أرشيف المقالات

طرق بر الوالدين في الحياة وبعد الممات

مدة قراءة المادة : 54 دقائق .
2طرق بر الوالدين في الحياة وبعد الممات
 
تعريف البر في اللغة:
معنى البر لغة: الخير والفضل، والإحسان والصدق.
 
قال ابن الأثير رحمه الله: "الْبِرُّ: الإحسان، ومنه الحديث في بر الوالدين، وهو في حقهما وحق الأقربين من الأهل ضد العقوق؛ وهو الإساءة إليهم، والتضييع لحقِّهم، يُقال: بَرَّ يَبَرُّ فهو بارٌّ، وجمعه بَرَرَة، وجمع البَرِّ أبرار"؛ [النهاية (1/ 116)].
 
وقال الفيومي رحمه الله: "الْبِرُّ: الخير والفضل، وبَرَّ الرجل يَبَرُّ برًّا، وبارٌّ أي صادق أو تقي، وهو خلاف الفاجر، وجمع بَرٍّ: أبرار، وجمع البار: بَرَرَة"؛ [المصباح المنير (1/ 43)].
 
وقال ابن فارس رحمه الله: "الباء والراء في المضاعف أربعة أصول: الصدق، وحكاية صوت، وخلاف البحر، ونبت، فأما الصدق: فقولهم: صدَقَ فلان وبرَّ، وبرَّت يمينه: صدقت، وأبرَّها: أمضاها على الصدق.
 
وتقول: برَّ الله حجَّك وأبرَّه، وحِجَّة مبرورة؛ أي: قُبِلت قبول العمل الصادق، ومن ذلك قولهم: يَبَرُّ ربه؛ أي: يطيعه وهو من الصدق"؛ [مقاييس اللغة (1/ 178، 177)].
 
تعريف البر شرعًا:
جاء في الموسوعة الفقهية: "يطلق البر في الأغلب على الإحسان بالقول اللين اللطيف، الدال على الرفق والمحبة، وتجنُّب غليظ القول الموجِب للنُّفرة، واقتران ذلك بالشفقة والعطف، والتودد والإحسان بالمال، وغيره من الأفعال الصالحات"؛ [الموسوعة الفقهية (8/ 63)].
 
تعريف آخر للبر شرعًا: "الإحسان إلى الوالدين والتعطُّف عليهما، والرفق بهما، والرعاية لأحوالهما، وعدم الإساءة إليهما، وعدم أذيتهما بالقول أو الفعل، والإنفاق عليهما، وخدمتهما، واستعمال الأدب والهيبة لهما، وشكرهما، والدعاء والاستغفار لهما، وغير ذلك مما أمر به الشرع"؛ [البر والصلة لابن الجوزي ص: 57].
 
معنى الإحسان إلى الوالدين لغة وشرعًا:
معنى الإحسان لغة:
الحَسَن ضد القبيح، والجمع محاسن على غير قياس، كأنه جمع (محسن)، ومعنى أحْسَنَ شخص إليك: أي: فعل إليك ما هو حَسَنٌ، مثل أن يتصدق إليك؛ وفي القرآن الكريم: ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ﴾ [الإسراء: 7]، وحسَّنت الشيء تحسينًا: زيَّنته.
 
معنى الإحسان شرعًا:
الإحسان كما يقول الراغب على وجهين:
1- الإنعام على الغير، يُقال: أحسن إلى فلان، مثل أن يُحسِن شخص غنيٌّ إلى فقير بصدقة؛ أي: يُنعم عليه بصدقة.
 
2- الإحسان في الفعل، وذلك إذا علَّم علمًا حسنًا، أو عمِل عملًا حسنًا، والدليل على ذلك قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الناس أبناءُ ما يُحسنون"؛ أي: منسوبون إلى ما يعلمونه وما يعملونه من الأفعال الحسنة؛ [المفردات للراغب ص: (236)].
 
ويقول المناوي: "الإحسان إسلامٌ ظاهر يُقيمه إيمان باطن، يكمله إحسان شهودي".
 
ويقول الكفوي: "الإحسان هو فعل الإنسان ما ينفع غيره بحيث يصير الغير حسنًا به، كإطعام الجائع، أو يصير الفاعل به حسنًا بنفسه"؛ [الكليات للكفوي (53)].
 
معنى الإحسان في العبادة ومنزلته:
الإحسان - كما يقول الفيروزآبادي - أعمُّ من الإنعام، وهو - أي الإحسان - من أفضل منازل العبودية؛ لأنه لُبُّ الإيمان وروحه وكماله، وجميع المنازل منطوية فيه؛ قال تعالى: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه))؛ [رواه البخاري]؛ [بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي (2/ 465، 466)، ولسان العرب (13/ 115، 117)].
 
الآيات المذكور فيها الإحسان:
1- قال تعالى: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].
2- قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ [النساء: 125].
3- قال تعالى: ﴿ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ [البقرة: 178].
4- قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
5- قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195].
6- قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26].
7- قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ﴾ [النحل: 30].
 
المراد بالإحسان إلى الوالدين:
1- البر بهما، مع اللطف ولين الجانب لهما.
2- عدم أذيتهما بالقول السيئ؛ مثل: قول أفٍّ، أو نهرهما، ويقول لهما قولًا حسنًا وكريمًا.
3- التواضع لهما وخدمتهما.
4- النفقة عليهما، إذا كان الولد غنيًّا، والوالدان فقيرَينِ ومحتاجين.
5- الدعاء لهما بالرحمة والمغفرة.
6- شكر الله عز وجل، ثم شكر الوالدين على هذه النعمة.
7- الاستئذان عليهما وصِلَة أهل ودِّهما.
 
