أرشيف المقالات

زفاف إلى الآخرة

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2زفاف إلى الآخرة


يستعدُّ العروس ويرتدي ملابسه، وينظِّم هندامه، ويظهَر في أبهى حلله، ويَنتهي ليحضر رفاقه، وتبدأ الزفَّة، يحضر عروسه، التي كانت هي أيضًا بمنتهى السعادة، فهذا هو أجملُ أيَّامِ حياتِها الذي طالَما انتظرتْه وحلَمتْ به منذ الصِّغَر، وارتدت الفستان الأبيضَ، واستعدَّت بأجمل إطلالاتها لعروسها ولحياتها الجديدة، لكن الحياة الجديدة قدِّر لها أن تكون هناك عند الله، بعيدًا عن دنيا العبيد، بعيدًا عن منغِّصات الحياة، بعيدًا عن هموم الدنيا!
 
إنه مشتِّت الجَماعات، هازم اللذات، عابر القارات، إنه مفرِّق الأحباب، متعدِّد الأسباب، لا يعبأ بالألقاب أو الأنساب، لا يُرسل إشارةً فيُنذر، ولا يطرق بابًا فيستأذن، لا تردُّه أمجاد، ولا تؤجِّله أعياد، ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34]!
 
إنه الموت!
مهما أنجبتَ مِن أولاد، ومهما كنزت من أموال، ومهما جمعت من أطيان، ومهما عشتَ مِن سنَوات، لا بدَّ مِن الموت!
كيف؟
"عشْ ما شئت فإنَّك ميِّت، وأحببْ من شئت فإنك مُفارِقُه، واعمل ما شئت فإنَّك مجزيٌّ به"؛ أخرجه الشيرازي، والحاكم، والبيهقي، عن علي.
 
لا بدَّ لك من لقاء ربك؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6]، إذًا لا بدَّ من الاستعداد للموت.
 
"إن أكيَسَكم أكثرُكم للموت ذكرًا، وأحزمَكم أشدُّكم استعدادًا له، ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزوُّد لسُكنى القُبور، والتأهُّب ليوم النشور"؛ ورد في الأثر.
 
العاقل هو مَن فكَّر في مصيرِه، في مستقبله، في قبره، في لقائه بربه! قال أحد الصالحين: العُقلاء ثلاثة: مَن بنى قبره قبلَ أن يَدخله، من ترك الدنيا قبل أن تتركه، ومَن أرضى ربَّه قبل أن يلقاه.
 
الحدث الخطير الذي تنهدُّ له الجبال، وتنخلِعُ له القلوب، وتَشيب منه الأبدان، هو مُغادَرة الدنيا، هل فكَّرنا في المستقبل؟ هل فكرنا في الانتقال من بيت إلى قبر؟ هل سألنا أنفسنا: ماذا بعد الموت؟ ما مصيرنا بعد الموت؟
 
سألوا طالبًا نال الدرجة الأولى في الشهادة الثانوية: ما الذي حملَك على هذا التفوُّق؟ قال: لأنَّ لحظة الامتِحان لم تغادر ذهني أبدًا! فهل تفكَّرتَ أيها الإنسان في امتِحان الآخرة؟! إن الموت يأتي بغتةً، لا يترُك صغيرًا أو كبيرًا، لا يهتمُّ بغنيٍّ أو فقير، ولا يَعبأ برئيس أو مرؤوس.
 
شابان أخَوان يَعملان في المحارة، مُتواضعان مَعروفان بالخير والصفاء، يعملان من أجْل أخَواتِهما الستِّ، يكدَّان مِن أجل الزَّواج والعفاف؛ استعدَّا للزَّواج، وحدَّدَا الفرح، وحضر المَعازيم، وكل شيء على ما يُرام! ذهَبا لإحضار العروسين مِن بيتَي أبويهما إلى عشِّ الزَّوجيَّة، وبينما هم في الطريق إلى الفرح والاستقرار كان قدرُ الله أسرع، وإرادة الله أوقع، واختيار الله أنصَع وأسمع.
 
تعرَّض العروسان لحادث أليم، فتُوفِّي العروس (شعبان) وعروسه (بنت خالته)، وشقيقتا عروسه (إسراء ونورة) وسائق السيارة (ماهر)!
 
