أرشيف المقالات

أثر الاحتساب على فتاة مستهترة

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
عندما يطَّلع القارئ على تجارب مرت بها بعض الفتيات يجد العجب العجاب، مع أنهن مسلمات يشهدن ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويعرفن أن دين الإسلام هو الدين الحق الذي يجب اتباعه والتزامه وكل دين سواه فهو باطل، ولكن مع ما يعتقدنه من أن هذا الدين هو الحق وما جاء به من تعاليم يجب أن يلتزم بها إلا أن الأمر على خلاف ذلك تمامًا، فترى حياتهن ليست الحياة الكريمة التي أراد الله أن تكون عليها تلك الفتيات، وللأسف الشديد أصبحت فتياتنا ونساؤنا بعيدات عن أوامر الشريعة الغراء، أصبحن مقتديات بنساء الشرق والغرب ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذه تجربة مؤلمة لفتاة مسلمة عاشت غارقة في بحار الشهوات والأهواء، تتقاذفها أمواج الفتن كيفما تشاء، ثم منَّ الله عليها بالهداية بعد أن احتُسِبَ عليها من قبل امرأة صالحة وزوج ناصح.
تفاصيل هذه التجربة حسب ما روتها صاحبة القصة:
تقول: "أنا فتاة، منّ الله عليّ بالهداية والاستيقاظ من الغفلة قبل فوات الأوان، وإليكم قصتي لعل الله أن ينفع بها:
حياتي كلها كانت مختلطة متبرجة، عشتها كما أردتها لنفسي، كان لي دخل شهري جيد أتقاضاه من عملي، ولكن الله نزع منه البركة فلم أنتفع به نفعاً يذكر..
فقد كنت أنفق ثلاثة أرباعه في شراء الملابس الضيقة والقصيرة، وأصباغ المكياج التي ألطخ بها وجهي كلما أردت الخروج، ولا أشتري إلا أغلى العطورات الفواحة لدرجة أن بعض جيراني ورفقائي من الجنسين! كانوا يتنبؤون بمقدمي من رائحة عطري الفواحة التي تُشم من على بُعد...
كنت مغرمة باتباع ما تجلبه (الموضة) من قصات الشعر وتسريحاته، ولا أرضى بعمل تسريحات شعري إلا عند (الكوافير) الذي لا يعمل به إلا الرجال! وكانت لي رحلات تنزه مختلطة كنا نقضيها في المزاح والغناء المحرم، وهذا والله ما يريده أعداء الإسلام من شباب المسلمين يريدون منهم أن يكونوا كالبهائم العجماوات، لا همّ لهم إلا البحث عن الشهوات.
وأذكر مرة أني كنت في رحلة مختلطة، فكنا نغني ونسرد أنواع النكت والأهازيج..
مما جعل سائق الحافلة يتضجر وينزعج من أصواتنا العالية، وأخذ ينظر إلينا بعين السخرية، وأراد مرة أن يختبرنا فقال: "هل أنتم تجيدون حفظ جميع الأغاني؟" قلت له وبكل ثقة: "نعم.
هل تريدني أن أغني لك؟" لكنه لم يجبني، ثم عاد وسأل مرة ثانية: "هل تعرفون إجابة كل شيء؟" قلنا جميعاً وبثقة متناهية: "نعم نحن نعرف كل شيء".
فقال: "إذن سأطرح عليكم سؤالاً فأجيبوني عليه: كم عدد أولاد النبي صلى الله عليه وسلم؟" فتلعثمنا جميعاً، ولم يستطع أحد منا الإجابة على هذا السؤال لجهلنا التام بالجواب.
إنها والله الحقيقة غير مبالَغ فيها..
فأنا لم أستطع الجواب؛ لأني كنت أسخر من الإخوة الذين باعوا هذه الدنيا الفانية بالآخرة الباقية، وأستهزئ بالمحجبات، وأطلق عليهن عبارات السخرية بملابسهن المحتشمة..
وظللت على حالتي هذه إلى أن جاء موعد سفري إلى السعودية للعمل فيها، وهناك؛ فوجئت بأن النساء كلهن يرتدين الحجاب الكامل.
ظننت لأول وهلة أنه زِي ترتديه الموظفات عند خروجهن إلى العمل وسرعان ما يخلعنه في السوق أو الشارع..
فإذا بي أفاجأ بهن وهن يلبسنه في كل مكان بلا استثناء..
والله لم أكن أتصور أنه يوجد أحد في هذه الدنيا على مثل هذه الهيئة من الستر والاحتشام.