نصوص من القرآن تحث على البر والإحسان بالوالدين:
1- قال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 23 - 25].
 
2- قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 14، 15].
 
3- قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [البقرة: 83].
 
بعض النصوص من السنة النبوية:
1- عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أيٌّ؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله))؛ [متفق عليه].
 
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جاء رجلٌ فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحُسن صَحَابتي؟ قال: أمُّك، قال: ثُمَّ من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك))؛ [متفق عليه].
 
3- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رغِم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبويه عند الكِبَرِ، أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة))؛ [رواه الإمام مسلم في كتاب البر والصلة].
 
وصية القرآن الكريم بالبر والإحسان إلى الوالدين وأسبابها:
أكَّد الإسلام البرَّ والإحسان إلى الوالدين؛ قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ﴾ [الأحقاف: 15]، وقال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾ [العنكبوت: 8]، وقال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23].
 
معنى الآية: حق الله عز وجل هو العبادة الخالصة لله، ولا تشرك به أحدًا، وحق الوالدين هو البر والإحسان لهم.
 
وجعل الله عز وجل البرَّ والإحسان بالوالدين في منزلة تلي عبادته مباشرة؛ وذلك للأسباب الآتية:
1- أن الله عز وجل أنْعَمَ على الإنسان بنعمة الخلود والإيجاد في هذه الحياة، والأبوان هما مظهر هذه النعمة، فإنها من الوالدين نشأت، ومنهما ابتدأت، وعلى يديهما ظهرت.
 
2- أن الأبوين قد بذلا جهدًا جبارًا من أجل الأبناء، فالأم عانت من الآلام والعذاب ألوانًا أثناء الحمل، وعند الوضع، وفي تربيتهم والحفاظ عليهم، والقيام بشؤونهم وهم صغار، والعطف عليهم وهم كبار، والأب عانى الكثير من الكدِّ والكدح والسعي للحصول على المال، الذي يستطيع أن يقوم بالواجب المنوط به تجاه أولاده وزوجته، ورعايتهم والحفاظ عليهم، والإنفاق عليهم وتعليمهم، حتى يصيروا في سنٍّ يعتمدون فيها على أنفسهم؛ قال تعالى: ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ﴾ [لقمان: 14].
 
3- أن إنعام الآباء والأمهات على الأبناء يشبه إنعام الله عز وجل؛ من حيث إنهم لا يطلبون مقابلًا لرعايتهم لأولادهم، ولا ينتظرون ثناء ولا ثوابًا ولا عطاء من أحد، بل يفعلون ذلك بدافع الفطرة والحنان التي أودعها الله عز وجل في نفوسهم.
 
طرق البر والإحسان في حياتهما:
أمر الله عز وجل بالبر والإحسان بالوالدين، وجَعَلَ الأمر به بعد الأمر بعبادته مباشرة؛ قال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23].
 
ومن طرق البر والإحسان في الحياة:
1- شكر الله عز وجل على نعمة الوالدين:
قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15].
 
2- شكر الوالدين على تربية الولد ومراعاتهما له:
أمر الله سبحانه وتعالى الأبناءَ بتوجيه الشكر إلى الله عز وجل الْمُنْعِم الأول على الإنسان، ثم توجيه الشكر للوالدين المنعمَين التالِيَين؛ وفي ذلك يقول سبحانه: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14].
 
3- عدم أذيتهما بالقول السيئ؛ مثل: قول أفٍّ، ولا يشتمهما، ولا ينهرهما، ويقول لهما قولًا حسنًا وكريمًا:
قال تعالى: ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23].
 
4- التواضع لهما ولين الجانب لهما:
قال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ [الإسراء: 24].
 
5- النفقة عليهما إن كانوا محتاجين فقيرين وكان الولد غنيًّا:
قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ [البقرة: 215].
 
6- الاستئذان عليهما:
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [النور: 59].
 
7- القيام لهما عند قدومهما:
رَوَتِ السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت أحدًا أشبهَ سَمْتًا ولا هَدْيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، قام إليها وقبَّلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها، قامت من مجلسها فقبَّلته وأجلسته في مجلسها))؛ [رواه الحاكم في المستدرك (4/ 272)].
 
8- المحافظة على سمعتهما، والحذر من التسبُّب في شتمهما:
عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أكبر الكبائر أن يسُبَّ الرجل والديه، قيل: وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: يستاب الرجل فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه))؛ [رواه البخاري في الأدب].
 
9- السلام عليهما عند الدخول والخروج من عندهما:
روى البخاري وغيره "أن أبا هريرة كان إذا غَدَا من منزله لبِس ثيابه، ثم وقف على أمِّه، فقال: السلام عليكم يا أمَّتاه ورحمة الله وبركاته، جزاكِ الله عني خيرًا كما ربَّيتِني صغيرًا، فترد عليه: وأنت يا بني فجزاك الله عني خيرًا كما بررتني كبيرة، ثم يخرج فإذا رجع قال مثل ذلك"؛ [أخرجه البخاري في الأدب المفرد (14، 12)].
 
10- إدخال السرور على قلبيهما بالإكثار من برهما، وتقديم الهدايا لهما، والتودد لهما بفعل كل ما يُحبَّانه ويفرحان به.
 
11- المحافظة على أموالهما وأمتعتهما، وعدم أخذ شيء منهما إلا بإذنهما.
 
12- تفقُّد مواضع راحتهما، وتجنب إزعاجهما أثناء نومهما، أو الدخول عليهما في غرفتهما إلا بإذنهما.
 
13- الإكثار من الدعاء والاستغفار لهما:
قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]، قال تعالى: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [نوح: 28].
 
14- استشارتهما في جميع الأمور، والاستفادة من رأيهما وتجارِبهما ونصائحهما.
 
15- أخذ إذنهما عند الخروج لجهاد التطوع:
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ((جاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال: أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهِدْ))؛ [أخرجه البخاري في كتاب الجهاد].
 
16- تجنُّب الأمور المؤدِّيَة إلى العقوق؛ ومنها:
أ‌- أذيتهما بالقول السيئ؛ مثل: قول أفٍّ، ونهرهما، وشتمهما، وأذيتهما بالفعل السيئ مثل ضربهما.
ب‌- عدم الدعاء والاستغفار لهما.
ت‌- عدم شكرهما.
ث‌- عدم الإنفاق عليهما، إذا كان الولد غنيًّا، والوالدان فقيرين.
ج‌- عدم برهما والإحسان إليهما.
 
طرق بر الوالدين منذ احتضارهما وحتى دفنهما:
1- تلقينهما عند الاحتضار كلمة التوحيد؛ وهي: لا إله إلا الله:
الدليل: روى الإمام مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لقِّنوا موتاكم: لا إله إلا الله)).
 
2- الدعاء لهما، وذِكْرُ الله، إذا أشرفا على الموت وعَقِبَه:
الدليل: قالت السيدة أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلا آجَرَهُ الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها، قالت: فلما تُوفِّيَ أبو سلمة، قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لي خيرًا منه؛ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم)).
 
3- توجيههما إلى القِبْلَةِ:
الدليل: عن أبي قتادة رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدِم المدينة، سأل عن البراء بن معرور، فقالوا: تُوفِّيَ، وأوصى بثلث ماله لك، وأن يوجَّه للقِبلة لما احتُضر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصاب الفطرة، وقد رَدَدْتُ ثلث ماله على ولده، ثم ذهب فصلى عليه، وقال: اللهم اغفر له وارحمه، وأدخله جنتك، وقد فعلت))؛ [رواه الحاكم في المستدرك (1/ 353)].
 
4- تغميض عينيهما إذا ماتا أو مات أحدهما، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي سلمة.
 
5- تغطيتهما؛ صيانة لهما عن الانكشاف، وسترًا لصورتهما المتغيرة عن الأعْيُنِ:
الدليل: عن عائشة رضي الله عنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حين تُوفِّيَ، سُجِّيَ في ثوب حِبَرَة))؛ [رواه أبو داود (312)]، سجي: أي غُطِّيَ، وحِبَرَة: أي: ثوب فيه أعلام.
 
6- المبادرة بتجهيز من مات منهما متى تحقق موته، وتعجيل غسله، والصلاة عليه، ودفنه؛ مخافة أن يتغير:
الدليل: أن طلحة بن البراء مرِض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يَعُوده فقال: ((إني لا أرى طلحةَ إلا قد حدث فيه الموت، فآذِنوني وعجِّلوا؛ فإنه لا ينبغ لجيفة مسلم أن تُحْبَسَ بين ظَهْرَي أهله))؛ [رواه أبو داود، وابن ماجه، رقم (1523)]، آذنوني: أعْلِموني.
 
7- إعلام أهل الميت وقرابته، وأصدقائه وأهل الصلاح بموته؛ ليكون لهم أجر المشاركة في تجهيزه والدعاء له.
 
الدليل: ((نعى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشيَّ صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه، فقال: استغفروا لأخيكم))؛ [رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الجنائز، باب: الرجل ينعَى إلى أهل الميت بنفسه].
 
8- غسله وتكفينه، والصلاة عليه، وتشييع جنازته، وقضاء الدَّين عنه، وتنفيذ الوصية:
الدليل: قالت أم عطية رضي الله عنها: ((دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نغسِّل ابنته - وهي زينب رضي الله عنها - فقال: اغسِلْنَها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن، بماء وسِدْرٍ، واجعلن في الآخرة كافورًا أو شيئًا من كافور، فإذا فرغتُنَّ فآذِنَّنِي، فلما فرغنا آذنَّاه، فألقى إلينا حِقْوَه فقال: أشْعِرْنَها إياه))، معنى آذنني: أعلمنني؛ [رواه البخاري في الجنائز، باب: المؤمن لا ينجَس، ورواه مسلم في باب: غسل الميت].
 
الصلاة على الميت من فروض الكفاية لأمر الرسول بها.
 
الدليل: عن أبي هريرة رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُؤتى بالرجل المتوفَّى عليه الدَّينُ، فيسأل: هل ترك لدينه فضلًا؟ فإن حُدِّث أنه ترك وفاءً، صلَّى، وإلا قال للمسلمين: صلُّوا على صاحبكم))؛ [رواه البخاري ومسلم في الفرائض، والنسائي في الجنائز].
 
9- الاستغفار والدعاء له، وتلقينه الشهادةَ وكلمةَ التوحيد بعد الدفن:
يُستحَبُّ الاستغفار للميت بعد الفراغ من دفنه، وسؤال التثبيت له؛ لأنه يُسأل في هذه الحالة.
 
الدليل: عن عثمان قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه، وقال: استغفروا لأخيكم، وسَلُوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل))؛ [رواه أبو داود في الجنائز، والترمذي رقم (73)].
 