أراد الله أن يكون مَوكب الزِّفاف من الدنيا إلى الآخرة، اللهمَّ أتمَّ لهما الزفاف في الجنة، ومتِّعهما بنعيم الجنَّة، واحشرهما ومَن تُوفِّي معهما مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
 
بقي أخوه يعتصر ألمًا على فقْد أخيه وعروسِه وشقيقتيها ليلةَ عُرسِه، لكنه قدر الله! وتحوَّل الفرح إلى ترح، إنها أقدار لكنَّها مأساة عاشَها مركز أبو حمص بالبحيرة، إلى جانب مآسٍ أخرى كثيرة؛ من تهدُّم بيوتٍ على أصحابِها نتيجةَ السُّيول، إلى صعق للأطفال بالكهرباء في الشوارع، إلى ذبْح عروسين آخرَين بداعي السَّرقة، إلى حوادث الطرُق التي لا تَنتهي أبدًا، وحسْبُنا اللهُ ونعم الوكيل، لكنَّ الحدث الأفظع هو موت العروس وعروسه وآخرين يُذكَرون بالخير، خاصة السائق، رحمهم الله رحمة واسعة، وألهمَنا وذَويهم الصبْر والسُّلوان!
 
نعم، قرأت أبيات الإمام الشافعي كثيرًا، لكنَّها هذه المرَّة كانتْ أكثر عمقًا وتأثيرًا في نفسي:






تزوَّدْ من التقوى فإنَّك لا تدري
إذا جنَّ ليلٌ هل تَعيشُ إلى الفَجرِ


فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكًا
وقد نُسجَتْ أكفانُه وهْو لا يدري


وكم مِن عَروس زيَّنوها لزوجها
وقد قُبضت أرواحُهم ليلةَ القَدرِ


وكم مِن صِغار يُرتَجى طولُ عُمرِهم
وقد أُدخلت أجسادُهم ظلمةَ القبرِ


وكم مِن صحيح ماتَ مِن غَيرِ علَّة
وكم مِن سَقيمٍ عاشَ حينًا مِن الدَّهرِ






 
إنها لحظات خارقة، وساعات فارقة، وسكرات حارقة، ترتجف منها القلوب، وتتزلزل عندها الأبدان، وتنخلِعُ منها الصُّدور، تحتاج إلى إيمانٍ ثابتٍ، وصبر جميل، وحِكمة بالغة.
 
أن تجد الإنسان أمامك قلبًا نابضًا، لسانًا ناطقًا، وجهًا مُشرقًا، إرادةً تملأ الدنيا، ثمَّ من بين الأبناء والأصدقاء، من بين الأطباء والأحبَّاء، من بين الغُرباء والأقرباء، من بين الأغنياء والفُقراء، يأتي مخلوقٌ لا يراه أحد ولا يَشعر به أحد..
فجأة..
وفي لحظات، تجد هذا القلب النابض قد توقَّف، وهذا اللسان الناطق قد سكت، وهذا الوجه المشرق قد ذبل، وهذه الإرادة القوية قد تلاشتْ، ماذا حدَثَ؟! هنا حار العلماءُ، وسكت الأنبياء، وردَّ ربُّ الأرض والسماء: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].
 
ماذا جرى؟! ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ [السجدة: 11]، إنَّها لحظات الرجوع؛ ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].
 
إنها لحظات يحتاج الإنسان إلى من يأخذ بيده، إلى مَن يشدُّ مِن أزره، إلى من يُثبِّته، إلى من يُطمئنُه على ماضيه وحاضره ومستقبله، على ما ترك من أولاد وأموال، وعلى إجابة السؤال، وعلى مصيره الذي سينتقل إليه - حتمًا - مهما كانت الأحوال! من له بذلك؟! إنه عملُه، ما قدَّم لآخرته من زاد، وما هيَّأ لنفسِه مِن ختام، ما التزمه من تعاليم الإسلام، وما عليه استقام، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾ [فصلت: 30، 31].
 
كيف نستقبل الموت؟! ماذا قدَّمنا اليومَ لذاك اليومِ؟ ماذا قدَّمنا لتلك اللحظات؟! هل زرعنا لنَحصد ما زرعناه؟ هل غرسْنا لنجني ثمار ما غرسناه؟ أم فرَّطنا وأضعْنا؟ أم غفَلْنا وأعرَضْنا؟! اليوم العمل وغدًا الحساب، اليوم الزرع وغدًا الحصاد، اليوم الغرس وغدًا جنْيُ ما غرسْناه!
إذا أنتَ لم تزرَعْ وأبصرتَ حاصِدًا ♦♦♦ ندمتَ على التَّفريطِ في زمَنِ البذْرِ
 
لقد سُئل الإمام الشافعي رحمه الله رحمةً واسعة: كيف أصبحت يا إمام؟ قال: أصبحت عن الدنيا راحلًا، وللإخوان مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، ولكأس المنيَّة شاربًا، وعلى الله واردًا، ولا أدري أروحي تسير إلى الجنة فأُهنِّيَها، أو تسير إلى النار فأُعزِّيَها.
 
اللهمَّ ارحم أموات المسلمين، وارزقنا الصبر والسلوان، اللهمَّ ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنةً ونعيمًا.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير