أرشيف المقالات

أوقات المسلم في رمضان

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
أوقات المسلم في رمضان
 
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونصلي ونسلِّم على خير البرية وأزكى البشرية وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إن الوقت هو الحياة، وهو كالسيف إن لم تقطعه قطَعك، فمبادرتك لاستثماره هو نجاح في شخصيتك، ونظرًا لأهمية الوقت عمومًا وفي رمضان خصوصًا، فإني سأطرح خمس عشرة نقطة، لعلها تسهم في تخطيطنا لاستثمارنا أوقاتنا الاستثمار الأمثلَ، وربما لديك الكثير من المشاغل التي قد تكون سببًا في ضعف ذلك الاستثمار، ولكن ما أمكن تأجيله منها فهو الأولى والأحسن، وذلك أن هذا الشهر فرصة عظيمة محدودة وشريفة، فلا تُضيعها في أعمال يمكن تنفيذها في أوقات أخرى.
 
النقطة الأولى: رمضان زمن شريف؛ حيث ابتدأ نزول كلام الله تعالى فيه؛ قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185]، فحق لشهر نزلت فيه آيات الهداية والبيان أن يكون لأوقاته حُرمتها وعظمتها لدينا جميعًا، فالكتب السماوية كلها ابتدأ نزولها في رمضان، لهذا ولما فيه من الفضائل العظيمة، فإنه جدير بنا أيها الإخوة الأكارم الشعور بضرورة استثمار أوقات ذلك الشهر بساعاته ولحظاته.
 
النقطة الثانية: إن استثمار أوقات هذا الشهر المبارك ضرورة للمشمرين والمجتهدين؛ حيث إنه زمن محدود وجدير بالاهتمام، ومن طُرق الاستثمار:
 
القراءة عن فضائل هذا الشهر ومزاولتها واقعًا عمليًّا، ومجالسة المستثمرين لأوقاتهم والاستفادة منهم، ومعرفة حجم الخسارة في ضياع الوقت خلال هذا الشهر، وحث النفس على الصبر على الأعمال الصالحة، ووضع الخطط الذهنية أو المحررة لاستثمار هذا الشهر، بهذا وغيره يَستثمر كل منا لحظات شهره بما يُقربه إلى الله تبارك وتعالى.
 
النقطة الثالثة: في شهر رمضان تظهر صور ومواقف من الابتلاء بين الاستثمار الأمثل وبين شهوات النفس ورغباتها، وكل من الجانبين له ما يُشجعه، فاحرِص على تخطي تلك العقبات المتمثلة في شهوات النفس المعوقة لهذا الاستثمار، وتأمل قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27].
 
النقطة الرابعة: إن شهر رمضان هو نقطة محاسبة للسابق واللاحق، ماذا عملت وماذا أنجزت وماذا ستعمل وتُنجز في المستقبل، فجميل أن تتلافى ملاحظات سابقة وتخطط لإنجازات لاحقة، بالتخطيط الجيد والجاد، فإن المخططين في برامجهم هم الناجحون في حياتهم أكثر من غيرهم، فكن أنت أحدهم.
 
النقطة الخامسة: إن استثمار الوقت في شهر رمضان يحتاج إلى صبر وتحمُّل؛ لأن صاحبه ينتظر نتيجة تخطيطه وتنفيذه؛ يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الصبر مطية لا تكبو)، فيصبر على صلاته وقيامه وتلاوته وصيامه، ومكثه في انتظار صلاته، وعلى ذكره وطاعته، فلا يستجيب للقواطع إذا عرضت، كالملل وكثرة النوم والأحاديث الثنائية، ووسائل التواصل ونحوها، فيكون له مع هذه القواطع حد محدود ومنهجية معروفة، وأما إذا استجاب لهذه وأمثالها، فإنها ستضيع عليه ساعات من حيث لا يشعر.
 
النقطة السادسة: اجعل من منهجيَّتك في هذا الشهر تلك المقولة الجميلة؛ حيث يقول علي الطنطاوي رحمه الله: (قرأت سبعين سنة، فأعظم فائدة استفدتها هي أن الطاعة تذهب مشقتها ويبقى أجرها، وأما المعصية فتذهب لذتها وتبقى حسرتُها).
 
إن كل ما تفعله من الطاعات سيذهب تعبه ويبقى أجرُه وثوابه، وفكِّر دائمًا في المكاسب قبل أن تفكِّر في المتاعب، فتأمل هذا دائمًا وفَّقك الله.
 
النقطة السابعة: إن كنت تريد التخطيط لاستثمار هذا الشهر المبارك، فاجعَل خطتك فيها نسبة من المرونة؛ حتى لا تُفاجأ باليأس والملل، فإن الخطوط الدقيقة في التخطيط قد لا تتأتى معها الظروف، فاكتُب أهدافك ووسائل تحقيق تلك الأهداف، وخطوط عريضة للتنفيذ، وراجعها بشكل دوري خلال الشهر، فحينها أبشر بالنجاح بإذن الله تعالى.
 
النقطة الثامنة: إياك أن تحتقر الأوقات القصيرة؛ كلحظات الانتظار والذهاب إلى العمل والمسجد، وغيرهما والرجوع منهما، وغير ذلك، فإن لك بها أرباحًا كثيرة، من قراءة أو ذكر لله عز وجل، أو مكالمة مهمة، ونحو ذلك، أرأيت أنك تستطيع أن تقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة في دقيقتين؟ أرأيت أنك تستطيع أن تقرأ صفحة من القرآن في دقيقتين؟ أرأيت أنك تستطيع الاستغفار والتهليل والتحميد، وغيرها من الأذكار مئات المرات خلال دقائق محدودة؟ قد يعتبرها بعضنا من الوقت الضائع، أرأيت أنك تستطيع أن تصل رحمك بمكالمة في وقت قصير؟ وهَلُمَّ جرًّا من تلك الأعمال اليسيرة، لكنها عظيمة في أجورها إذا استثمرناها.
 
النقطة التاسعة: بعض النجاحات في استثمار الوقت يكون سببه أن العمل يكون جماعيًّا، فإذا رأيت أن هذا هو الذي يناسبك فافعَله، لكن مع الجادين كالاعتكاف ومراجعة القرآن، وزيارة بيت الله الحرام إلى العمرة، ونحو ذلك، واختر شريكك في هذا الاستثمار بعناية.
 
النقطة العاشرة: استثمر عاداتك، فاجعَلها عبادات؛ كأكلك وشربك ونومك وجلساتك، فإن العادة إذا اقترنت بها النية الصالحة، كانت عبادة، كما وصف بعضُهم السلفَ فقال: (كانت عاداتهم عبادات)، وذلك لما يُصاحب العمل من النية الصالحة، فانوِ بالأكل والشرب والنوم التقوِّي على طاعة الله والحديث مع صاحبك الفائدةَ، وإدخال السرور ونحو هذا مما هو مضمار للسابقين.
 
النقطة الحادية عشرة: إن دلالتك الناس على الخير ليعملوه، هي من أهم الاستثمار؛ لأن أجورك تجري وأنت مشغول أو نائم أو آكل أو شارب، فيا بشراك حينها؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله)؛ رواه مسلم، فاجعل الدلالة على الخير سجيَّة لك في شهر رمضان وغيره، لتعظُم لك الأجور، فإنها بمثابة الوقف الذي يجري لك أجره ما دام صاحبك يعمل ذلك العمل.
 
النقطة الثانية عشرة: إن من علامات نجاحك في استثمار لحظات وأوقات هذا الشهر المبارك - أن تجعل لك مع نفسك محاسبةً دورية معلومة؛ لتعرف نسبة النجاح والإخفاق في ذلك الاستثمار.
 
النقطة الثالثة عشرة: من أعظم أوجه الاستثمار في رمضان وغيره - المحافظة على المكتسبات الماضية من الأجور والحسنات، فلا تُزهق حسناتك وتجعلها لغيرك بسبب غيبة أو نميمة أو نحوهما، فإن الغيبة سهلة وميسرة، فهي حركة خفيفة في اللسان أو الجوارح، لكن نتيجتها أنها نقلت حسناتك إلى غيرك، فقد تُفاجأ يوم القيامة بكثرة خصومك من جراء آفات لسانك؛ فاحترز أشدَّ الاحتراز من الكلام في الآخرين، فإنها مُذهبة للحسنات.
 
النقطة الرابعة عشرة: إن استشعارك لأهمية الوقت والزمن الفاضل، يدفعك إلى المحافظة عليه، بخلاف من لا يُقيم لذلك وزنًا، فإن الأمر عنده سواء، وهذه آفة عظيمة وقاطع كبير في طريق الاستثمار.
 
النقطة الخامسة عشرة: أختم هذه النقاط بهذين الموقفين:
الأول: اجتمع محمد بن مسلمة وخالد بن صفوان رحمهما الله، فقال محمد لخالد: صف لي الأحنف بن قيس، فقال خالد: إن شئت تحدثتُ عنه شهرًا، وإن شئت تحدثت عنه عشرًا، وإن شئت حذفت لك حذفًا، فقال محمد: احذف لي حذفًا، فقال: كان الأحنف بن قيس أعظم الناس سلطانًا على نفسه.
 
إنها صفة عظيمة ما أحوجنا أن نتصف بها في كل وقت، ولا سيما في هذا الشهر المبارك، فإذا كان السلطان لك على نفسك، فهي تأتمر بأمرك وتنقاد طائعةً لك، فتوردها مراتع الصلاح والطاعة، وهذا لا شك أنه يحتاج إلى قوة إيمان ويقين.
 
والموقف الثاني: كان أحد طلاب العلم والدعاة في ضيافة سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله، فقال هذا الرجل للشيخ رحمة الله: يا شيخ عبدالعزيز، أنت رجل كبير وكفيف، وقد وفَّقك الله تعالى لكثير من الأعمال الدعوية والعلمية والإيمانية وغيرها، ألا تتعب وتمل؟ ثم سكت الشيخ، فأعاد هذا سؤاله مرةً ثانية، ثم سكت الشيخ، ثم كرره مرةً ثالثة، فقال الشيخ كلمة تُكتب بماء الذهب، قال رحمه الله: (إذا كانت الروح تعمل، فإن الجوارح لا تكِل)، ما أحوجنا في عباداتنا واستثمارنا أن نفهم هذه القاعدة العظيمة حقَّ الفهم، وأن تكون واقعًا عمليًّا لنا، حاول تطبيق هذه القاعدة في جميع عباداتك، وفي أمور دنياك، فهي نافعة مفيدة جدًّا.
 
أيها الإخوة الكرام، إن استثمارنا لشهرنا المبارك هو عائد علينا، فلنحرص على ذلك، فهو أيام محدودة ومعدودة، حاول واصدق، ومن كان كذلك فإن التوفيق سيكون حليفه بإذن الله تعالى.
 
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإلى حلقة أخرى وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١