وروى رزين عن عليٍّ: "أنه كان إذا فرغ من دفن الميت، قال: اللهم هذا عبدك، نزل بك وأنت خير منزول به، فاغفر له، ووسِّع مُدخله"، واستحبَّ ابن عمر قراءة أول سورة البقرة وخاتمتها على القبر بعد الدفن.
 
طرق بر الوالدين بعد موت الوالدين:
1- الدعاء والاستغفار لهما.
2- إنفاذ عهدهما؛ تسديد ديونهما، وقضاء النذر عنهما، وتنفيذ وصيتهما.
3- الصدقة وأداء العبادات الواجبة عنهما؛ مثل: الصوم، والحج.
4- صلة الرحم التي لا رَحِمَ لك إلا من قِبلِهما.
5- البر والإحسان، وإكرام أصدقاء الوالدين.
 
1- الدعاء والاستغفار لهما:
أمَرَ الله عز وجل الأبناءَ في القرآن الكريم بالدعاء والاستغفار للوالدين؛ ومن الأدلة على ذلك:
أولًا: الأدلة من القرآن الكريم على الأمر بالدعاء والاستغفار للوالدين:
أ‌- الدعاء بالرحمة للوالدين؛ قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24].
 
ب‌- الدعاء بالمغفرة لهما؛ مثل دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام لأبيه؛ قال تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41]، وقوله: ﴿ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [الشعراء: 86]، ودعوة سيدنا نوح عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [نوح: 28].
 
ت‌- الدعاء بالشكر لله على نعمة وجود الوالدين؛ مثل دعوة سيدنا سليمان عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19].
 
ثانيًا: الأدلة من السُّنَّة على الأمر بالدعاء والاستغفار للوالدين:
أ‌- عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال: ((بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقِيَ من برِّ أبويَّ شيءٌ أبرُّهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا تُوصَل إلا بهما، وإكرام صديقهما))؛ [رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب بر الوالدين]، والمقصود بالصلاة عليهما: الدعاء، ومنه صلاة الجنازة، والاستغفار لهما: أي: طلب المغفرة لهما.
 
ب‌- قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
 
ت‌- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل لَيرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك))؛ [أخرجه الإمام أحمد في المسند، وابن الجوزي في البر والصلة].
 
2- تنفيذ عهد الوالدين بعد مماتهما:
إن من بر الوالدين بعد مماتهما قيامَ الأبناء بالوفاء بجميع العهود والوعود والالتزامات التي قطعها الآباء والأمهات على أنفسهم أثناء حياتهم؛ ومن الأدلة على ذلك: روى الحاكم في مستدركه وغيره ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّمه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، إن أبويَّ قد هلكا، فهل بقي عليَّ من برهما شيء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أربعة أشياء: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة رحمهما التي لا رَحِم لك إلا من قِبَلِهما، فقال الرجل: ما أكبر هذا أو ما أطيبه يا رسول الله! قال: فاعمل به))؛ [أخرجه الحاكم في المستدرك وابن حبان، وقال الحاكم: صحيح الإسناد].
 
أ‌- تسديد ديونهما:
الديون من الأمور التي اهتم الإسلام بها، ونوَّه بقيمة الوفاء فيها، وبيَّن أن سدادها من آكَدِ الحقوق عند الله، وإذا كان على الوالدين أو على أحدهما دَينٌ، ثم ماتا أو مات من عليه دَين قبل سداده، فمن الواجب على الأبناء - ذكورًا وإناثًا - أن يسددوا هذا الدَّين من تَرِكَةِ مَن عليه الدين، فإذا لم تَفِ التركة بالدَّين المستحق، فعلى الأبناء أن يسددوا الدين من أموالهم الخاصة؛ وذلك لأن العبد مأسور بدَينه، كما أخبرنا بذلك الرسول الكريم في الأحاديث النبوية الشريفة؛ ومنها ما يلي:
عن سمرة قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال: أها هنا من بني فلان أحدٌ؟ ثلاثًا، فقام رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما منعك في المرتين الأُولَيَين ألَّا تكون أجبتني؟ أمَا إني لم أنوِّهْ بك، إن فلانًا لَرجل منهم مات مأسورًا بدَينه))؛ [أخرجه النسائي في كتاب البيوع، باب التغليظ في الدين].
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُؤتَى الرجل المتوفَّى، عليه الدَّينُ، فيسأل: هل ترك لدينه فضلًا؟ فإن حُدِّث أن ترك لدينه وفاءً، صلَّى، وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن تُوفِّيَ من المؤمنين فتَرَكَ دَينًا فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته))؛ [أخرجه البخاري في الكفالة، باب: الدين].
 
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((تُوفِّيَ أبي وعليه دَين، فعرضت على غُرَمائه أن يأخذوا التمر بما عليه، فأبَوا ولم يَرَوا أن فيه وفاءً، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: إذا جَدَدْتَه فوضعته في الْمِرْبَدِ، آذنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ومعه أبوبكر وعمر، فجلس عليه ودعا بالبركة، ثم قال: ادعُ غرماءك فأوفِهم، فما تركت أحدًا له على أبي دَين إلا قضيتُه))؛ [أخرجه البخاري في كتاب الصلح].
 
