أرشيف المقالات

ما لا يسع المتصدر

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2ما لا يسع المتصدّر
 
كلّ متكلم أو متحرّك باسم الدين متصدّر لا يسعه كثيرٌ مما يتلبس به بعضُ المتصدّرين باسم الدين اليوم، فالمتصدّر اليومَ في الناس أكبرُ من كونه قدوةً يُقتدى أو يتأسى به في الخير، ويترك قوله وفعله إذا جانب الحقّ، بل هو اليوم دين يؤخذ كلّه كما هو.
 
فلم يعد يسعُ المتصدّرَ كثيرٌ مما كان يسع أسلافَه إلى وقت قريب، وهذا الباب يندرج تحت الكلام عن فقه الواقع الذي نُكثر الحديث عنه ونغفله في أنفسنا، فمعرفةُ الواقع معرفةً دقيقة تقودُنا للعمل الرشيد، في القول والفعل سواء.
 
والغرض من الحديث عما لا يسع المتصدّر هو استنباه اليقظة في قلوب المتصدّرين لدين الله تعالى، فلا تأخذهم غفلاتُ النفوس، ولا أهواؤها، إذ لا يستوي المتصدّرُ وغير المتصدّر، إذ الأول دين متحرك ينظر إليه الناس، والثاني فرد من الأفراد لا تقع بمخالفته الفتنة والالتباس.
 
وكأنّ كثيرًا من المتصدّرين اليوم لم يلحظوا هذا المعنى، معنى مسؤولية التصدّر في الناس باسم الدين، وراحوا يخلطون الدين بالأهواء البشرية، أهواء كل نفس وكل شخصية وما تحبّ وترضى، كما راحوا يخلطون الدين بالظنونِ تارة أخرى، ظنونِ الفهم الخاطئ لأصول الشرع ومطالبه، وظنونِ عدم فهم الواقع وما يمليه عليهم.
 
ثم إن نتيجةَ الخطأين –خطأ الهوى، وخطأ الجهل بقسميه- واحدة؛ إما إسقاط المتصدّر، وإما إسقاط الدعوة: إما أن يُساء الظنُّ في الدين، وإما أن يَرفض الناسُ حاملَ الدين، وكلاهما خسارة للدعوة وللدين.
 
ذلك أن نجاح الدعوات وأصحابها، هو في صفاء ما تحمل الدعوة، فإذا خلطت الدعوة بين الدين المُصفّى من كل هوى وعيب، وبين الأهواء البشرية..
لم تدم كثيرًا، ولم تُؤت ثمارَها؛ لأن (الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتُغِي به وجهه) [أخرجه النسائي عن أبي أمامة، وحسنه الألباني في صحيح الجامع].
 
والذي لا يسع المتصدر أكثر من أن يحصى في مقال، أو يتناول تناولا جادًّا في سطور، وإنما الغرض التنبّه لمعنى التصدّر، وما يتعلق بهذا المعنى من مسؤولية، وأن الواقع يملي علينا كلّ يوم معطيات جديدة تتغيّر بها مفرداتُ تعامل الدعاة وواجباتهم.
 
وتلك أمثلة على ما لا يسع المتصدّرَ في واقعنا المعاصر:
لا يسع المتصدّر السكوت عن الشمولية:
فإذا كان المتصدّر عالمًا فلا يسعه السكوت عن مقتضى العلم، وإذا كان مربيًا فلا يسعه السكوت عن أهمية معرفة الواقع، وإذا كان واعظًا فلا يسعه السكوت عن فضل العلم..
وهكذا.
 
إن الدعوة وحدها هي التي تحصد جهود المتصدّرين، وإن المتصدّر إذا خلا خطابه عن الشمولية، واقتصر على جانب من جوانب الدين، دون حتى الإشارة إلى سائر جوانب الدين الأخرى، فَهِمَ الناسُ أن هذا هو الدين وما سواه ليس دينًا، فحصدت الدعوة شخصيات مبتورة الأفهام، ناقصة الأعمال، يظنون الدين فيما تلقوه من متصدِّرهم، وما سواه ليس من الدين.
 
بل وكثيرًا ما يعارض الأتباع بعضهم بعضًا بسبب ترك المتصدّرين التنبيه والإشارة إلى الشمولية، التي تجمعهم جميعًا ولا تفرّقهم.
 
وإذا كان المتصدّرُ لا يسعه السكوتُ عن الشمولية، ولو بالإشارة، فإنه ضرورةً لا يسعُه معارضةُ الشمولية بقوله أو فعله، كما يصرّ كثيرٌ من المتصدرين اليوم! بأقوالهم تارة، وأفعالهم تارات، فيصدق فيهم قول الله تعالى: ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: 32].
 
ومن هنا تخفق محاولات التقارب بين كثير من العاملين في المجال الدعوي، فضلا عن التكامل الدعوي بينهم، من أجل النهوض بالدعوة.
 
كما لا يسع المتصدرَ جهلُ الواقع:
بحيث يفتقد لركن من أركان الحكمة، فالمتصدّر الذي يجهل حال المدعوين، وحال المناوئين للدعوة، وحال ما يحيط بالدعوة..
حريّ به ألا يهدَى للحكمة في التعامل مع كلّ هذه الأطراف.
 
وكثيرًا ما نسمع اليوم خطابات دعوية أبعد ما تكون عن حال الأمة كافّة، وذلك لأن أصحابها لم يستقوا فهم الواقع من التجربة والاحتكاك المباشر، وإنما ساروا حسب رؤى غير مكتملة، فلم يهتدوا للحكمة.
 
وكان من نتاج هذا تلاعبُ العلمانيين وأذنابهم ببعض المتصدّرين في الدعوة، كما نشاهد في الإعلام التغريبي، وكيف يستعملون الدعاةَ أداةَ هدم في الدعوة إلى الله، كما كان من نتاج جهل الواقع ظهورُ الأحكام الطائشة المبنية على فهم مغلوط للواقع، أو تجاهل كلي له، وكذلك الخطابات الدعوية غير الملائمة للطبقات المعنية بها.
 
ولا يسع المتصدّر ترك تحريّ الوفاق والائتلاف:
فالعمل على جمع الكلمة والوفاق بين أهل العلم والمتصدّرين باسم الدين..
مطلبٌ استفاضت بذكره الأدلة الشرعية، ويزداد ضرورةً هذا المطلبُ الذي هو أصل من أصول الديانة..
عند استحكام الخلاف والاختلاف بين العاملين لدين الله تعالى، ومن هنا تظهر أهمية هذا المطلب في عصرنا الحديث.
 
فلا يكفي اليوم الحديث عن ترك الاختلاف والشقاق، بل لا بدّ من تجديد هذا الخطاب، ليحمل منهجًا جديدًا، شعاره "الوفاق قبل الشقاق" و "الائتلاف قبل الاختلاف"، فلا بدّ من تحريّ الاتفاق والوفاق قبل أن يداهمنا الاختلاف والشقاق زيادة.
 
وكثيرًا ما يتغافل المتصدّرون عن أمر تحرّي الوفاق والاتفاق، ويظنون أن غاية الشرع منهم ترك الشقاق والاختلاف، لكن الشرع إذا نهى عن شيء فإنه ينهى عادةً عن أسبابه، ومن أعظم أسباب الفتنة والبغي بين المتصدّرين ترك تحري الائتلاف قبل الاختلاف، والوفاق قبل الشقاق.
 
ولا يسع المتصدّر ترك العنان لفعله وتصرّفه:
فالناس يرمقون أفعالَ الدعاة وتصرفاتهم أكثر ما ينتبهون لأقوالهم وأحاديثهم، كما يأخذون من لحظهم أكثر من لفظهم، فإذا رأوا ما يشين أو يعيب فقدوا الثقة في الدعوة وأصحابها، بل وشنّعوا على الدين من حيث لا يشعرون.
 
وبعض الناس اليوم لا يتصوّر مجرد ترك المتصدّر لبعض المستحب، فضلا عن الوقوع في المكروه أو المحرّم، أو ترك الواجب، وإذا اعتادوا من متصدّر مثل تلك المخالفات -وإن كانت من قبيل ترك المستحب، وفعل المكروه- قلَّت ثقتُهم فيه، ورأوه متناقضًا يقول ما لا يفعل.
 
نعم، يجب أن تُصحح بعضُ تلك التصورات الخاطئة عند الناس، لكن هذا لا يعني ألا نعتبر أفهام الناس في أفعالنا وتصوراتنا، لا سيما ونحن مأمورون بفعل ما نأمر ونوصي به، وأن أولى الناس بترك المكروه المتصدر لوعظهم وتعليمهم، وهو محل القدوة والأسوة، كما أن أولى الناس بتحري المستحبات هو القائم بأمر تبيينه وتعليمه في الناس.
 
أما إذا كان المتصدّر أولَ المنتهكين لحدود الله، وعلى أعين الناس يخالفُ فعلُه قولَه، فهذا هو البلاء على الدعوة والدين، وعليه إثم ما أفسد.
 
وتلك فقط أمثلة لما لا يسع المتصدّر، رأيت الإشارة إليها لوجودها في واقعنا، والغرض التنبّه لأصل الآفة، وهي إغفال مسؤولية التصدُّر باسم دين الله.
 
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّ اللهم وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير