بشار الولد

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .

إن استهجنت عنوان المقالة، أو ظننت السجعة جلبته، فاقرأ إلى المنتصف تقريبًا تر أنني لم آت بالعنوان عبثًا.
ظاهرة "الدكتاتور" تضم في جوفها عدة ظواهر، والدكتاتوريون أنواع.
والدكتاتور الذي نعنيه هنا بشار الأسد..
وقبله كان صدام دكتاتورًا، وقبلهما أتاتورك، فهل نرفع القبعة لأتاتورك لمجرد أنه نجح في الموت على سريره؟ أم الدكتاتور دكتاتور وكفى؟

وعبد الناصر كان دكتاتورًا أيضًا، وهتلر والقذافي..
وحافظ الأسد.
واضح من هذه الأسماء أن كل دكتاتور يختلف عن الآخر، الدكتاتور قد يكون مصابًا بجنون العظمة، وقد يكون ضعيف الشخصية فيعوض عن ذلك بالتوحش، وقد يكون قوي الشخصية وجاهلًا حقيقة الوضع في بلده وفي العالم بسبب قصوره المعرفي وبسبب شرنقة المصفقين التي تحيط به.

بشار الأسد ضعيف الشخصية، وقاصر معرفيًا، وهذا القصور المعرفي راسخ من سني الطفولة؛ إذ نشأ في بيت رئاسة، ولم يعرف قسوة الشارع والعراك مع الأقران الخشنين، وقد بدأ حكمه مثاليًا ككل ولد مدلل..
ورأيناه في القمة العربية التي عقدت بعد نحو سنة من توليه الحكم يلقي دروسًا على الزعماء العرب، ورأيناهم يهزون رؤوسهم مشفقين عليه.
وبسرعة تحلق حوله كبار الساسة من أنصار والده وحجبوا عنه الرؤية..
وحتى لو لم يحجبوها فقد برهن بشار الأسد على امتلاكه قدرة على تسطيح الأمور وحذف ما لا يقدر على استيعابه من عناصر المعادلة السياسية.


قد يكون الدكتاتور ضعيف شخصية، ولكن هذا لا يمنعه من السيطرة على أعوان أذكى منه وأقوى شخصية منه.
فبمجرد ترسيمه دكتاتورًا تذل له الرقاب، ويصبح الحاكم بأمره.
كان يمكن لآصف شوكت أن يكون دكتاتورًا أنجح، لكن بشار الأسد ملأ خانة الدكتاتور وانتهى الأمر.
وكأن كل ما في الأسد من قصور لم يكن كافيًا..
فجاءت ظاهرة "منحبك" ضغثًا على إبَّالة، توهم الرئيس السوري أنه محبوب من شعبه حبًا جارفًا، ولئن لم نشك في أن كثيرين أحبوه، وفي أن كثيرين تعايشوا مع وجوده مثلما يتعايش المرء مع جار يراه كل يوم فينشأ الود بطول العشرة، فإن السوريين (بمن فيهم أفراد المخابرات) كانوا يعيشون حالة خوف دائمة من المخابرات، كان كل سوري مهددًا بالاعتقال والإهانة، وكان النظام بوليسيًا.

وعندما اكتشف بشار الأسد بعد درعا -وربما بعد درعا وحمص وحماة؛ لأنه بطيء- أن الناس لا يحبونه حبًا جارفًا، فعل بهم فعل الصبي بالعصفور.
فالعصفور يفضل أن يكون في كف رجل على أن يكون في كف ولد، فالرجل قد يحبس العصفور في قفص وقد يطلقه، وأما الولد فسوف يكون حنونًا عليه بشكل مؤذ، فإذا تململ العصفور خنقه الولد وقتله بشراسة..
لأنه ولد.


لقد فشل بشار الأسد في التنمية، وفشل في تحرير البلاد من النظام البوليسي (ولا نشك في أنه أراد صادقًا ذات يوم أن تكون سوريا بلدًا ديمقراطيًا، غير أنه لم يكن مستعدًا لدفع الثمن فاعتقل الناس الذين دعاهم للحوار في ربيع دمشق، فجاءه الربيع العربي بما لا يحب)، وفشل في إقناع الناس بأن هدفه الإستراتيجي تحرير الجولان، غير أنه نجح في عقد تحالف مع إيران وروسيا.
فهل يدرأ عنه نجاحه في عقد هذا التحالف شرور إخفاقاته الداخلية؟


لا يبدو أن موقف إيران المؤيد للأسد راسخ، وقد كشفت قمة عدم الانحياز أن إيران حريصة فقط على رقبتها إذ تقف أمام الغرب في الشأن النووي، ولا يبدو أن روسيا ستقف معه إلى النهاية.
لكن، في الوقت نفسه، لا يبدو أن أمريكا وأوروبا حريصتان كل الحرص على طرد روسيا من موطئ قدمها على البحر الأبيض المتوسط، كما أن الغرب يرى في استمرار الأزمة السورية استنزافًا للموارد الإيرانية، واستمرارًا لإحراج إيران أخلاقيًا، فلماذا تتعجل واشنطن نجاح الثورة السورية؟ ألحماية المدنيين؟ منذ متى تحرص أمريكا على أرواح المدنيين..
الآخرين؟ الوضع في سوريا الآن مريح للجميع، إلا للسوريين ولحلفاء النظام.

