أرشيف المقالات

ينابيع الرجاء - النبع الثالث: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}!

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
1
هي سنة عظيمة رائعة من سنن الله تعالى اسمها سنة (المداولة)، وقد عرض لها أبو سفيان قبل إسلامه، ففي حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه في صحيح البخاري حول ذهاب أبي سفيان إلى هرقل، قد سأله هرقل عن حالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "الحربُ بيننا وبينه سِجَالٌ، ينالُ منَّا وننال منه.
فهي إذن سنة ربانية لا تتخلف، وحركة تاريخية لا تتوقف، فاليوم ترح وغدا فرح، اليوم عَبرة وغدا حَبرة، وهي سنة جارية على الأفراد والجماعات والدول.

وقد نزلت هذه الآية بعد غزوة أُحُد، وذلك أن الله أمكن المشركين من المسلمين في أحُد، فقتلوا منهم سبعين صحابيا، كما سبق وأن أمكن المسلمين من المشركين في بدر، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين.قال الإمام المراغي:  {نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ} أي أن مداولة الأيام سنة من سنن الله فى المجتمع البشرى، فمرةَ تكون الدولة للمبطل، وأخرى للمحق، ولكن العاقبة دائما لمن اتبع الحق، وإنما تكون الدولة لمن عرف أسباب النجاح ورعاها حق رعايتها كالاتفاق وعدم التنازع والثبات وصحة النظر وقوة العزيمة، وأخذ الأهبة وإعداد ما يُستطاع من القوة، فعليكم أن تقوموا بهذه الأعمال وتُحكِموها أتم الإحكام حتى تظفروا وتفوزوا، ولا يكن ما أصابكم من الفشل مُضعِفا لعزائمكم، فإنَّ الدنيا دول [1].

وجاءت صيغة المضارعة {نُداولُها} للدلالة على تجدد سنة مداولة الأيام من الأمم واستمرارها،
وفي هذا قال القاضي أبو السعود: "وصيغة المضارع الدالة على التجدد والاستمرار للإيذان بأن تلك المداولة سنة مسلوكة بين الأمم قاطبة سابقتها ولاحقتها"[2].فيومٌ علينا ويومٌ لنا *** ويوم نُساء ويوم نُسَرُّ [3].
ونلحظ أن مداولة الأيام إنما هي بين الناس؛ فالأصل أن الناس سواسية إن تجردوا من منهج السماء، لكن صاحب الحيلة يغلب، وذو القوة يعلو، والأكثر عددا وعُدّة ينتصر، فما الذي يعوِّض المؤمن في مواجهة كل هذه الحيل والقوى والأعداد والعُدد؟!
ما الذي يضمن له الغلبة؟! 
إنها موالاة ربِّه له، فلن يجرؤ مخلوق أن يكون في مواجهته إذا كان الله وليه ونصيره. 
والقرآن يشهد!

من يملك القوة في أكثر الأحيان يغتر بها، ويظن أن حصونه تمنعه من قوة الله عز وجل، وقد قال الله في شأن اليهود: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2].
وهزيمتهم أمر لم يكن في حسبانهم، ولم يضعوه في الاعتبار، وما غفلوا عنه كان سِرَّ زوالهم ومفتاح انهزامهم.
وآية أخرى هي قوله تعالى:
{حَتّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس:24]، فهل دام الزخرف والزينة؟! كلا والله بل جرت عليه السنة الإلهية: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس:24].
 حكمة!
لكن ما الحكمة في المداولة بين المؤمنين والكافرين، والمصلحين والمفسدين؟!
ولماذا لا تكون العاقبة دائما لأهل الحق من المؤمنين؟ 
​يجيب على هذا التساؤل في كلام بليغ وتفصيل بديع وحكمة بالغة إسماعيل حقي، وذلك في تفسيره فيقول: "وليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارة ينصر المؤمنين، وأخرى ينصر الكافرين، وذلك لأن نصره تعالى منصبٌ شريف، فلا يليق بالكافر، بل المراد أنه تعالى تارة يشدِّد المحنة على الكفار، وأخرى على المؤمنين، وأنه لو شدَّد المحنة على الكفار فى جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين فى جميع الأوقات لحصل العلم الضروري والاضطراري بأن الإيمان حقٌّ وما سواه باطل، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب، فلهذا المعنى تارة يسلِّط الله المحنة على أهل الإيمان، وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية، والمكلَّف يدفعها (هذه  الشبهات) بواسطة النَّظَر فى الدلائل الدالة على صحة الإسلام، فيعظم ثوابه عند الله، ولأن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي، فيكون إما تشديد المحنة عليه فى الدنيا أدبا له، وإما تشديد المحنة على الكافر، فإنه يكون غضبا من الله» [4].

تنبأ أبو الجوزاء بما سيجري في المستقبل وذلك من خلال تدبره لهذه السُّنة الربانية، وبلغ من يقينه أن أقسم في ثقة: "والله ليُعِزَّنَّ الله ملك بني أمية كما أعزَّ ملك من كان قبلهم، ثم ليذلنَّ ملكهم كما أذلَّ ملك من كان قبلهم، ثم تلا قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140][5].

فلا تضِقْ ذرعا يوما من سوء الحال وغموض المآل، فدوامُ الحالِ من المُحالِ، والأيام دُوَلٌ، والدَّهرُ قُلّبٌ، والليالي حُبَالى، والغيبُ مستورٌ، والحكيمُ كلَّ يوم هو في شأنٍ..
نعم ..
كلَّ يوم هو في شأنٍ.