وبعد فترة وجيزة من قدومي قابلت في عملي أختاً صالحة تعرف من الدين ما قُدِّر لها معرفته، فكانت تأمرني بالحجاب الشرعي، فكنت أسخر منها، ولا أطيق الجلوس معها لكثرة كلامها عن الدين والحجاب، وعلى الرغم من نفوري منها إلا أنها لم تيأس من نصحي وتذكيري وإهدائي بعض الأشرطة والكتيبات النافعة التي يحتاجها أمثالي، حتى بدأت أميل بعض الشيء إلى كلامها.
ودارت الأيام، ورزقني الله بزوج صالح يعرف الله جيداً، فأخذ يرغبني في الله، ويأمرني بالصلاة، فتأثرت بكلامه، واستطاع بأسلوبه الطيب أن يجذبني إلى طريق الإيمان ويحببه إليَّ، وإن كنت لما ألتزم بعدُ التزاماً كاملاً..
 فبينا أنا كذلك؛ إذ هز مسامعي وزلزل كياني خبر كان وقعه عليَّ كالصاعقة..
إنه خبر تحطم الباخرة المصرية "سالم إكسبريس" وغرقها في عمق البحر الأحمر..
لقد أحدث هذا الخبر هزة عنيفة في نفسي لم أتمالك معها عيناي حتى ذرفتُ دموعاً حارة، وبكيت بكاءً مريراً، فاستيقظت أخيراً من غفلتي، وسألت نفسي سؤالاً صريحاً: إلى متى الغفلة؟ إلى متى أظل أسيرة الهوى والشيطان والنفس الأمارة بالسوء؟ ودارت في مخيلتي أسئلة كثيرة من هذا القبيل، وبعد لحظات من التفكير ومحاسبة النفس ؛ نهضت مسرعة إلى تلك الأخت الفاضلة (التي كنت أكره الجلوس معها سابقاً) وبحوزتي جميع الأشرطة الغنائية التافهة فأعطيتها إياها للتسجيل عليها من تلاوات وخطب ومحاضرات إسلامية.
وأعلنت توبتي النصوح، وعاهدت ربي أن يكون هدفي في هذه الدنيا هو إرضاء الله عز وجل والاستقامة على دينه، وحقيقة، لم أكن أتخيل في يوم من الأيام أني سأرتدي الحجاب أو أقلع عن التعطر عند الخروج من المنزل ووضع المكياج، وإني لأحمد الله عز وجل حمداً كثيراً على هدايتي واستيقاظي من غفلتي قبل حلول أجلي..
والله الموفق" [1].
هذه التجربة المحزنة المفرحة [2] تجعلنا نقف عندها وقفات نستخرج منها عظات نذكر بها أخواتنا المسلمات لعل الله سبحانه أن ينفع بها كاتبها وقارئها.
أولاً: من حالة تلك الفتاة المأساوية في حياتها السابقة ندرك أن الإنسان لا يعرف مصالحه الحقيقة بعقله منفردًا دون الرجوع إلى الوحي السماوي، ولذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وشرع الشرائع حتى يعبد الإنسان ربه وحده ولا يشرك معه أحدا غيره، هذه العبادة لا بد أن تكون شاملة لكل الحياة: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163]، شاملة للمعتقدات والسلوكيات والأخلاق، والمعاملات...
ولكن لما غاب هذا المفهوم شمول العبادة- عن كثير من أبناء المسلمين فقصروه على أمور معينة ضلوا وزلوا، والذي يجب علينا أن نعرفه أن شريعة الرحمن شاملة كاملة لا يعتريها أي نقص ولا يتطرق إليها أي خلل، وبعد المعرفة يجب العمل بها كاملة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208].
ثانياً: تؤثر البيئة على حياة الإنسان سلباً أو إيجابًا، ومن هنا ندرك أهمية البيئة الصالحة التي ينبغي أن يعيش فيها المسلم حتى تعينه على تطبيق شرع الله وأداء حقوقه، والتزام أخلاقه وسلوكه، ولذا أُمر من قتل مائة نفس أن يخرج من أرض السوء إلى أرض الصلاح، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عبدًا قتل تسعة وتسعين نفسًا ثم عرضت له التوبة .
فسأل عن أعلم أهل الأرض. فدل على رجل فأتاه.
فقال: "إني قتلت تسعة وتسعين نفسًا.
فهل لي من توبة؟" قال: "بعد تسعة وتسعين نفسًا؟!" قال: فانتضى سيفه فقتله.
فأكمل به المائة.
ثم عرضت له التوبة فسأل عن أعلم أهل الأرض.
فدل على رجل.
فأتاه فقال: "إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟" قال فقال: "ويحك ومن يحول بينك وبين التوبة؟ اخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها إلى القرية الصالحة قرية كذا وكذا.