ودول الخليج المؤيدة للثورة السورية ماليًا وإعلاميًا تجد في هذه الثورة ما يشغل إيران عن التدخل في الضفة الأخرى للخليج.
من الصعب أن يصمد دكتاتور قصف طوابير الأطفال أمام المخابز.
من الصعب أن يصمد نظام فئوي يستند إلى طائفة ضيقة.
الأسد نفسه ليس طائفيًا، فقد تزوج سيدة من غير طائفته، وهو على رأس حزب قومي علماني، ولديه ترسانة من الحجج يواجه بها كل من يرميه بالطائفية.
لكن فهم الرئيس السوري للطائفية سطحي.

فالطائفيون في لبنان مثلًا -وهم كثر- ليسوا من المتدينين أيضًا، لكنهم طائفيون سياسيًا، لقد انعدم في سوريا الأسد تكافؤ الفرص، وانعدمت الديمقراطية، وسيطر الحزب الواحد، واستبد أعمام الرئيس وأخواله بالمال وبالمناصب وبالنفوذ، فأين كان الرئيس العلماني عندئذ؟ لقد سمح لأقاربه بتحويل البلد إلى مزرعة لهم، وسمح أقاربه لأقاربهم بنهب البلد.
وأدى هذا التفقيس القائم على العشيرة إلى أن تنال الطائفة فوق نصيبها من الفرص: من الوظائف ومن المقاعد الجامعية في التخصصات المرغوب فيها، ومن الاحتكارات والوكالات التجارية السمينة، ولأن الطائفة صغيرة نسبيًا (نحو 15%) فقد استلحقت من الطوائف الأخرى من يشاركها في هذا الفساد العارم، ولكن هذه الطائفة الصغيرة سيطرت وحدها على (قيادة) الجيش والمخابرات، ولم ترم بعض الفتات للآخرين.


ليقل بشار الأسد إنه ليس طائفيًا، ولنسلم له بهذا جدلًا، على أنه سمح بنشوء نظام أوليغاركي (نظام أقلية مستبدة) يؤول بالضرورة إلى الطائفية.
وأما أعداء الأسد فهم فقراء الريف، الذين منحوه فرصة ستة أشهر كانوا يخرجون في كل يوم من أيامها لكي يقتتلوا، طمعًا في أن يفهم الرئيس شيئًا، وكان عند النظام السوري -كما يقول ديفيد لش، الذي نشر ستة كتب عن سوريا آخرها قبل شهر بعنوان "سقوط سلالة الأسد"- وصفة جاهزة ومجربة: كلما رفع أحدهم رأسه يجب قمعه فورًا وبكل قسوة.
وهذه الوصفة تعود بالطبع إلى يوم حماة المشهور عام 1982، عندما نجح الأسد الأب في إخماد كل معارضة بتدمير حماة واستئصال شأفة معارضيه.

ولم يكتشف الأسد الابن -حتى بعد مرور ستة الأشهر من الاحتجاجات السلمية- أن الهبة الحالية تشمل كل سوريا، وأنها هبة تحتية لا فوقية..
قادها الشعب الفقير عفويًا ومن تحت، ثم تسابق الإخوان المسلمون والعلمانيون على تأطيرها من فوق، وما زالوا يحاولون.
عندما نكون بإزاء دكتاتور لا نملك ترف الانغماس في حساب القوى، لأنه هو لا يفهم هذا الحساب .


لضعف بشار الأسد ولسطحيته السياسية والمعرفية أمضى المحللون بضعة أشهر في بدايات الثورة السورية وهم شبه متأكدين من أنه مجرد واجهة، وأن أشخاصًا آخرين يملكون القرار.
والآن غدا شبه مؤكد العكس، أي أنه دكتاتور يملك القرار، وهذا أسوأ بكثير، فلو كان القرار بيد أشخاص أقوياء وشريرين يتقنون حساب موازين القوى لما قصفوا الأحياء السكنية بالطائرات.
أما وقد أصبح شبه يقيني أن القرار بيد شخص ضعيف وقليل المعرفة، وشبه منعدم الحصافة، ومستند إلى وصفة جاهزة (حماة 82) يعالج بها كل علة، فقد وجدنا تفسيرًا للغز "المجازر التي لا لزوم لها".
ثمة ولد يمسك بيده عصفورًا.

نرثي لحال سوريا، فهي معذبة بيد من لا يعرف كيف يرحم، ويتفرج عليها خبثاء مستفيدون من عذاباتها، ونرثي لحال بشار الأسد، فسوريا كبيرة عليه.


عارف الحجاوي
 

شارك المقال

مشكاة أسفل ٢
. . .
فضلًا انتظر تحميل الصوت