ب‌- قضاء النذر عنهما، وأداء ما عليهما من عبادات:
من بر الوالدين بعد موتهما أن يقضوا النذر عنهما، ويَفُوا بالنذر إذا كان في حدود طاعة الله، وأما إذا كان النذر في معصية الله، فلا يُوفَّى به؛ مثل: أن يقول إن شفاني الله، فعليَّ أن أُطعم 100 فقير من لحم الخنزير، فلا يوفى به، إذا كان في معصية الله؛ والدليل على ذلك: ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من نذر أن يطيع الله فلْيُطِعْهُ، ومن نذر أن يعصيه فلا يَعْصِه))؛ [رواه البخاري وأبو داود والترمذي].
 
ومن الأدلة بالأمر بالوفاء بالنذر، وقضاء العبادات عن الوالدين:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما ((أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر، فقال: اقضِه عنها))؛ [أخرجه البخاري ومسلم في النذر].
 
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا: ((أن امرأة ركِبتِ البحر، فنذرت إن أنجاها الله تبارك وتعالى أن تصوم شهرًا، فأنجاها الله عز وجل فلم تَصُمْ حتى ماتت، فجاءت قرابة لها - إما أختها أو ابنتها - إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: أرأيتك لو كان عليها دَين كنتِ تَقْضِينه؟ قالت: نعم، قال: فدَين الله أحق أن يُقضى، فاقضِ عن أمكِ))؛ [أخرجه الإمام أحمد].
 
3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا: ((أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحُجَّ، فلم تحج حتى ماتت، أفأحُجُّ عنها؟ قال: نعم حُجِّي عنها؛ أرأيتِ لو كان على أمكِ دين أكنتِ قاضِيَتَه؟ اقضُوا اللهَ؛ فالله أحق بالوفاء))؛ [أخرجه البخاري].
 
ث‌- تنفيذ الوصية:
تعريف الوصية: الوصية مشتقة من: وصيت الشيء أوصيته إذا وَصَلْتُه، وسميت وصية؛ لأنه وَصَلَ ما كان في حياته بما بعده.
 
والوصية حثَّ عليها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة؛ منها ما يلي:
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده))؛ [شرح النووي على صحيح مسلم].
 
وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: ((عادني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أُوصِي بمالي كله؟ قال: لا، قلت: فالنصف؟ قال: لا، فقلت: أبالثلث؟ فقال: نعم، والثلث كثير))؛ [أخرجه الإمام مسلم، الحديث رقم (1)].
 
يجب على الأبناء تنفيذ الوصية إذا كانت في حدود طاعة الله وفي المعروف؛ ودليل ذلك: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف))؛ [رواه البخاري ومسلم]؛ قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]، ولا تُنفَّذ إذا أوصى الوالدين بما يخالف شرع الله، وكانت الوصية فيها أمرٌ بالمنكر، ونهي عن المعروف؛ مثل: أن يوصوا بفتح محل لبيع الخمر؛ ودليل ذلك قول الرسول: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل))؛ [رواه أحمد (3889)، وهو حديث صحيح]؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 15].
 
3- الصدقة وأداء العبادات الواجبة عنهما؛ مثل: الصوم، والحج.
 
فمن بر الوالدين بعد موتهما أداءُ الصدقة عنهما، وعمل صدقة جارية عنهما؛ ودليل ذلك:
1- عن عائشة رضي الله عنهما ((أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افْتُلِتَتْ نفسها، وأظنُّها لو تكلمَتْ تصدَّقت، فهل لها من أجر إن تصدقتُ عنها؟ قال: نعم))؛ [رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب: موت الفجأة البغتة]، معنى: افتُلِتَتْ نفسها: ماتت فجأة.
 
2- وعن ابن عباس ((أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن أمي توفيت ولم تُوصِ، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم))؛ [أخرجه البخاري في كتاب الأدب المفرد، باب: بر الوالدين بعد موتهما].
 
3- وعن عبدالله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: ((بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة، فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت؟ قال: فقال: وجب أجرك، وردها عليك الميراث، قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج قط، أفأحج عنها؟ قال: حُجِّي عنها))؛ [رواه الإمام مسلم في كتاب الصيام، باب: قضاء الصوم عن الميت].
 
قال النووي رحمه الله بعد ذكره لحديث السيدة عائشة رضي الله عنهما: "وفي هذا الحديث جواز الصدقة عن الميت واستحبابها، وأن ثوابها يصله وينفعه، وينفع المتصدق أيضًا، وهذا كله أجمع عليه المسلمون"؛ [شرح النووي على صحيح مسلم].
 
4- صلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قِبَلِهما:
من بر الوالدين بعد موتهما أن يصل الأبناء رحمهما.
 
تعريف الصلة لغة:
الصلة والوصل في اللغة مصدر وصَلَ يَصِلُ صِلَةً ووَصْلًا، وتدل مادة (وصل) على ضم شيء إلى شيء، وجمعه معه، ولَأْمِهِ حتى يعلقه، من ذلك (الوصل)، والوصل ضد الهجران، والوصل أيضًا وصل الثوب والخُفِّ ونحوهما، وبينهما (وُصْلَةٌ) أي: اتصال وذريعة، وكل شيء اتصل بشيء فيما بينهما وُصْلَةٌ وصِلَة، والجمع وُصَلٌ.
 
والوصل: خلاف الفصل، واتصل الشيء بالشيء: لم ينقطع؛ [مختار الصحاح، ومقاييس اللغة، والصحاح للجوهري، ولسان العرب].
 
تعريف الرحم لغة:
الرحم: اسم مشتق من مادة (ر ح م) التي تدل على الرقة والتعطُّف والرأفة، والرحم: موضع تكوين الجنين، ووعاؤه البطن.
 
