أرشيف المقالات

ومضات تربوية وسلوكية (9)

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2ومضات تربوية وسلوكية (9)
 
تَزْخَرُ بطونُ الكتب بالعديد من الأفكار الذهبيَّة، والعبارات المحوريَّة، الجديرة برصدها وتدوينها؛ للوقوف على كنوزِ مُفكِّرينا وكُتَّابنا العِظام، وللانتفاع بالفائدةِ المرجوَّة منها؛ ولذلك حَرَصْتُ خلالَ جولتي بينَ دُفُوفِ الكتبِ أن أَرصُدَ هذه الثَّروات الفكريَّة والتربويَّة والتحليليَّة، وأنقُلَها بنصِّها كما وردت فيها، أو باختصار طفيفٍ في بعض الأحيان؛ هذا كي يستفيدَ منها القاصي والدَّاني، سائلًا المولى عزَّ وجل أن يَنْفَعَ بها الكبير والصغير، وأن يكتب لكاتبها وجامعها وقارئها الأجرَ والمثوبةَ، إنه نِعْمَ المَولى ونعْم النَّصيرُ.


(الألوهية)
ليس الخلاف في وجود الله جل شأنُه، وفي أنه خَلَق الخَلْق، وبيده ملكوتُ كل شيء، ولكن الخلاف فيمن يستحقُّ العبادةَ وحده.
 
إن الإنسان مِن بين كلِّ المخلوقات جميعِها يقوم في وجه أخيه الإنسان يدَّعي الألوهية؛ إذ يدفعه إلى ذلك حبُّ التسلُّط وهوى الاستعلاء، يجعل نفسه إلهًا لغيره من أبناء جنسه يستعبدُهم ويقهرهم على الانقياد والطاعة، ويجعلهم أداةً لهواه، تسوِّل له نفسه ذلك إذا ملَك شيئًا من مال أو قوة، أو رُزق شيئًا من دهاءٍ أو نبوغ.
 
والذين ينتحلون الألوهية صنفان: الصنف الأول: أولئك الذين يجدون في أنفسهم ما يحملهم على الاغترار بأنفسهم، ويجدون من الوسائل ما يهيِّئ لهم دعوى الأُلوهية من غير استخفاءٍ ولا مواربة، وفرعون مثلٌ لهؤلاء إذ نادى بقومه: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، و﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]، ومن هؤلاء: النمروذ الذي حاجَّ إبراهيمَ، وادَّعى أنه يحيي ويميت.
 
وهذه الألوهية التي ادَّعاها فرعون والنمروذ ليست بقاصرةٍ عليهما، بل هنالك في كل زمان ومكان مَن يدَّعيها، وبلاد فارس كانت تخاطب ملوكها بلفظ «خدا»، ومعناها الإله، وكذلك شأن البيوتات الحاكمة في الهند كانت تدَّعي نسبتها إلى الآلهة.
 
والصنف الآخر: لم يتهيَّأ لهم من القوة والوسائل المادية ما يؤهِّلهم للقيام بهذه الدعوى الخطيرة وإخضاع الناس لإرادتهم، فتسلَّحوا بأسلحةٍ من الدَّجَل، فعمدوا إلى وثن أو قبر أو كوكب أو شجرة، ونادَوا في الناس بأن هذا إلهكم؛ يقضي حاجتكم، ويضرُّكم وينفعكم، وينصركم أو يخذلكم، وجعلوا أنفسهم سَدَنةً للأوثان، وطلبوا إلى الناس أن يجعلوهم وسيلةً للوصول إلى الأوثان، وسيطروا بكل ذلك على عقول الناس وأموالهم.
 
ومن هذا النوع أيضًا الذين يحترفون الكهانة والتنجيم، ومن هذا الصنف أناسٌ ادَّعوا أنهم وحدهم القادرون على فَهم الكتب المنزلة من عند الله، يحلُّون فيها ما يشاؤون، ويحرِّمون ما يشاؤون، ومثال هؤلاء: البابوية.
 