فاعبد ربك فيها".
فخرج يريد القرية الصالحة، فعرض له أجله في الطريق.
فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.
قال: إبليس أنا أولى به إنه لم يعصني ساعة قط، قال فقالت ملائكة الرحمة: إنه خرج تائبًا»
 [3].
فهذا الحديث يدلنا على أهمية البيئة الصالحة للمسلم التي ينبغي أن يعيش فيها، ومن خلال قصة فتاتنا نرى الحياة السيئة الناتجة عن البيئة السيئة التي كانت تعيشها تلك الفتاة، ولكن لما انتقلت إلى بيئة محافظة تغير حالها إلى الحياة الحسنة التي تعيشها مسلمات ذلك البلد.
ثالثاً: برز في هذه القصة دوران رائعان أثَّرا في حياة تلك الفتاة:
الدور الأول: دور المرأة الصالحة التي تعرفت عليها الفتاة، وقد تمثل في الآتي:
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك من خلال الأمر بالحجاب الشرعي، والحث على الالتزام بالدين.
- استخدام وسيلة رائعة وهي إهداء الأشرطة والكتيبات النافعة التي تعالج قضايا تلك الفتاة.
- عدم اليأس من حال تلك الفتاة رغم سخريتها ونفورها من النصيحة، ولكن استمرت تلك المرأة الصالحة في تقديم ما تستطيع من نصح من أجل هداية هذه الفتاة.
ولما لهذا الدور من أثر بالغ نجد أن الفتاة بعد أن أثر فيها ذلك الحدث غرق السفينة- ندمت على ماضيها وتابت ثم ذهبت مسرعة إلى تلك المرأة الصالحة لكي تعطيها أشرطة الأغاني لتسجل عليها تلاوات وخطب ومحاضرات إسلامية.
وهذا الأمر وجود مواد نافعة متنوعة- ينبغي أن تحرص المحتسبة على وجوده عندها لوقت الحاجة، هذا الدرس ينبغي أن يتعلمنه المحتسبات من تجربة تلك المرأة الصالح.
الدور الثاني: دور الزوج الصالح الذي لم يتوان في إصلاح زوجته بكل الوسائل والطرق ومنها:
- الترغيب في أمر الله، وما أعده الله سبحانه وتعالى لمن استجاب لأمره.
- أمرها بالصلاة والمحافظة عليها، وكأن ذلك يوحي بأن تلك الفتاة كانت غير محافظة على الصلاة.
- الأسلوب الحسن الذي كان يستخدمه ذلك الزوج في نصحه وإرشاده.
هذان الدوران كان لهما أثر كبير في هداية تلك الفتاة، وصاحبا هذين الدورين هما اللذان بينا لتلك الفتاة طريق الحق من الباطل وعلماها حياة المسلمة الحقيقة التي يجب أن تعيشها، وإن كانت لم تعش هذه الحياة السعيدة على الوجه المطلوب إلى بعد ذلك.
رابعاً: قد تمر على الغافل مواقف تغير من حياته، وترجعه إلى رشده شريطة أن يفتح لها قلبه، ويتأملها ببصيرته، ولا يجعلها تمر عليه مرور الكرام كما يقال.
خامسًا: على من وفقه الله للهداية وفي حوزته بعض وسائل الفساد كالمجلات الساقطة، وأشرطة الأغاني، والأفلام الخليعة وغيرها أن يتخلص منها فورا ولا يسوِّف في أمرها، لأنها قد ترده إلى حاله الأولى، والشيطان يزين المنكر ويذكر صاحبه به ليرده إلى ما كان عليه، وإذا كانت هذه الوسائل يمكن الاستفادة منها كالأشرطة فتمحى ويسجل عليها بعض المحاضرات النافعة أو التلاوات، وهذا الأمر خير من إتلافها.
نسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا لطاعته، ويمن علينا من فضله ويحفظ علينا ديننا، والحمد لله رب العالمين.
 
[1] العائدات إلى الله ص 23 محمد المسند.
[2] محزنة لما كانت عليه تلك الفتاة من عيشة تعيسة، وهي حياة كثير من الفتيات المسلمات في عصرنا الحاضر نسأل الله لهن الهداية، ومفرحة لما آلت إليه بعد ذلك من رجوع إلى الله.
[3] سنن ابن ماجه (2/875) وحسنه الألباني .


منصور صالح حسين الجادعي

شارك الخبر

المرئيات-١