والرَّحِم: القرابة وأسبابها، والجمع أرحام، وذوو الأرحام: الأقارب الذين ليسوا من العَصَبَةِ، ولا من ذوي الفروض، كبنات الإخوة وبنات الأعمام؛ [مختار الصحاح، والمعجم الوجيز].
 
الدليل على صلة رحمهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أَبَرَّ البِرِّ أن يَصِلَ الرجل أهل وُدِّ أبيه))؛ [صحيح مسلم بشرح النووي].
 
ويقول أبو بردة: "أتيت المدينة، فأتاني عبدالله بن عمر، فقال: هل تدري لِمَ أتيتُك؟ قال: قلت: لا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحبَّ أن يَصِلَ أباه في قبره، فَلْيَصِلْ إخوان أبيه بعده، وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء ووُدٌّ، فأحببتُ أن أصِلَ ذلك))؛ [رواه أبو يعلى وابن حبان، وهو في الصحيحة].
 
كيفية صلة الأبناء لرحم الوالدين:
1- الزيارة والسلام عليهم، وتعهدهم بالهدايا.
 
2- قضاء حوائجهم وخدمتهم.
 
3- التصدق بالمال على الأقارب الفقراء منهم؛ دليل ذلك: عن سليمان بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الصدقة على المسكين صدقة، والصدقة على ذي الرحم اثنتان: صدقة، وصِلَةٌ))؛ [أخرجه الترمذي في الزكاة].
 
4- الاتصال عليهم بوسائل الاتصال المتاحة مثل الهاتف.
 
5- الإحسان والعطف عليهم، والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم، إن بعدوا أو أساؤوا.
 
ثواب صلة الرحم:
1- من وصَلَها وَصَلُه الله: دليل ذلك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: أنا الرحمن، خلقت الرَّحِمَ، وشَقَقْتُ لها من اسمي، فمن يَصِلْها أصِلْهُ، ومن يقطعها أقطعه، فَأَبِتُّه، أو قال: من بتَّها أبُتُّه))؛ [أخرجه الحاكم في كتاب البر والصلة].
 
2- تعجيل الثواب في الدنيا لواصل الرحم، وإدخاله الجنةَ في الآخرة: الدليل: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من عمل أُطيع الله فيه أَعْجَل ثوابًا من صلة الرحم، وما من عمل عُصِيَ الله فيه أعجل عقوبة من البَغْيِ، واليمين الفاجرة تَدَعُ الدِّيارَ بَلَاقِعَ))؛ [أخرجه الإمام أبو حنيفة في مسنده]، البلاقع: جمع بلقع وبلقعة؛ وهي الأرض القَفْرُ التي لا شيء بها، يريد أن الحالف بها يفتقر ويذهب ما في بيته من الرزق، وقيل: هو أن يفرِّق الله شمله، ويغيِّر ما أولاه من نِعَمِهِ.
 
3- تكون سببًا في طول العمر، وسعة الرزق، ودفع مِيتةِ السوء، وتعمير الديار، وجلب محبة الأهل: الدليل: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سرَّه أن يُمَدَّ له في عمره، ويوسع له في رزقه، ويُدفع عنه مِيتة السوء، فَلْيَتَّقِ الله، ولْيَصِلْ رحِمه))؛ [أخرجه الحاكم في المستدرك، وهو صحيح].
 
5- البر والإحسان وإكرام أصدقاء الوالدين بعد مماتهما:
إن من تمام البر بالوالدين أن يَبَرَّ الولد أصدقاء والديه بعد مماتهما، وأن يصل أهل ودهما، ويُحسِن إليهم، ويعطف عليهم، ويعاملهم معاملة كريمة لائقة بهم؛ ومن الأدلة على ذلك:
أ‌- عن أسيد بن علي بن عبيد عن أبيه أنه سمع أسيدًا قال: ((قال رجل: يا رسول الله، هل بقِيَ من بر أبويَّ شيء بعد مماتهما؟ قال: نعم، خصال أربع: الدعاء لهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رَحِم لك إلا من قِبَلِهما))؛ [أخرجه الإمام أحمد في مسنده].
 
ب‌- عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أبَرَّ البر أن يصِلَ الرجل أهلَ وُدِّ أبيه بعد أن يُولِّي))؛ [أخرجه مسلم في البر والصلة]، أبر البر: أكمله وأبلغه، ود أبيه: صديق أبيه.
 
كيفية البر بأصدقاء الوالدين:
1- أن نحبهم في الله حبًّا ساميًا، مجردًا عن كل منفعة.
2- أن نلقاهم بوجه طلق بشوش، متهلل مبتسم.
3- أن نعاملهم برفق ولين ولطف.
4- أن نكون أوفياء لهم، محافظين على العهود والوعود.
 
5- أن ننصرهم في جميع الأحوال، فإن كانوا على الحق نقف بجانبهم، وإن كانوا على غير الحق ننصرهم كذلك، فننهاهم بأدب، وننصحهم بلطف وتودد؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((لينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا؛ إن كان ظالما فَلْيَنْهَهُ، فإنه له نصر، وإن كان مظلومًا فلْيَنْصُرْه))؛ [أخرجه مسلم في البر والصلة].
 
6- أن نكون معهم كرماء، نُؤْثِرهم على أنفسنا، صانعين معهم المعروف.
7- أن ندعو لهم.
 
ثمار البر بالوالدين (ثواب بر الوالدين):
1- زيادة العمر وسعة الرزق:
الدليل: عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَرُدُّ القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر))؛ [رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم].
 
2- البار ينال رضا الله تبارك وتعالى:
الدليل: عن عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد))؛ [أخرجه الترمذي مرفوعًا (4/ 311 رقم: 1899)، كتاب البر والصلة، باب: ما جاء من الفضل في رضا الوالدين].
 
3- بر الوالدين كفارة للسيئات، ومغفرة للذنوب، وسبب للنجاة من النار:
الدليل:
أ- عن ابن عمر رضي الله عنهما، ((أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني أصبت ذنبًا عظيمًا، فهل لي توبة؟ قال: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فبَرَّها))؛ [رواه الترمذي (1904)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2504)].
 
ت‌- رُوي أن رجلًا جاء إلى عُمر، فقال: إني قتلت نفسًا، قال: ويحك أخطأ أم عمدًا؟ هل من والديك أحد حيٌّ؟ قال: نعم، قال: أمك؟ قال: لا والله، إنه لأبي، قال: انطلق فبره، وأحسن إليه، فلما انطلق، قال عمر: والذي نفس عمر بيده، لو كانت أُمه حية فبرها، وأحسن إليها، رجوت ألَّا تطعمه النار أبدًا"؛ [البر والصلة لابن الجوزي (ص 70)].
 
ث‌- عن طيسلة بن مياس، قال: "قال لي ابن عمر: أتفرق النار، وتُحب أن تدخل الجنة؟ قُلت: إي والله، قال: أحيٌّ والداك؟ قلت: عندي أمي، قال: فوالله لو ألنتَ لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر"؛ [رواه البخاري في الأدب المفرد (8)، وصححه الألباني].
 
ج‌- وقال يحيى بن أبي كثير: ((لما قدم أبو موسى الأشعري وأبو عامر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه وأسلموا، قال: ما فعلت امرأة منكم تُدعى كذا وكذا؟ قالوا: تركناها في أهلها، قال: فإنه قد غُفِرَ لها؟ قالوا: بِمَ يا رسول الله؟ قال: ببرها والدتها، قال: كانت لها أمٌّ عجوز كبيرة، فجاءهم النذير أن العدو يريد أن يُغير عليكم، فجعلت تحملها على ظهرها، فإذا أعيت وضعتها، ثم ألزقت بطنها ببطن أمها، وجعلت رجليها تحت رجلي أمها من الرَّمضاء حتى نَجَتْ))؛ [رواه عبدالرازق في مصنفه (20124)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 175)].
 
4- بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى:
الدليل: ((سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قيل: ثم أيٌّ؟ قال: ثم بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله))؛ [رواه البخاري (527)، ومسلم (85)].
 
5- بر الوالدين من أسباب دخول الجنة:
الدليل:
أ- ((لما جاءه صلى الله عليه وسلم من يُريد الخروج إلى الجهاد، قال له: هل لك من أُمٍّ؟ قال: نعم، قال: فالزمها، فإن الجنة تحت رجليها))؛ [رواه النسائي (3104)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (5/ 21)].
 
ت‌- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رغِمَ أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكِبَرِ، أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة))؛ [رواه الإمام مسلم في البر والصلة].
 
ث‌- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضِعْ ذلك الباب أو احفظه))؛ [رواه الترمذي (1900)، وابن ماجه (2089)، وهو في صحيح الجامع (7145)]، معنى: فأضع ذلك الباب أو احفظه: أضِع ذلك الباب بالعقوق، أو احفظه بالبر.
 
6- بر الوالدين من أسباب إجابة الدعاء، وتفريج الكربات، والنجاة من المهالك:
الدليل:
أ- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما ثلاثة رهط يتماشَون، أخذهم المطر فأوَوا إلى غار في جبل، فينما هم فيه انحطت عليهم صخرة فأطبقت عليهم الغار، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى أفضل أعمال عمِلتُموها، فسَلُوه بها؛ لعله يفرِّج عنكم، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان كبيران، وكانت لي امرأة وأولاد صغار، وكنت أرعى عليهم، فإذا أرحت غنمي، بدأت بأبوي فسقيتهما، فلم آتِ حتى نام أبواي، فطيَّبت الإناء، ثم حلبت، ثم قمت بحلابي عند رأس أبويَّ، والصبية يتضاغَون عند رجلي، أكره أن أبدأ بهم قبل أبويَّ، وأكره أن أوقظهما، فلم أزل كذلك قائمًا حتى أضاء الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا فُرجة نرى منها السماء، ففرج الله لهم فُرجة، فرأوا منها السماء...))؛ [رواه البخاري (2333)، ومسلم (2743)].
 
ب- عن أُسير بن جابر، أن أهل الكوفة وفدوا إلى عُمر، وفيهم رجل ممكن كان يسخر بِأُويسٍ، فقال عمر: هل ها هنا أحد من القرنيين؟ فجاء ذلك الرجل، فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: ((إن رجلًا يأتيكم من اليمن يُقال له: أُويس، لا يَدَعُ باليمن غير أُمٍّ له، قد كان به بياض فدعا الله فأذهبه عنه، إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لَقِيَه منكم فليستغفر لكم))؛ [رواه مسلم في الفضائل (224)].
 
7- البار يُعطى ثواب الحاج والمعتمر والمجاهد:
الدليل: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد؟ قال: أمي، قال: قابِلِ الله في برها، فإذا فعلت ذلك، فأنت حاج ومعتمر ومجاهد))؛ [ذكره ابن حجر في المطالب العالية (2519)].
 
