أرشيف المقالات

حقوق الجار

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
  الخطبة الأولى:
أيها المؤمنون، ما منا إلا ويعيش بين الناس ويخالطهم، ولا غنى لأحد منا عن الناس من حوله؛ ولهذا فإن اقتراب الناس بهذه الصورة مظنّة لهضم الحقوق بينهم أو ظلم بعضهم لبعض، فتختلط الأموال، ويطغى أهل النفوذ والقوة على من لا نفوذ له ولا سلطان؛ لذلك جاءت الشريعة من لدن حكيم حميد، فأوجبت حقوقا شرعية يطالب بها أهل الإسلام، ويؤاخذون على منعها أو التقصير فيها، ومن تلك الحقوق حق الجوار.

والجار هو كل من جاورك سواء كان جواره لك في مسكن أو دكان أو عمل أو غيرها، واعلموا أن الجيران ثلاثة:
1- جار مسلم قريب، فهذا له ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار.
2- وجار مسلم ليس بقريب، فهذا له حقان: حق الإسلام، وحق الجوار.
3- وجار كافر، أبقَت له الشريعة حقَّ الجوار.

وللجوار أهمية عظيمه في الدين يا عباد الله، وذلك لأنه أولا: وصية الله عز وجل ورسولِه، فقد أمر الله بالإحسان إلى الجار في نسق عشرة أوامر في كتابه، فقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [ النساء : 36].
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ البخاري : "ذِي الْقُرْبَى: الْقَرِيبُ، وَالْجُنُب: الْغَرِيب، والْجَارُ الْجُنُبُ يَعْنِيك الصَّاحِبَ فِي السَّفَرِ".
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» (متفق عليه).

ثانيا: أن إساءة الجوار من عادات الجاهلية التي بعث الله نبيه لتغييرها، ويتضح هذا من جواب جعفر بن أبي طالب للنجاشي حين سأله عن هذا الدين الجديد، فقال له جعفر: "أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّة، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ؛ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَام -فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلام- فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا" (رواه أحمد).

ثالثًا: أن الإحسان إلى الجار والقيام بحقه سبب للتفاضل بين الناس، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» (أخرجه الترمذي وصححه الألباني ).

رابعًا: أن الإحسان إلى الجار والقيام بحقه سبب لمغفرة الذنوب ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَشْهَدُ لَهُ ثَلاثَةُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ إِلاّ قَالَ اللَّهُ عز وجل: قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِي عَلَى مَا عَلِمُوا وَغَفَرْتُ لَهُ مَا أَعْلَمُ» (رواه أحمد وحسنه الألباني).

خامسًا: أن الإحسان إلى الجار والقيام بحقه سبب للثناء والمدح في الدنيا ، وعكسه موجب للذم والعقوبة.
ذكر ابن إسحاق أن حسان بن ثابت قال يهجو حيا من العرب غدروا بأصحاب النبي ّ فقتلوهم على ماء يقال له الرجيع:
 
إن سرك الغدر صرفًا لا مزاج له *** فأتِ الرجيع فسل عن دار لحيان
قوم تواصوا بأكل الْجار بينهم *** فالكلب والقرد والإنسان مثلان
لو ينطق التيس يوما قام يَخطُبهم *** وكان ذا شرف فيهم وذا شان
سادسًا: ومما يدل على أهمية حق الجار أن الله عظَّم الخطيئة في حق الجار، فعن الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لأَصْحَابِهِ: «مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟ قَالُوا: حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُه، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لأَصْحَابِهِ: لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرَةِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ، قَالَ: فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟ قَالُوا: حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهِيَ حَرَامٌ، قَالَ: لأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ» (أخرجه أحمد وصححه الألباني).

سابعًا: أن الجار الصالح من أسباب سعادة العبد، وعكسه من أسباب شقائه، فعن سلمان قال رسول الله: «أربع من السعادة : المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق» (أخرجه الألباني في الصحيحة).

عباد الله، إن الله جعل للجار حقوقًا شرعية على جيرانه، فإذا قام بها المسلمون بينهم سادت روح الألفة والمحبة والتسامح، واكتملت في المجتمع المسلم صفاته المثالية التي تعلو المجتمع بصبغة إسلامية رائعة تميزه عن باقي المجتمعات.
فمن حقوق الجار:

أولًا: كف الأذى عنه، وهذا الحق واجب على المسلمين، فلا يجوز لهم بحال إيذاء أحد من الناس ما دام مسالما، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِي جَارَهُ» (رواه البخاري)، وعَنْه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ» (أخرجه أحمد وصححه الألباني).