التشريع للناس من دعوى الألوهية:
حين تقوم ألوهية الإنسان على الإنسان، يفشو الظلم والجور والتكبُّر في الأرض بغير الحقِّ، وهنالك تُنزع حرية الإنسان، وتُغلب العقول، وتُغل فطرة الإنسان وخصائصه الفكرية بأنواع الأغلال والقيود.
 
وألوهية الإنسان أصل المصائب، ومصدر البؤس والشقاء اللذين يصيبانِ الإنسان، والسبيلُ الوحيدة للنجاة الكفرُ بالطواغيت جميعها، والإيمانُ بالله العزيز الحميد.
 
هذا الإيمان هو الذي يحرِّر العقول والأفكار من أغلال العبودية التي يرسف فيها البشر، وهو الذي يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
 
والنظام الإسلاميُّ ليس فيه لأمير من أمراء المسلمين، ولا لمجتهد ولا عالم من علمائهم، ولا لمجلس تشريعيٍّ، ولا لجميع المسلمين في العالَم - أن يغيِّروا نصًّا من نصوص الكتاب أو السنة في أيِّ شأنٍ من الشؤون، أمَّا الأمور التي لا يوجد بشأنها في الشريعة حكمٌ صريح، فمردُّها إلى إجماع علماء المسلمين ومجتهديهم.
 
وعليه؛ فإن مهمة الإسلام إنقاذُ الإنسان من عبادة الإنسان، وإنقاذ عقل الإنسان من الضلالات والأوهام، وما عبادةُ الإنسان للإنسان إلا تسلُّطٌ على قلب الإنسان وتسخير لعقله، وقد خُلق الإنسان ليكون حُرًّا، ولتكون له قيمة الإنسان، فإذا استُعبد قلبه وسُخِّر عقله، فقَدَ قيمتَه الإنسانية..
أدرك ذلك أصحاب رسول الله إدراكًا عميقًا، وعبَّروا عنه تعبيرًا جليًّا حين وقف أفراد عاديون منهم أمام رستم قائد الفرس فقالوا له:
"جئنا لنُخرج الناس من عبادة الناس إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام"؛ [المسؤولية، د.
محمد أمين المصري، دار الأرقم - برمنجهام - بريطانيا،143-144]
.
 
(كيف تكون كاتبًا؟)
إن كثيرين من الكتَّاب يميلون إلى معرفة آراء الناس بكتاباتهم، ويهتمُّون بهذه الآراء جدًّا، حتى إنها لتشجِّعهم إذا كانت حسنة، وتُذهِب عزائمهم إذا كانت سيئة، وهؤلاء الكتَّاب يخسرون كثيرًا من مواهبهم، وينحطُّون عن المنزلة التي وضعهم فيها الله يوم جعلهم كتَّابًا، واختارهم لتبليغ رسالة القرون الآتية، فلا تعتادوا هذه العادة، ولا تبالوا بأذواق الناس إذا خالفت أذواقَكم، ولكن استمعوا إلى نقدهم إذا كان يستند إلى أساسٍ علميٍّ صحيح، أما إذا استند إلى الذوق وحده، فلا..
ولو كان ذوق أستاذكم؛ [فكر ومباحث؛ علي الطنطاوي، دار ابن حزم، ص 178].
 
(الجمال في القول)
الكلمات قوالبُ المعاني ولبوسُها، والكلمات الجميلة خيرُ وعاء لحمل المعاني الجليلة؛ لِمَا تُحدِثه من أثَرٍ محمود في قلبِ السامع، فتجعله مهيأً لقَبولها؛ قال ابن بطَّال في شرح البخاري (9/ 437): "جعل الله في فِطَر الناس محبَّةَ الكلمة الطيبة، والفأل الصالح، والأُنس به، كما جعل فيهم الارتياح للبُشْرى، والمنظر الأنيق، وقد يمرُّ الرجل بالماء الصافي فيعجبه وهو لا يشربه، وبالروضة المنثورة فتسرُّه وهي لا تنفعه»؛ [في أدب التخاطب؛ د.عبدالمحسن التخيفي، مجلة الهداية البحرينية، العدد 231].

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