وفي تفسير هذه الآية وتعلقها بسنة المداولة قال السعدي: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} يُغني فقيرا، ويجبر كسيرا، ويعطي قوما، ويمنع آخرين، ويميت ويحيي، ويرفع ويخفض، لا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحين، ولا طول مسألة السائلين، فسبحان الكريم الوهاب، الذي عمت مواهبه أهل الأرض والسماوات، وعم لطفه جميع الخلق في كل الآنات واللحظات، وتعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية العاصين، ولا استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه، وهذه الشئون التي أخبر أنه تعالى كل يوم هو في شأن، هي تقاديره وتدابيره التي قدرها في الأزل وقضاها، لا يزال تعالى يمضيها وينفذها في أوقاتها التي اقتضته حكمته[6].
 خمس بخمس!
وانظروا في آيتين متتاليتين في كتاب الله تلمح فيهما هذه السنة واضحة جلية بين فرعون وبني إسرائيل: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ .
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}
.
 خلاصة الآيتين:إن فرعون علا فى الأرض.استضعف حزبا من أحزاب مصر.قتل الأبناء.استحيا النساء.إنه كان من المفسدين.وقد قابل سبحانه هذه البلايا الخمسة بخمسة وعود ربانية مبهرة وعد الله بها بنى إسرائيل:منَّ عليهم بإنقاذهم من بطش فرعون وجبروته.جعلهم أئمة مقدَّمين على غيرهم فى الدارين.أورثَهُم ديار قوم آخرين على ما كانوا عليه من العظمة حتى كانوا يُعرفون بالجبابرة، وهي أرض الشام.مكَّن لهم وثبَّت سلطانهم فى ما ملكوه من أرضِ الشام ومصر. أرى فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون من هلاكهم وذهاب ملكهم على أيديهم.

هي قصة استضعاف وتمكين يتعاقب أحدهما مع الآخر كما يتعاقب الليل النهار، وهي سنة الله فى خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وصدقت العرب حين قالت في المثل: ما طار طيرٌ فارتَفَع *** إلا كما طار وقَعواقرؤوا التاريخ: والتاريخ القديم يشهد! 
دخلت أم جعفر بن يحيى البرمكي على قوم في عيد أضحى تطلب جلد كبش تلبسه وقالت: هجم علي مثل هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة وصيفة قائمة، وأنا أزعم أن ابني جعفرا عاق لي!
وكانت أخت أحمد بن طولون صاحب مصر كثيرة السرف في إنفاق المال حتى أنها زوَّجت بعض لعبها، فأنفقت على وليمة عُرسها مائة ألف دينار، فما مضى إلا قليل حتى رؤيت في سوق من أسواق بغداد وهي تسأل الناس [7].

وكذلك كانت الحروب الصليبية، فقد انتهت وتطهرت القدس من الغزاة بعد قرنين كاملين من الزمان، ولم يدم الحال للغاصبين، واستطاعت المقاومة أن تحقِّق أهدافها بطرد المعتدين في نهاية المطاف، وما كان الصليبيون يمثِّلون أكثر من ظاهرة عرضية موقوتة لا تقدر على مدِّ جذورها في الأرض، وكذلك اليوم حال دولة العدو الصهيوني، فهي جسمٌ غريب زُرِع في كيان غير متجانس مع ما حوله، ولهذا فإن الأرض ستلفظ هذا الكيان حتما لأن الأجسام الغريبة محكومٌ عليها بالطرد.

كانت الدائرة بالأمس للمسلمين على غيرهم، وهي اليوم لهم علينا، فالدور الآن على هذه الأمة لتستلم مقود القيادة وتتصدى لصدارة الأمم، ونشرق بعد الغروب، ونعلو بعد الأفول.{وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا}.
 والتاريخ الحديث يشهد!
خذ على سبيل المثال: الشيوعية، كان لها دول تحميها ونظم عالمية عظيمة تتحدث باسمها وتفاخر بنشر مبادئها؟! ودام لها الأمر عشرات السنين؛ ما يقارب السبعين سنة أو تزيد قليلا, ثم ماذا؟! ثم طالتها سنة المداولة، وبدأ العدُّ التنازلي لانهيارها، فزالت من على وجه الأرض.

إن الإنسان يستطيل الأيام والشهور والأعوام، إلا أن الأمر أبعد من ذلك، فعشر أو عشرون أو ثلاثون سنة لا تساوي في حياة الأمم والشعوب شيئا؛ لكن الإنسان ابن لحظته، ولذا يرى الواقع القاتم  أمامه سرمديا لا يزول.

وألمح هذا الإسقاط على أحداث التاريخ في قصيدة أبي البقاء الرندي، وقد رأى بعيني رأسه غروب شمس دولة الإسلام بالأندلس، فليست سنة المداولة جارية على غيرهم دون أن تنالهم:لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصان *** فلا يُغَرَّ بطِيبِ العيش إنسانُ
هي الأمورُ كما شاهدتَها دُوَلٌ *** من سرَّه زمنٌ ساءته أزمان
لَوْ أَنَّ مَا أَنْتُمُو فِيهِ يَدُومُ لَكُمْ *** ظَنَنْتُ مَا أَنَا فِيهِ دَائِمًا أَبَدَا
لَكِنَّنِي عَالِمٌ أَنِّي وَأَنَّكُمْ *** سَنَسْتَجْدِي خِلَافَ الْحَالَتَيْنِ غَدَا

[1] تفسير المراغي4/79.
[2] تفسير أبي السعود: 2/ 89.
[3] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء 1/ 281.
[4] روح البيان 2/100.
[5] البداية والنهاية 10/53.
[6] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/830.
[7] لطائف المعارف 1/29.


شارك الخبر

مشكاة أسفل ١