أرشيف المقالات

الأزمات والنوازل.. التصرف الرشيد

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2الأزمات والنوازل..
التصرف الرشيد
 
الأزمة هي ما ينزل بالناس من شدة، هذه الشدة قد تكون في المال، أو في الصحة، أو في القحط والجدب، وكلها من باب البلاء الذي يصيب الإنسان، وهي سنة الحياة الدنيا التي لا تتخلف أبدًا؛ قال الله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 1، 2]، والذي يتدبر القرآن الكريم يجد أنه مليء بالقصص التي تبين تعرُّضَ أشرف الناس وأفضلهم عند الله تعالى - وهم الأنبياء - لهذه الابتلاءات؛ مرة بمفردهم: كما حدث لأيوب، ويوسف، وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام، ومرة مع أقوامهم: كما حدث مع نوح عليه السلام، وموسى عليه السلام، ومن آمن معهما، ولا يخفى علينا ما تعرض له رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم على المستوى الفردي؛ حيث لاقى ما لاقى من الصد والتكذيب الذي تبعه الأذى والتجريح والتهم التي كِيلت له، كما لاقى البلاء والشدة والأزمة في أسرته حينما تعرض لحادث الإفك، الذي شق عليه تحمله، كما شق أيضًا على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، حتى انفرجت الأزمة بما أنزل الله من الوحي من فوق السبع الطباق، ولاقى مع أصحابه الكرام الأزمات تلو الأزمات؛ فمن أزمة الحصار في الشِّعب، إلى أزمة التهجير إلى الحبشة مرتين، وبعدها إلى المدينة المنورة، وبعد ذلك الصدامات المتكررة مع المشركين في الغزوات التي استمرت حتى غزوة تبوك، وأكمل الخلفاء الراشدون مواجهاتهم لِما نزل بالمسلمين من أزمات تترى بعد ذلك، وعلى مدى التاريخ الإسلامي تعرض المسلمون لنوازل تعددت بين عدوٍّ محارب متربص يريد القضاء على المسلمين؛ كما حدث من التتار والصليبيين، وبين مرض يجتاحهم؛ كما حدث في طاعون الشام، وبين سنين قحط وجدب وغير ذلك، والثابت تاريخيًّا والمسطر في كتب الصحيح منها أن المسلمين بأخلاقهم وموروثهم الديني تخطوا كل أزمة، وخرجوا من الواحدة تلو الأخرى وهم أكثر ثباتًا ورسوخًا.
 
ولا يخفى علينا ما يمر به عالمنا اليوم من فزع وهلع من انتشار عدوى، وعموم بلوى تتمثل في مرض ينتشر، يتنقل من بلد إلى أخرى، فكيف يواجه المسلم ما يحدث ليكون قدوة لغيره، وليعبر هو والمحيطون به ووطنه هذا العارض، وتلك الأزمة على خير وأمان، وعافية وسلام؟
الرضا والتسليم:
أول ما ينبغي على المسلم فعله الرضا بما قدر الله وقضى؛ لأن ذلك من أسس الإيمان وأركانه، واليقين بأن ما وقع يحمل الخير الذي قد لا نعلمه في حاضرنا، أو يكون فوق قدرة تحليلنا وفهمنا العقلي؛ قال الله تعالى: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].
 
التوكل على الله تعالى:
ومعناه حسن الأخذ بالأسباب، وترك النتائج على الله تعالى؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3]، وروى الترمذي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتعود بطانًا))، فالذي يعاني المرض، يتوكل على الله تعالى بالأخذ بأسباب الشفاء، والفقير الذي يعاني الحاجة والقلة، يأخذ بأسباب الغِنى فيبحث عن عمل شريف ما دام قادرًا على العمل؛ ليسد حاجته، وليكف نفسه عن المسألة، وإذا كان البلاء عامًّا، فليتبع كل واحد من المجتمع أسباب السلامة والنجاة التي يرشدنا إليها المتخصصون وأولو الأمر في هذا الشأن.
 
