أرشيف المقالات

الخاتمة

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
2الخاتمة

يُقال: إن الموتَ لا يُفرِّق بين الرجال والنساء، الصغار والكبار، ومع ذلك فإن الفروقَ موجودة بين ميتة وأخرى، فهناك من تنتهي حياته بشكلٍ حسَن، وآخر تكون بشكلٍ سيئ، ويُسمى ذلك بالخاتمة؛ فهي إما طيبة أو خبيثة.
 
بعض الناس يسأل اللهَ أن يجعل خيرَ أعمالهم خواتمها، وآخرَ كلامهم الشَّهادةَ، والبعض الآخر لا يُبالي، والحياة تتعاقب بين هؤلاء وهؤلاء إلى حين، وأنا أكتب قصة وفاة قريب لي، بلغني خبرُ موت إحدى صديقاتي، كم أحبها! وكيف لا يُحب المرء مُنقذَه؟!
 
في أول سنةٍ لي في الجامعة بهرني عالَمُها، وأردت أن أعيشَها بكل تفاصيلها، ولما رأت فيَّ تلك القابلية للضياع عرَضت عليَّ الإقامة معها في غرفتها؛ بدعوى أنها لم تكن لها صديقات غيري، صدّقتها وحملتُ أغراضي، ورحلتُ لأُنقذها من وَحدتها!
 
كنا نتقاسم السرير والخزانة، نأكل معًا، ونخرج معًا، كانت تقريبًا تُلازمني، اكتشفتُ بعد مدةٍ قصيرة من إقامتي معها أنه كان لها صديقاتٌ كثيرات غيري لم أستطِعْ إحصاء عددِهن، كانت تُسميهن "أخواتي"، فلم يكن في قاموسها مصطلح الصداقة، لَمَّا سألتها عن تلك الكذبة ابتسمت، وعانقتني بشدة بشكلٍ باغتني، ثم قالت لي: "إحدى زميلاتك في الغرفة السابقة تعمل في حانة، أعلم أنك لا تعلَمين، ولم أشأ أن أتركَك حتى تعلَمي، فأنت جديدة هنا، والثلاث الأخريات لم تتأكَّدِ الشكوك حولهن، لكن يبدو أنهن يعمَلْن في متاجرَ لبيع الهوى، هل تفهمين؟ بقاؤك هناك كان يعني ضياعك؛ ولهذا طلبت منك المجيء إلى هنا، ستكونين في مأمن، وعندما أتخرَّج في العام المقبل - إن شاء الله - ستأخذين مكاني، أخواتي في الله سيَبْقَيْن إلى جانبك".
 
علَّمتني الوضوء والصلاة، وحفَّظتني بعض السور والأذكار، وكانت تطلب مني مُرافقتها إلى المسجد يوم الجمعة، وتوقظني لصلاة الفجر، وقد كنتُ أكره ذلك، لكنها حبّبته إلى نفسي، وكذا قيام الثلث الأخير من الليل، ومن سيَكْره بعد علمٍ النهوضَ للقاء الله ومُناجاته، وحبَّبَتْ إلي الملابس الطويلة والواسعة، ثم أهدتني خمارًا أنيقًا يوم ميلادي، كان بالفعل ميلادًا حقيقيًّا.
 
لما تخرَّجتْ كنت قد التزمتُ تمامًا كما تمنَّت، كانت تدرس القانون، ورغم أنه اختصاص جيد فإنها لم تعثُرْ على عملٍ، لكنها خُطبت، قالت لي: إن الزواج وتكوينَ أُسرةٍ طيبة يظل أحسنَ مشروعٍ للمرأة، طلبَتْ من خطيبها حجًّا وعمرة كمهرٍ لها، ورفضَتْ أي شيء آخر، خطيبها أيضًا كان هو الآخر رجلاً ملتزمًا، طيبًا - يرحمه الله وإياها.
 
بعد الزفاف بشهرين غادرا إلى البقاع المقدَّسة لأداء الحج، الأخبار التي وصلتنا مِن هناك عبر الصحافة، ووزارة الشؤون الدينية، أعلنت عن خبرِ حدوث اختناقٍ بأحد الأنفاق بسبب الازدحامِ وتعطُّل المُكيفات الهوائية، وكانا في ذلك النَّفق - أسكنهما اللهُ فسيح جنانه.
 
ماتت حيث أرادت، أما قريبي المتوفَّى، فقد كان تاجرًا ثريًّا، وكان له بيت ضخم، كُنا نُسمِّيه المعسكر، كانت تجارته مُربحة، ومع ذلك فلم يكنْ يمتنع عن الصفقات المشبوهة، لم أعلَمْ ماهيَّتَها بالضبط، لكن زوجته كانت كثيرًا ما تعود إلى بيت أهلها، وتطلبُ الطَّلاق، سمعتها يومًا تصرخ وتبكي: "سئمتُ من أكل الحرام، ألاَ تُشفقون عليَّ؟!"، لكنَّ أباها كان رجلاً عنيفًا ومُتشددًا، كان يضربها ويُعيدها إلى زوجها، ويأمرُه بأن يضرِبَها إن هي أغضبَتْهُ أو خرجت عن طَوْعِه، اضطرت في نهاية المطاف إلى الاستسلام للواقع، ولم تَعُدْ لزيارة أهلها إلا عند وفاة أخيها، أما زوجها فقد قُتل في حادث سيارة على إحدى الطرق السريعة، الشرطة عثرَتْ إلى جانبه على امرأةٍ، قالوا: إنها كانت لكل مَن يستطيع الدَّفع، وأفادت المُعاينة الطبية بعد تشريح الجثة أنه كان مخمورًا!!
 
يا لها من نهاية!! أخيرًا ستستريح زوجتُه، والميراثُ الضخم الذي ترَكَه لها سيجعلُها في مأمن، وليُحاسَب هو على مصدر ماله، سبحان الله! عاشت طيبة وماتت طيبة، وعلى أرض طيبة، وعلى أحسن حال! وعاش هو نذلاً، ومات حقيرًا، وعلى أسوأ حال!! من قال: إنَّ الإنسان لا يستطيع اختيارَ خاتمته؟!

شارك الخبر

المرئيات-١