ضوابط بر الوالدين:
عقوق الوالدين وعقوبته وبعض المسائل المتعلقة به:
مفهوم عقوق الوالدين لغة:
عَقَّ، يَعُقُّ، عقوقًا: العقُّ: الشقُّ أو القطع، يُقال: عقَّ ثوبه أي شقَّ ثوبه، ومنه يُقال: عق الولد أباه، من باب قَعد: إذا ترك الإحسان إليه فهو عاقٌّ، والجمع: عَقَقَةٌ.
 
ويُقال: عق والده يعُق، عقوقًا ومَعَقَّة على وزن مشقة، وجمع عاق: عَقَقَةٌ، ككافر وكفرة؛ [لسان العرب (10/ 257)].
 
مفهوم عقوق الوالدين شرعًا:
هو أن يُغضِب الولد والديه بترك البر والإحسان إليهما، وفعل كل ما يؤذي الوالدين؛ بالقول: مثل: قول سيئ لهما مثل أفٍّ، أو شتمهما، وعدم قول كريم لهما، وعدم السلام عليهما، أو بالفعل: مثل ضربهما أو تضييعهما بترك الإنفاق عليهما، إذا كانوا فقراء ومحتاجين.
 
قال أبو عمرو بن الصلاح: "كل فعل يتأذى به الوالدان تأذِيًا ليس بالهيِّن، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة".
 
قال ابن عطية: "ما يتأذى به الوالدان من ولدهما من قول أو فعل، إلا في شرك أو معصية، ما لم يتعنَّت الوالدان".
 
عقوبة عقوق الوالدين:
1- العقوق من أكبر الكبائر:
الدليل: عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألَا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس، فقال: ألَا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليتَه سكت))؛ [رواه البخاري (3/ 325، 418)، ومسلم في الإيمان (143، 144)].
 
2- العاقُّ ملعون:
الدليل: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله سبعة من فوق سبع سماوات، وردَّد اللعنة على واحد منها ثلاثًا، ولعن كل واحد منهم ثلاثًا، ولعن كل واحد منهم لعنة تكفيه، قال: ملعون من عمِلَ عَمَلَ قوم لوط، ملعون من عمِل عَمَلَ قوم لوط، ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من ذبح لغير الله، ملعون من عق والديه))؛ [رواه الإمام أحمد (1/ 217، 317)].
 
3- العاق تُعجَّل له العقوبة في الدنيا:
الدليل: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عال جاريتين حتى تُدركا، دخلت أنا وهو الجنة، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى، وبابان معجَّلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق))؛ [أخرجه البغوي في شرح السنة (6/ 188)، والحاكم في المستدرك (4/ 177)، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1120)].
 
مسائل ليست من البر أو من عقوق الوالدين:
1- طاعة الوالدين في الشرك بالله أو المعاصي:
ليس من بر الوالدين طاعة الوالدين في الشرك بالله أو المعاصي؛ والأدلة على ذلك:
أ- قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 13 - 15].
 
ب- قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 8].
 
ج- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل))؛ [رواه أحمد (3889)، وهو حديث صحيح].
 
د- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف))؛ [رواه البخاري (7257)، ومسلم (1840)].
 
ذ- قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2].
 
إذا أمَرَ الوالدان ولدهما بترك معروف واجب؛ مثل: ترك فرض من الصلوات الخمس المفروضة، أو عدم أدائها من البنين في المساجد، أو نحو ذلك من الطاعات الواجبة، فإنه لا يجوز للولد طاعتهما في شيء من ذلك، وإذا أمَرَاهُ بفعل منكر من المنكرات؛ مثل: قطيعة الرحم، أو شرك بالله، أو شرب خمر - لا يجوز طاعتهما في فعل المنكر، أو ترك المعروف الواجب؛ لأن الأمر يكون في المعروف، والنهي يكون عن المنكر، والطاعة تكون في المعروف؛ قال تعالى: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 17 - 19]، معنى الآية: أن لقمان يعظ ابنه بالأمر بالمعروف؛ مثل: إقامة الصلاة، والصبر عند الشدة، وغض الصوت، وينهاه عن المنكر؛ مثل: الشرك بالله، وعدم التكبر على الناس؛ لأن الله لا يحب كل مختال فخور.
 
2- الاستغفار للوالد الكافر، أو المشرك، أو المنافق:
لا يجوز الاستغفار للوالد الكافر أو المشرك أو المنافق، وليس من البر أو من العقوق؛ قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113].
 
3- طاعة الوالدين في أمر يعود بالضرر على الولد:
ليس من بر الوالدين طاعةُ الوالدين في شيء، يعود بالضرر على الولد؛ مثل: أن يجبر الوالدين ولده بالزواج من امرأة معينة، لا يريدها الولد.
 
الدليل: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر، ولا ضرار))؛ [رواه ابن ماجه وغيره، وصححه الألباني].
 
المصدر: كتاب من وصايا القرآن الكريم، البر بالوالدين في الحياة وبعد الممات، للدكتور أحمد عبدالغني محمد النجولي (كلية أصول الدين جامعة الأزهر بالقاهرة)، ولمعرفة المزيد من أحكام بر الوالدين، الرجاء قراءة هذين الكتابين، وقراءة كتاب البر والصلة لابن الجوزي، وزيارة موقع الشيخ ابن عثيمين، قسم البر والصلة، وزيارة موقع ابن باز قسم البر والصلة.
 
أسأل الله أن يوفقنا للبر بآبائنا وأمهاتنا، أحياء وأمواتًا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
 
ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
 
ربنا اغفر لنا ولوالدينا، ربنا ارحمهما كما ربَّيَانا صغارًا.
 
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