أرشيف المقالات

محاورات أفلاطون

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 20 - محاورات أفلاطون الحوار الثالث فيدون أو خلود الروح ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود قلت - نعم ولكن لم يرو عن هرقليس نفسه أنه نازل اثنين فقال - ادعني إذن، وسأكون لك أيولاوس حتى تغرب الشمس قلت - سأدعوك، لا كما يدعو هرقليس أيولاوس، ولكن كما كان يفعل أيولاوس لو كان يدعو هرقليس قال - لا فرق بين هذا وذاك، ولكن لنأخذ الحذر أولاً لكي نتقي خطراً قلت - وما ذاك؟ أجاب - خطر أن تتمكن منا كراهة المنطق فذلك من أسوأ ما قد يصيبنا من أحداث، فكما أن ثمة أعداء للإنسانية وهم من يمقتون البشر، كذلك هنالك من يكرهون المنطق وهم من يمقتون المثل، وكلاهما ناشئ من سبب بعينيه، هو الجهل بالعالم، فتجيء كراهة البشر من الغلو في الركون إلى عدم الخبرة، فأنت تثق برجل، وتظنه مخلصاً تمام الإخلاص.
وخيراً وأميناً، ثم لا يلبث أن يتكشف لك زائفاً خبيثاً، وهكذا غيره وغيره. فإذا وقع ذلك الإنسان مرات عدة، وبخاصة من جماعة أصدقائه الذين يظنهم اشد الناس إخلاصاً له، وكثر النزاع بينه وبينهم، فإنه ينتهي آخر الأمر إلى كراهة الناس جميعاً، ويعتقد أن ليس بين الناس على الإطلاق صاحب خير.
أحسبك بغير شك قد لاحظت هذا. قلت - نعم - أليس ذلك مدعاة للخزي؟ وسببه إن الإنسان في اضطراره إلى معاملة سائر الناس، لا يكون لديه بهم علم، لأنه لو عرفهم لعرف الأمر على حقيقته، وذلك إن ذوي الخير قليلون، وان ذوي الشر قليلون، وان الكثرة الغالبة هي فيما يقع بين هذين قلت - ماذا تعني؟ أجاب - أعني أنه كما قد نقول عن بالغ الكبر وبالغ الصغر، بأنه ليس أندر من رجل بالغ الكبر، أو رجل بالغ الصغر، فهذا ينطبق بصفة عامة على الهايات، سواء أكانت ذلك عن الكبير والصغير، أم السريع والبطيء، أم الكدر والصافي، أم الأسود والأبيض، وسواء ضربت أمثلة ناساً أو كلاباً أو أي شيء آخر، فقليلون هم النهايات، أما الكثرة فتتوسط بين النهايات، أو لم تلاحظ هذا فقط؟ قلت - نعم لاحظته قال - ثم ألست ترى أنه لو كان بين الشرور تنافس، لوجد أن قليلاً جداً منها هو اسبقها في الشر؟ قلت - نعم فذاك ارجح الظن أجاب: نعم ذاك أرجح الظن، ولست أعني إن مثل الأحاديث في هذا مثل الناس - وأراك ها هنا قد حملتني أن أقول أكثر مما اعتزمت أن أقول، ولكن وجه المقارنة هو أنه إذا ما آمن رجل ساذج، لا يحذق علوم الكلام، بصحة دليل، وخيل إليه فيما أنه باطل، سواء أكان باطلاً حقاً أم لم يكن، ثم تكرر هذا في غيره وغيره، فلا تبقى للرجل عقيدة واحدة، وينتهي المر كما تعلم بكبار المجادلين إلى الظن بأنهم قد باتوا احكم بني الإنسان، لأنهم هم وحدهم الذين أدركوا ما في التدليلات كلها من تزعزع وضعف شامل، لا بل أدركوا ذلك في الأشياء جميعاً، وهي تظل هابطة في مد وجزر لا ينقطعان، كما هي الحال في تيار يوربيوس قلت: هذا جد صحيح أجاب: نعم يا فيدون، ولشد ما يبعث على الأسى أيضاً أن يصادف إنسان تدليلاً هنا أو هناك، فيبدو له أول الأمر أنه حق، ثم يتكشف له عن باطل، فبدلاً من أن ينحو باللائمة على نفسه وعلى ما يعوزه من ذكاء، تراه لحنقه آخر الأمر يغتبط شديد الغبطة في إزاحة اللوم عن عاتقة ليلقيه على التدليل بصفة عامة، ويظل بعد ذلك إلى الأبد