أرشيف المقالات

إني تبت الآن!

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
إني تبت الآن!


 
الحمد لله الذي فتح لعباده باب التوبة، والصلاة والسلام على رسول الله نبي التوبة، وبعد:
هناك أوقات لا يجوزُ فيها العمل الصالح، ولا تقبل فيها التوبة، ولا ينفع فيها الإيمان!
لعلك استغربت الآن استغرابًا شديدًا؟!
نعم أخي الكريم، عليك أن تعلم - علَّمني الله وإياك - أن لكل وقت عملَه، ولكل عمل وقته.
 
هذا الإنسان الذي يفعل ما يشاء، في أيِّ وقت شاء، هذا إنسان ضائعٌ، مُشتَّت، حائر، لا يعلم ما يُسمَّى بعبودية الوقت، أو واجب الوقت، فلا بدَّ أن يسأل نفسه: ماذا عليَّ أن أفعل الآن؟
 
إن كان وقتُ صلاة صلَّى، وإن كان وقت صيام صام، وإن كان وقت حجٍّ حجَّ...
فكلُّ عبادة لها وقتها، كما شرع الله سبحانه، فلا يجوز الصيام مثلًا في أيام التشريق، ولا يجوز الحجُّ مثلًا في شهر شعبان، ولا يجوز جِماع الزوجة في نهار رمضان، مع أن كل هذه عبادات عظيمة صالحة، ولكن لكل وقت عمله، ولكل عمل وقته.
 
نعود لعنوان المقال "إني تبت الآن" فنقول: إن كانت كلمة "الآن" في صحَّتك وحياتك فهنيئًا لك التوبة، ونبشِّرك بقول الله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 17].

هل تأمَّلت قوله تعالى: "عَلَى اللهِ"؟ فاللهُ سبحانه الغنيُّ العظيم أوجَبَ على نفسه - تكرُّمًا منه وفضلًا - أن يتوبَ على من توفَّر في توبته أمران:
الأول: ﴿ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ﴾ [النساء: 17]؛ (أي: جهالة منه بعاقبتِها، وإيجابها لسخط الله وعقابه، وجهل منه بنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تؤول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه، فكل عاصٍ لله فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالمًا بالتحريم)؛ السعدي، من غير أن يكون هناك استخفاف بأوامر الخالق سبحانه، ومع إدراكهم لخطئهم وسوء فعلهم.
 
الثاني: " ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ"؛ (أي: قريب من فعلهم للذنب الموجِب للتوبة، فيكون المعنى: أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب، وأناب إلى الله، وندم عليه - فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمرَّ على ذنوبه، وأصرَّ على عيوبه، حتى صارت فيه صفات راسخة، فإنه يعسر عليه إيجادُ التوبة التامة)؛ السعدي، فأمثال هؤلاء أوجب الله سبحانه وتعالى على نفسه أن يقبَلَ ندمَهم وتوبتهم، فليطمئنوا فقد قبلت توبتُهم.
 
وإن كانت كلمة "الْآنَ" عند غرغرة الروح وخروجها، فهنا نقول: ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 18].

وذلك أن التوبةَ في هذه الحال توبة اضطرارٍ لا تنفعُ صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار؛ السعدي.
 
وأمثال هؤلاء لم تكن التوبةُ منهم عن صدق ويقين واختيار؛ فالله تعالى المطَّلع على حقيقة قلوبهم، وخبث نفوسهم، لو علم فيهم خيرًا لتاب عليهم وقبلهم، ولكن كره توبتهم، أو قل: كره الله وقتَ توبتهم الاضطراري، وثبَّطهم، وقيل: اقعدوا مع القاعدين.
 
قال العلماء: وإنما لا ينفع نفسًا إيمانُها عند طلوع الشمس من مغربها؛ لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كلُّ شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم، وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبَلْ توبتُه، كما لا تقبل توبة من حضره الموت؛ "التذكرة" القرطبي.
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وأما من تاب عند معاينة الموت فهذا كفرعونَ الذي قال: أنا الله ﴿ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 90]، قال الله: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 91] وهذا استفهام إنكارٍ، بيَّن به أن هذه التوبة ليست هي التوبةَ المقبولة المأمور بها؛ فإن استفهام الإنكار: إما بمعنى النفي إذا قابل الإخبار، وإما بمعنى الذَّم والنهي إذا قابل الإنشاء، وهذا من هذا"؛ مجموع الفتاوى.
 
فالله سبحانه يقبلُ توبة العبد ما لم يُغرْغِرْ؛ أي: ما لم يكن في النزع الأخير، وما لم تَطلُعِ الشمسُ من مغربِها، فالباب مفتوح الآن، فقل: "إني تبت الآن"، قبل أن تقولَها بعد فوات الأوان.

اللهم ارزقنا توبة قبل الممات، واغفر لنا جميع الذنوب والسيئات..

شارك الخبر

المرئيات-١