المحبة، والمؤمن لا ينصرفُ قلبُه عن محبته ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ [البقرة: 165]، المؤمنون أشدُّ حبًّا لله نعم.


سبحان الله! باعثُ الحب عند الإنسان دائمًا باعث جمالي؛ فالإنسان لا يحبُّ إلا الجميل، وليس شرطًا أن يكون الجمال شكليًّا، فقد يكون الجمال معنويًّا، فالذي يحب امرأةً ليست جميلةَ الشكل، ويتعلَّقُ بها - وجد جمال المعنى، وكما قيل: "الحبُّ أعمى"، فهذا الإنسان الذي ما عرف أصل الجمال والحبِّ، وانصرف لجمال الفرع، فتعلَّق قلبُه بجمال الدنيا ونسائها، وولدانها وأموالها، ونسِيَ أن هذا الجمال مسحةٌ من جمال الخالق، فهناك جمال في الدنيا الحقيرة يسلب العقول ويحيرها، ويسحر النفوس، فكيف بجمال خالقها جل في علاه؟! فالله عز وجل هو الجميل جل في علاه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن اللهَ جميلٌ يُحِبُّ الجمالَ))؛ أخرجه مسلم.

الله تبارك وتعالى هو الجميل الذي له الجمال المطلق في كل شيء، وجماله سبحانه على أربع مراتب:
جمال الذات، وجمال الأسماء، وجمال الصفات، وجمال الأفعال.

فأسماء الله عزَّ وجلَّ كلُّها حسنى، وصفاته كلُّها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة.

 
أما جمال الرب تبارك وتعالى في ذاته، وما هو عليه من الحسن والجمال والكمال، فأمر لا يدركُه سواه، ولا يعلمه غيره ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ولا أعني بذلك الحبَّ الفطري؛ كحب الوالدين، والزوجة، والأولاد...
إلخ؛ فهذا حبٌّ فطري، ومباح ومأمور به شرعًا، ولكن ينبغي ألا يَصرِفَ العبد عن الأصل؛ وهي محبة الله.

وقد وردت آيات في كتاب الله تُبيِّنُ مَن هم أحبابُ الله؟ فإن محبة الله لها دلائل وعلامات وأفعال تدل عليها، أَضَعُها بين أيديكم:
1- ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]:
اتباع الرسول فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه عليه أفضل الصلاة والسلام، وهذه الآية الكريمة حاكمةٌ على كلِّ مَن ادَّعى محبةَ الله تعالى، وليس متَّبِعًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم حقَّ الاتباع، ولا مطيعًا له في أمره ونهيه، فإنه غير صادق في دعواه حتى يتابع الرسولَ صلى الله عليه وسلم حقَّ الاتباع.


2- ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]:
الإحسان المُطلَقُ مع الله ومع النفس ومع الناس ومع الدواب والأنعام، فكن محسنًا في كل شيء، ومع كل شيء؛ حتى تنال محبته سبحانه.


3- ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]:
يحبُّ الله "التوَّابين"؛ فمهما تكرر الذنب فعُدْ لخالقك واستغفره، ولا تدع لشيطانٍ عليك سبيلاً، و"المُتطهِّرين" فالطُّهْرةُ هنا حسية ومعنوية، فديننا دينُ الطُّهر والكمال، فينبغي أن يكون المؤمن تقيَّ القلب، طاهرَ السريرة، ومتطهِّرًا أيضًا من الذنوب والفُحْش والبذاءة، وكل ما لا يليقُ بالمؤمن.
 
4 - ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 4]:
التقوى: ترك المحرمات، وأداء الواجبات، فقبل أن تُقدِمَ على أي أمر أو فعل، اسأل نفسك: هل يرضي اللهَ ورسوله؟ فمن اتَّقى الله في معاملته وأفعاله وأقواله، ومع والديه وزوجه وبنيه، وكسب ماله، ومع مَن حوله حتى مع البهائم، وأدخل اليوم الآخر في حساباته اليومية - وبالأدقِّ الحظية - يفوز بمحبة الله.
 
5- ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]:
الصبرُ على القضاء والقدر، والصبرُ عن الشهوات، وعلى الطاعات؛ فإن الصبر سيدُ الأخلاق، وجزاؤه عطاءٌ بلا حساب، وفي القرآن الكريم ما لا يُحصَى من آيات الصبر وما أعدَّ الله للصابرين، ويكفي محبةُ ربِّهم لهم.
 
6- ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]:
التوكُّلُ على الله، وقطع طريق الطمع إلا في رحمته وقدرته، فهذا الذي يتوكَّلُ على ربِّه بعد بَذْل الأسباب الشرعية، ويَعقِدُ الأمل بالله، ويرى أن الله لا يتخلَّى عنه؛ فهو دائمًا متوكِّل عليه سبحانه - ينال محبته أيضًا.
 
7- ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة: 42]:
العَدلُ في الحُكم بين الناس.
 
8- ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف: 4]:
• الثَّباتُ عند قتال العدو، ومجاهدته في سبيل الله.
 
أما ما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم:
1- كثـرة النوافــل:
الحرص على الفرائض من الطاعات، والنوافل والعبادات؛ من طلب علم، وصلاة، وصيام، وتلاوة قرآن، وذكر وصدقة...
إلخ.

ولا تحمِّلْ نفسك فوق طاقتِها؛ فإن أحبَّ العمل إلى الله أدومُه وإن قلَّ؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قال: مَن عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصِر به، ويدَه التي يَبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه))؛ رواه البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أحبَّ الله العبدَ، نادى جبريل: إن الله يحبُّ فلانًا فأحبِبْه؛ فيُحبُّه جبريل، فينادي جبريلُ في أهل السماء: إن اللهَ يُحبُّ فلانًا فأحِبُّوه؛ فيُحبُّه أهلُ السماء، ثم يُوضَع له القَبولُ في الأرض))؛ البخاري عن أبي هريرة.


فأيُّ فضل أعظم من أن يُحبَّك اللهُ خالق الأكوان، ومولاك وخالقك أيها العبد الفقير؟ فلو أحبَّ ملِكٌ من ملوك الدنيا واحدًا من رعيَّته، لحسده الناس على تلك المحبة، فكيف بمَلِك الملوك جل في علاه يذكر اسمَك في أعلى علِّيِّين، ويقول: إنه يُحبُّك؟ فليس بعدَ محبة الله إلا رضاه وجنته، وتوفيقه والفلاح العظيم.


ولكن الناس يتفاوتون في المحبة، فمِن أحبِّهم إلى الله:
الذي يَنفَعُ الناس:
2- قال صلى الله عليه وسلم: ((أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس))، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يُبيِّنُ أن أحبَّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس، ومعنى ذلك أن الناس يتفاوتون في محبة الله عز وجل لهم، وأن أحبَّهم إليه سبحانه أنفعُهم للناس، فكُلَّما كَثُر نفعُ العبد لإخوانه المسلمين ازدادت محبةُ الله تبارك وتعالى له، وكلما نقصت منفعةُ العبد لإخوانه نقصَت محبتُه له.

 
والنفع المذكور في قوله عليه الصلاة والسلام: ((أحبُّ الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس)) لا يقتصر على النفع المادي فقط، ولكنه يمتدُّ ليشمَلَ النفع بالعلم، والنفع بالرأي، والنفع بالنصيحة، والنفع بالمشورة، والنفع بالجاهِ، والنفع بالسلطان، ونحو ذلك، فكل ما استطعتَ أن تنفع به إخوانَك المسلمين فنفعتَهم به، فأنت داخل في الذين يحبهم الله تعالى.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يُلقي اللهُ حبيبَه في النار))؛ صحَّحه الألباني وغيره؛ ولذلك لما قالت اليهود والنصارى: ﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ [المائدة: 18]، أمر الله تعالى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: ﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ﴾ [المائدة: 18].

فلو كنتم أحبابَه ما عذَّبكم؛ لأن الحبيب لا يُعذِّبُ حبيبَه، ولنا في النبي صلى الله عليه وسلم القدوةُ الكاملة فيما يُحبُّه الله ويرضاه، وفيما قدَّمه الصحابة الكرام رضي الله عنهم لأجل محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

أسأل الله بمَنِّه وكرمه أن يجعلنا من أحبابه الساعين لما يحب ويرضى حتى نلقاه.

هذا، والله أعلم، فإن أصبتُ فمن الله وحده، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