أرشيف المقالات

الكلام العافية!

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
2الكلام العافية![1]


لَطالما قالت لي أمي عند سؤالي المُلحِّ لها عن تأخُّر بعض أحلامي، ورغبتي في الحصول على بعضها في نفس اللحظة: (الكلام العافية).
لم أَفْهَمْ، ولم أَكُنْ أريدُ أن أَفْهَم هذه العبارة؛ لكثرة العبارات التي كنتُ يومَها أَتظاهَرُ بفهمها، وأنا في الحقيقة لا أَفْقَهُ معناها، ومَضَيْتُ أَلْعَبُ، وكلما جدَّ لي حلمٌ أو رغبة، أتيتها لأخبرَها فتردُّ: (الكلام العافية)، حتى كادت تَفْطِمني عن الأحلام والرَّغَبات!
وكبرْتُ، وشَقَقْتُ طريقي خلفَ أقراني لمواصلةِ الدراسة، وهناك حصَلْتُ على معنى تلكم العبارة العظيمة، التي كانت تلك الأم العظيمة تستخدمُها؛ لكي تعالج ما بصغيرِها من طيش، وتعالج ما بها من غصصِ العَيْشِ!
وبعد أن فهمتُها جيدًا؛ نضحتها على صدور مَن يأتونني يَشكون تأخُّرَ أحلامهم، فتَسْكُنُ أرواحُهم، وتنحلُّ عُقَدٌ اعترَضَت طريقَهم، ويتجدَّد نشاطُهم، وتُفتَح أبوابٌ أَيِسُوا من أن تُفتَحَ لهم!
 
من فيوضات هذه العبارة العظيمة ما رواه أحمد والترمذي عن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم العباسِ بنِ عبدالمطلب، يقولُ: قلتُ: يا رسولَ الله، علِّمني شيئًا أسألُه اللهَ، قال: ((سَلِ اللهَ العافيةَ)) فمكثْتُ أيامًا، ثم جئتُ فقلت: يا رسولَ الله، عِلِّمْني شيئًا أسأله اللهَ، فقال لي: ((يا عبَّاسُ، يا عمَّ رسول الله، سَلِ اللهَ العافيةَ في الدنيا والآخرة))؛ رواه الترمذي.
 
أيا أصحابَ الأحلام المؤجَّلة، سلوا اللهَ العافيةَ، أيا مَن تَرْقُبون في طابور الحياة الطويل مشاريعَ لم تَبْرُقْ غيومُها بعدُ، سَلُوا اللهَ العافية، أيا مَن تسهرون أقمارًا، وتُنْفِقون أعمارًا، وتجهدون ولا تجدون ثمارًا، سَلُوا اللهَ العافيةَ!
عافيةُ الدين هي العافيةُ العُظْمَى التي يسألُها المؤمن، ويرجوها؛ لأنه بها ينجو، ثم يسألُ اللهَ عافيةَ الدنيا في جسده، وولده، وماله، وأهله، وعمله.
 
قال صلى الله عليه وسلم: ((سَلُوا اللهَ العفوَ والعافيةَ؛ فإن أحدًا لم يُعطَ بعدَ اليقين خيرًا من العافيةِ))؛ رواه أحمد.
 
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: لم يَكُنْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هؤلاء الكلمات حين يُمسي وحين يُصبِحُ: ((اللهم إني أسألك العافيةَ في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألُك العفوَ والعافيةَ في ديني، ودنياي، وأهلي، ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمِنْ رَوْعاتي، اللهم احفظني من بين يَدَيَّ، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتالَ من تحتي))؛ رواه ابن ماجه.
ليس هناك أَلْأَمُ ولا أَشْأم ممَّن يُوظِّفُ عافيةَ الله له في معصيته! كيف يعصي الله بإحدى نعم الله؟! كيف يعصي الله على أرضِه؟! كيف يعصي مَن يُطعِمُه ويسقيه، ويكسوه ويُغنيه، ويُميتُه ثم يُحييه؟!
ما أكثرَ ما تتقلَّبُ فوق رَحْلِ العافية! وما أطولَ ما تتلذَّذُ بحلاوة العافية! وما أجملَ ذلك اللِّباسَ الذي ألبَسَك إياه بارئُك! فإن اعترضَك عارضٌ، فكن عليه صابرًا، وإياك أن تتضجَّرَ من مَمَرٍّ أنت له عابرٌ!
 
يقول الإمام ابن القيم: (مَن تلمَّح حلاوة العافية، هانت عليه مرارةُ الصبر).
 
ويقول إبراهيم طوقان:






إليك توجَّهْتُ يا خالقي
بشكرٍ على نعمةِ العافيةْ


إذا هي ولَّت فمَن قادرٌ
سواك على ردِّها ثانيةْ؟


وما للطبيبِ يدٌ بالشفاءِ
ولكنَها يدُك الشافيَّةْ


تباركت، أنت معيدُ الحياةِ
متى شئتَ في الأعظمِ الباليةْ


وأنت المُفرِّج كربَ الضعيفِ
وأنت المجيرُ من العاديَةْ






 



[1] (الكلام العافية): عبارة تهامية دارجة تعني إذا حصلت العافية حصل معها كل شيء.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