البعد عن السلوك المشين:
فعند الأزمات تتناثر الأخبار، وتكثر الآراء، ويزيد اللغط هنا وهناك، أما المؤمن واثق الإيمان، فعنده أوامر إلهية باجتناب الكذب، ونشر الشائعات التي تنشر الهلع والفزع؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]، كذلك على المؤمن صادق الإيمان أن يتجنب السلوك الذي قد يزيد من معاناة العامة والتشديد عليهم؛ فلا يصح الاحتكار، ولا زيادة الأسعار للسلع وقت حاجة الناس إليها من قِبَلِ التجار، كما يحرم التعامل بالربا؛ لأن ذلك يمحق البركة، ويدخل المال الحرام على صاحبه؛ قال الله تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 276].
 
الاعتدال وعدم الإسراف:
وقد بيَّن الله تعالى أن من صفات عباد الرحمن أنهم في وسطية من الإنفاق؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]؛ حيث نرى بعض الناس يسلكون سلوك الهلع الذي يجعله يجمع كل شيء، فيشتريه ويخزنه بما يكفيه لشهور، وهذا قد يُحدِث خللًا اقتصاديًّا ونقصًا سلعيًّا يؤثر على باقي المجتمع، فالاعتدال والتوازن والوسطية في كل الأمور محمودة ومطلوبة.
 
التبشير لا التنفير:
دائمًا ما ينشر المؤمن الأمل والتفاؤل في تجاوز الأزمات والوصول إلى بر الأمان، ولا ينشر الخوف والفزع الذي يؤدي إلى اليأس وفقدان الأمل؛ فالله تعالى خاطب عباده فيما يتعلق بأعتى أزمة تواجههم؛ وهي أزمة اقتراف الذنوب والغرق فيها بأرجى آية في كتابه الكريم؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا))، فالمؤمن لا ييأس ولا ينبغي أن يتسرب إلى قلبه اليأس، مهما اشتد به الحال، ونزلت به النوازل، فلطف الله ورعايته يحيط بخلقه، مع حسن الظن بالله تعالى أن يرفع الغمَّ، ويزيل الهمَّ، ويبدل الخوف أمنًا واطمئنانًا، والقصص القرآني مليء بقصص الأمل والتفاؤل؛ التي ردت المفقود كيوسف، وشفت المريض كأيوب، وأنقذت من الحريق كإبراهيم، وآوت اليتيم كمحمد عليهم أفضل الصلاة والسلام.
 
صنائع المعروف:
المؤمن دائمًا سبَّاق إلى الخيرات، فهو يعمل الخير والمعروف في منشطه ومكرهه، في يسره وعسره، هذا المعروف ينجيه من السوء ومن مصارعه؛ روى الطبراني في مسنده عن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أمية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب)).
 
اللجوء إلى الله بالدعاء:
وهذا السلوك في الأولى والآخرة يلجأ إليه المؤمن في كل أحواله؛ قال الله تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62]، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء))، وجهد البلاء هو ما يصيب الإنسان من شدة تضعف قوته؛ سواء كان هذا البلاء جسديًّا كمرض، أو معنويًّا كإساءة من أحد الناس، ودرك الشقاء هو تبديل حال الإنسان من سعادة إلى شقاء، أو أن يكون في عداد الأشقياء، وسوء القضاء هو ما يقع من قضاء يحزن الإنسان ويسوؤه إذا لم يتلقَّ ذلك بالرضا والتسليم، أما شماتة الأعداء فهي أشد البلاء، ومعناها الفرح الذي يظهره العدو والكاره حينما يصيب الإنسان مكروه.
 
روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام، ومن سيئ الأسقام)).
نسأل الله تعالى أن يرفع عن أمتنا كل داء وبلاء، وأن يبدل خوفنا أمنًا وسلامًا.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير