أرشيف المقالات

صدقة المفاصل

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
صدقة المفاصل

في يوم الجمعة 28 من رجب 1373 - 2 من أبريل 1954
 
الحمد لله هدى أهل محبته إلى الصراط المستقيم، الحمد لله منَح الطائعين من عباده جناتِ النعيم، أحمده وأشهد أن لا إله إلا الله القوي المتين، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله صفوة المرسلين، وإمام الغُرِّ المحجَّلين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي البهي، وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد روى البخاري بسنده المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كلُّ سُلامَى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتُعين الرجل في دابَّته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعَه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة))، صدق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
 
أيها الأخ الكريم، لعلك تعلم جيدًا - كما يعلم كلُّ أحد - أن نِعَم الله عليك لا تُحصى ولا تعد، كما تعلم أن الصحة والعافية من أجَلِّ النِّعم وأسماها؛ إذ هي الخامة الأولى لسعادة الفرد والمجتمع في كل زمان ومكان، والدعامة الكبرى لكل نهضةٍ وعمران، فلولاها لَما أفلحت زراعات، ولا أُنتجت صناعات، ولا استقامت تجارات، لولاها لَما كان دفاع وجهاد، ولا تم طِعَانٌ وجِلادٌ، لولاها لَما كان طب ولا هندسة، ولا كان اختراع وابتكار، لعلك تعلم ذلك - أيها الأخ - ولكن هل تعلم من تفاصيل خلقتِك أن الله ركَّبك على ستين وثلاثمائة مَفصِل، إن دلت على شيء فإنما تدل على مبلغ قدرة الله، التي لفت إليها الأنظارَ بقوله: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]، كما أنها تدل على مبلغ رحمته وإحسانه؛ إذ بها تتحرك، وبفضلها تعمل، وعلى أساسها تكافح وتجاهد.
 
وهل تعلم أن دينَك الحنيف دعاك إلى صدقاتٍ بعَدَدِ تلك المفاصل؛ شكرًا لله على سلامتها، وأملًا في دفع البلاء عنها.
إن كنتَ لا تعلم ذلك، فإليك ما رواه مسلم رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول: ((خُلق الإنسان على ستين وثلاثمائة مفصلٍ، ففي كل مفصل صدقةٌ)).
ولعلك سائلي - أيها الأخ - عن هذه الصدقات:
أتُقدَّم في العمر مرةً؟
أم في كلِّ عام مرة؟
أم في كل يوم مرة؟
والجواب ما يُعلنه الحديث الشريف بقوله: ((كُل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس))، وحيث كان المراد بالسُّلامى: المفصل، فالمعنى: كل مفصلٍ من كل واحد من الناس عليه صدقةٌ كلَّ يوم؛ أي إن كل واحد عليه أن يُقدِّم كل يوم ثلاثمائة وستين حسنة، وإنما كان الأمر كذلك؛ لأن كل مفصل منها يتمتع بعافية جديدة كل صباح.
 
أيها الأخ، لم يُضيِّق الشرع عليك في شأن هذه الضريبة الصحية، بل وَكَل الأمر إلى إمكانياتك ورغباتك، فإن استطعتَ أن تقوم بهذه الحسنات في صورة نقود، أو مطعومات، أو ملبوسات تقدمها إلى أفراد أو هيئات، كان بها، وإلا فقد رسم الإسلام صورًا أخرى للأداء، وبيَّن لك أوضاعًا في كل منها وفاء وغَناء.
 
• أشار إلى الأولى بقوله: ((تعدل بين اثنين صدقة))، وإنما بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالصلح بين المتخاصمين؛ لِمَا يترتَّب عليه من صيانة الأموال والأعراض والدماء، وإحلال المودة والإخاء مكان البغضاء والشحناء؛ ولذلك يُرغب فيه النبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث يقول: ((ألا أُنبِّئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟))، قالت الصحابة: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدِّين)).
 
• ثم أشار الحديث إلى الصورة الثانية بقوله: ((وتُعين الرجل في دابَّته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة))، وجِماع الأمر في هذه الصورة معاونةُ الضعيف ومساعدته في أي أمرٍ لا يستطيع القيام به وحده.
 
• ثم ذكر الثالثة بقوله: ((والكلمة الطيبة صدقة))، ومن الكلمة الطيبة: أن تقرئ أخاك السلامَ، أو تُشمِّته إذا عطس، أو تستفسر منه عن حاله وعياله.
من الكلمة الطيبة شفاعةٌ حسنة تحقِّق بها أملَه ومُناه، أو شهادةٌ حقة لا ميل فيها ولا محاباة.
من الكلمة الطيبة تلك التي ترشده بها إلى حقٍّ أو ترده بها عن باطل.
من الكلمة الطيبة قولك: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
 
• أما الصورة الرابعة، فهي ما يشير إليها الحديث بقوله: ((وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقةٌ))، ومثل المشي إلى المسجد حيث تكون صلاة الجماعة، المشيُ إلى المسجد للاعتكاف، والمشي إلى دروس العلم لتدريسه أو الاستماع إليه، والمشي لزيارة مريض أو نحو ذلك.
 
• وأخيرًا ذكر الحديث الصورةَ الخامسة، فقال: ((وتُميط الأذى عن الطريق صدقة))؛ أي تُزيل عن الطريق كلَّ ما يؤذي الغادين والرائحين؛ من قذرٍ، أو شوك، أو حَجَر، أو زجاج، أو نحوه.
 
ويدخل في الحديث أيضًا ذلك الرجلُ الذي يمتنعُ من إلقاء الأذى في الطريق؛ روي[1] عن أنس رضي الله عنه أن رجلًا رأى في النوم قائلًا يقول له: بشِّر عائذ بن عمرو المزنيَّ بالجنة، فلم يفعل، فأتاه في الليلة الثانية، فلم يفعل، فأتاه في الثالثة، فلم يفعل، فأتاه في الرابعة، فقال له: ولِمَ أُبشِّره بالجنة؟ قال: إنه لا يُلقي أذاه في طريقِ مسلمٍ.
 
أيها الأخ، لعلك تُؤمِن بسماحة الإسلام إذا ما عرَفت بعد ذلك أن هذه الضريبة اليومية من الحسنات يُغني عنها ويقوم بدلها: (ركعتان تصلِّيهما من الضحى)؛ فقد روى مسلم رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يُصبِح على كل سُلامى من أحدكم صدقة، فكلُّ تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلةٍ صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ عن ذلك كلِّه ركعتانِ يركعهما من الضحى)).
 
وبعد، فلو أن كل امرئٍ نظر في نفسه إلى هذا التصميم الإلهي، وسارَعَ إلى الصالحات المذكورات - وكلها راجعةٌ إلى خير المجموعة الإنسانية - أقول: لو فعل كلُّ واحد هذا، لسعدَتِ الأفراد والجماعات، ولسارت الأمم في ركب النهضة آمنةً مطمئنة، ولَما كان ظلمٌ واضطهاد، واستعمار واستبداد.
 
أيها الإخوة، ألَا إن الإسلام دينُ السلام والأمن العام، فالتزموا تعاليمه على الدوام؛ حتى تكونوا بصدقٍ خيرَ أمة أُخرجت للأنام، كونوا جميعًا تحت راية القرآن، وتحاكموا إلى سُنة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم.
 
أسأل الله أن يجمع قلوبنا على طاعته، وأن يرزقنا السلامة في ديننا ودنيانا، وأن يُوحِّد بين صفوفنا؛ إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.



[1] رواه البيهقي؛ كما ورد في شرح الجرداني على الأربعين.

شارك الخبر

المرئيات-١