ومن صور إيذاء الجار -عباد الله- حسده وتمني زوال النعمة عنه، أو السخرية به واحتقاره، أو إشاعة أخباره وأسراره بين الناس، أو الكذب عليه وتنفير الناس منه، أو تتبّع عثراته والفرح بزلاته، أو مضايقته في المسكن أو موقف السيارة، أو إلقاء الأذى عند بابه، أو التطلّع إلى عوراته ومحارمه، أو إزعاجه بالصراخ والأصوات المنكرة، أو إيذائه في أبنائه.
وأما من ابتلي بجار يؤذيه فعليه بالصبر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ: «اذْهَبْ فَاصْبِر، فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا فَقَالَ: اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ، فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ لا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ» (رواه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح).
لهذا معاشر المسلمين فإننا مأمورون بتحرّي حقوق جيراننا والقيام بها؛ لننال الفضل في الدنيا، وننجو من المؤاخذة في الآخرة.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فإن من حقوق الجار أيضا الحقّ الثاني: الإهداء إليه وبذل المعروف، فكم من هدية أوقعت في قلب المهدى إليه أثرا عظيما، فهي تقرب النفوس وتزيل الأحقاد وتبرهن على صدق المودة وعظيم المحبة، فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» (رواه البخاري)، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ» (رواه مسلم).
فكان فيما بعد إذا طبخ لحما أكثر ماءه وأهدى إلى جيرانه ويقول: إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي: «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ» (رواه مسلم).
وذُبح لعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو شَاةٌ فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» (رواه الترمذي).
وسألت عائشة رضي الله عنها رَسُولَ اللَّهِ فقالت: إِنَّ لِي جَارَتيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: «إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا» (رواه البخاري).

أيها المؤمنون، إن الهدية ليست فقط للجار الفقير المحتاج، بل الهدية أشمل من هذا، فقد أهدي للنبي مع أنه لو أراد المزيد من الرزق لدعا الله فأعطاه ما شاء من متاع الدنيا، بل كان يهدي للناس ويقبل الهدية، حتى إنه ليستغني بها هو وأزواجه أياما طويلة، بل أشهرا عديدة، فقد كانت عَائِشَة رضي الله عنها تَقُول لابن أختها: "وَاللَّهِ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلالِ ثُمَّ الْهِلالِ ثُمَّ الْهِلالِ ثَلاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ نَارٌ، قَالَ: يَا خَالَةُ، فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ؟! قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَار، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ أَلْبَانِهَا فَيَسْقِينَاهُ" (متفق عليه).

فهذه هي السنة في العطية للجار، وعدم منع المعروف عنه، وإلا صار خصما له يوم القيامة عند الملك العدل سبحانه، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد قول رسول الله: «كم من جار متعلّق بجاره يوم القيامة يقول: يا رب، هذا أغلق بابه دوني، فمنع معروفه» (وحسنه الألباني).

الحق الثالث: محبّة الخير له كما يحبها العبد لنفسه وعدم حسده، فعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ أَوْ قَالَ: لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (أخرجه مسلم).

الحق الرابع: مساعدته ماديًا فيما يحتاج إليه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ للناس لما رأى من تقصيرهم في حقوق جيرانهم: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟! وَاللَّهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ (رواه مسلم).

ولقد ضرب أصحاب رسول الله أروع الأمثلة في التعاون والمساعدة فيما بينهم، حتى استحقوا إطراء النبي لهم وثناءه عليهم، فقَالَ عليه الصلاة والسلام في الأشعريين: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» (متفق عليه).

الحق الخامس: الحفاظ على عوراته وعدم خيانته في أهله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» (رواه مسلم)، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر قَالَ: سألت رَسُولُ اللَّهِ: أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَر؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ.
قُلْت: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ»
قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} (رواه البخاري).

الحق السادس: مواساته وعدم إضجاره وإحزانه، خاصة إذا كان كبير السن، قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/554): سمعت محمد بن حامد البزاز يقول: دخلنا على أبي حامد الأعمش وهو عليل، فقلت: كيف تجدك؟ قال: أنا بخير لولا هذا الجار، يعني أبا حامد الجلودي، دخل عليّ أمس وقد اشتدّت بي العلّة فقال: يا أبا حامد، علمت أن زنجويه مات، فقلتُ: رحمه الله، فقال: دخلت اليوم على المؤمل بن الحسن وهو في النزع، ثم قال أيضًا: يا أبا حامد، كم عمرك؟ قلت: أنا في السادس والثمانين، فقال: إذًا أنت أكبر من أبيك يومَ مات، فقلت: أنا بحمد الله في عافية فعلت البارحة كذا، واليوم فعلت كذا وكذا، فخجل وقام.

  كن في البلاد إذا ما الْجار جار بِها *** كالراح في الكأس لا تبقى على ميل
واجف الخليل وبادر بالرحيل وقل *** هذا الدواء الذي يشفي من العلل
عباد الله، هذه بعض حقوق الجوار التي شرع الله للمسلمين فعلها، فلنبدأ من هذا اليوم بالإحسان إلى جيراننا والقيام بحقوقهم، ولنطرح الحقد والحسدَ جانبا، ولنُنَقِّ أنفسنا وضمائرنا من كلّ ما يكدّر صفو العلاقة مع جيراننا، ومن كان منا بينه وبين أحد من جيرانه نزاع أو خصومة فليُدخل بينها من جيرانه من يكون سببا في إصلاح ما فسد.

اللهم وفقنا لخيرِ الأعمال والأقوال لا يوفِّق لخيرها وأحسنها إلا أنت، وجنّبنا شرَّها لا يجنّب شرها إلا أنت.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.
    عابد بن عبد الله الثبيتي
   

شارك الخبر

المرئيات-١