كارهاَ لاعناَ لكل تدليل، فتفلت منه حقيقة الوجود وعرفانه، لو كان ثمة ما يسمى بالحقيقة أو اليقين أو القدرة على المعرفة إطلاقاً قلت: نعم، إن ذلك ليبعث على الحزن الشديد قال: فلنحاول إذن بادئ ذي بدء، أن نسلم في نفوسنا بالفكرة القائلة أنه لا حقيقة ولا عافية ولا قوة في أي تدليل على الإطلاق، ولنعلن قبل ذلك أن ليس فينا نحن الآن عافية وانه يجب أن نطلق فينا العنصر الإنساني، ونسعى جهدنا في اكتساب العافية - فتكسبها أنت وسائر الناس جميعاً من أجل حياتكم المقبلة كلها، وأما أنا فمن أجل الموت، فلست أحس الساعة إني متخلق الفيلسوف، وما أنا في الرأي إلا مشايع كأفراد السوقة، وليس يعبأ المتشيع، حينما يلج في المخاصمة، بأوجه الصواب من الموضوع، بل يحرص على إقناع سامعيه بأقواله وكفى، وليس بينه وبين في اللحظة الراهنة من فرق إلا هذا ـ بينا هو يحاول إقناع سامعيه بصحة ما يزعم، تراني أحاول إقناع نفسي قبل كل شيء، فإقناع سامعي أمر ثانوي بالنسبة إليّ.
ولتنظرن كم عسى أن أفيد بهذا، فلو كان ما أقوله صحيحاً فما اجمل أن أكون مقتنعاً بالحقيقة، وأما إن كان لا شيء بعد الموت، فسأفو على أصدقائي هذا العويل فيما بقي من حياتي من أجل قصير، هذا وسترتفع عني جهالتي، ولهذا فلن يقع مني ضرر.
أي سيماس وسبيس، تلك هي الحالة العقلية التي أتناول بها الحوار، وإني اطلب إليكما أن تفكرا في الحقيقة لا في سقراط؛ فإن رأيتما إني أتكلم حقاً فوافقاني وإلا فقاوماني بكل ما وسعكما من جهد، حتى لا أخدعكما جميعاً كما اخدع نفسي، وحتى لا أكون لكما كالنحلة، فادع فيكما حمتي قبل موتي قال: والآن دعنا نمضي، ولأتأكد منك قبل كل شيء إن ما في ذهني يطابق ما كنت تقوله، فإن كنت مصيباً فيما أتذكر، فقد كان لدى سيماس مخاوف وشكوك أن تكون الروح أسبق إلى الفناء، ما دامت في عبارة عن انسجام، على الرغم من أنها أشد من الجسد ألوهية وصفاء.
وقد بدا سيماس من جهة أخرى أنه يسلم بأن الروح أطول من الجسد بقاء، ولكنه قال: عن أحداً لا يستطيع أن يعلم إن كان يمكن للروح بعد أن تكون قد أبلت أجساداً عدة، أن نفني هي نفسها، مخلفة وراءها آخر أجسادها، وأن هذا الموت الذي يجلب الدمار للروح لا للجسد، لأن فعل التخريب لا يفتأ عاملاً في الجسد أبداً.
أليست هذه، ياسيماس وسيبيس، هي النقط التي تستوجب منا النظر؟ فوافق كلاهما على إن ذلك تقرير لرأيهما فمضى سقراط: وهل تنكران ما في الحوار السابق كله من قوة، أم تنكران ما في بعضه فقط؟ فأجابا: بل ما في بعضه فقط قال: وماذا ارتأيتما في ذلك الجزء من الحوار الذي ذكرنا فيه إن المعرفة عبارة عن تذكر فحسب، واستنتجنا منه إن الروح لا شك كانت موجودة فيما سبق، في مكان آخر، قبل أن تنحصر في الجسد؟ فقال سيبيس أنه قد تأثر بذلك الجزء من الحوار تأثراً عجيباً، وانه لبث فيه راسخ اليقين، ووافقه سمياس، وأضاف أنه عن نفسه لم يكد خياله يجيز أن يجيء يوم يرى فيه حول ذلك رأياً مخالفاً لهذا فاستأنف سقراط: ولكن يجدر بك، أي صديقي الطيبي، أن ترى رأياً مخالفاً، لأنك إن أصررت على إن الانسجام في إطار الجسد، فلا ريب انك لن تجيز لنفسك القول بأن الانسجام سابق للعناصر التي يتألف منها الانسجام - كلا يا سقراط فذلك مستحيل (يتبع) زكي نجيب محمود

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