أرشيف المقالات

حتى تؤتي الدعوة الفردية ثمارها

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2حتى تؤتي الدعوة الفردية ثمارها

الدعوةُ الفرديَّةُ هي الأساسُ الأوَّل في تربية الناس على دين الله -تعالى- في واقعنا المُعاصِر، وذلك برغم شيوع الدعوة العامَّة في كلِّ مكان، ودخولِها تقريبًا كلَّ بيت اليومَ عبرَ الوسائل الحديثة، إلا أنَّ ثَمَّ مقوماتٍ تحملُها الدعوة الفرديَّة تميِّزها عن الدعوة العامَّة في مَيادِين التربية والتزكية، ومجالات التعليم والتلقِّي.
 
فأهمُّ مُقوِّمات الدعوة الفرديَّة مُعايَشة الفرد حياته الخاصَّة، لتُصبِغها الدعوة الفردية بعد ذلك بصبغة إسلامية خالصة، وهذا ما لا يتَحقَّق كامِلاً بالدعوة العامَّة عبرَ الكتاب أو حتى الخطبة والمحاضرة.
 
فالخطاب الدعويُّ العامُّ عادةً لا يُلامِس أحوال كلِّ الناس المتغايِرة والمتبايِنة، كما أنَّه كثيرًا ما لا يُفهَم على وجهه، أو يَصعُب فهمُه أصلاً على بعض المدعوِّين، والدعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ - وإن كانت أهدافها وغايتها كلُّها واحدة في كلِّ الناس، إلا أنَّ وسائلها وأشكالها تتغيَّر وتتشكَّل حسب مقتضى الواقع وحال الناس.
 
وكلُّ هذا بعكس الدعوة الفرديَّة؛ فإنها معنيَّة فقط بشخص واحد، ذي قدرات واحدة، تُراعِيها وتنميها، كما أنَّ الدعوة الفرديَّة هي المُتَرجِم الحقيقي للواقع التنظيري للدين والشرع، إلى واقع عملي منهجي في حياة الناس.
 
وممَّا يُظهِر لنا فضلَ الدَّعوة الفرديَّة اليوم وتميُّزها في كثيرٍ من الأحيان على الخطاب الدعوي العام، ما نراه من هدايةِ كثيرٍ من الشباب والتزامهم بالمنهج الصحيح بسببها وحدَها.
 
ولا يعني هذا تفضيلَ الدعوة الفرديَّة على الدعوة العامَّة؛ بل لكلٍّ من الدعوتَيْن خصائصُه وميزاته، والغرض هنا بيان حاجتنا للدعوة الفرديَّة كحاجتنا للدعوة العامَّة.
 
وحتى تُؤتِي الدعوةُ الفرديَّة ثمارَها؛ فلا بُدَّ من مُراعَاة عِدَّة أمور مهمَّة:
أولاً: وضوح الهدف:
فالدعوة الفرديَّة تشمَل العُصاةَ الشارِدِين عن طريق الله - عزَّ وجلَّ - كما تشمَل الملتزِمِين المتخبِّطين في متاهات العلم والعمل، كما تشمَل أصحاب التوجُّهات الفكريَّة الخاطئة، وربما المذاهب الضالَّة القديمة أو الحديثة.
 
وكلُّ صنفٍ من هؤلاء يحتاج لأن تُحدد له أهداف وغايات خاصَّة، بحيث يكون تحقيقُ هذه الأهداف علامةَ نجاح أو إخفاق في الدعوة الفرديَّة مع المدعوِّ.
 
ووضوحُ الهدف للداعية في الدعوة الفرديَّة مع المدعوِّ، مانعٌ من الانزِلاق في التشعُّب المُشتِّت، ومانعٌ كذلك من التخبُّط المنهجيِّ، وسببٌ رئيس في كسْب ثقة المدعوِّ الذي يلحظ ثبات المنهج ووضوح أهدافه.
 
ووضوح الهدف مهمٌّ كذلك عند المدعوِّ؛ إذ يُعمِّق عندَه فهمَ عمله في الحياة وفهْمَ وظيفته الشرعية، كما أنَّ وضوح الهدف عند المدعوِّ يعلِّقه بالمنهج الدعوي مُباشَرة، لا بالأشخاص الحاملين للمنهج.
 
ثانيًا: فهم أولويَّات الدعوة وتقديمها:
لدى كلِّ شخصٍ مدعوٍّ أولوياتٌ يجب أن تُقَدَّم وأن يُعنَى بها قبل غيرها، وهذه الأولويَّات تختَلِف من مدعوٍّ إلى آخَر، حسب قُربه أو بُعده عن الله وعن منهجه، لكن في النهاية لا بدَّ أن يُراعَى جيِّدًا أن الشريعة وحدَها هي التي تُحَدِّد حجم القضايا والمسائل.
 
وفهْمُ أولويَّات الدعوة في المدعوِّ يرجع لأمرين:
1- فَهْم أولويَّات الشريعة فهمًا صحيحًا، فلا يُقَدِّم الداعية ما أخَّرَتْه الشريعة، ولا يُؤَخِّر ما قدَّمَتْه، ولا بُدَّ كذلك أن يلمَّ الداعية بفقه المصالح والمفاسد؛ لأنه حتمًا سيتعرَّض في دعوته الفردية لمسائل عِدَّة تقتَضِي إعمال هذا الفقه.
 
2- الإحاطة الجيِّدة بحال المدعوِّ، فلا يغفل الداعية جوانب القصور في المدعوِّ، أو لا يلحظ جوانب الإجادة عندَه، فإحاطة الداعية بحال المدعوِّ كفحص الطبيب للمريض: إن أخطأ تشخيصه، أخطأ علاجه ولا بُدَّ.
 
ثالثًا: اختيار الطرق المناسبة للمدعوِّ في النصح أو المعالجة، أو حتى المتابعة:
كل شخصيَّة لها معالمها وخصائصها، والنُّفوس تختَلِف كاختِلاف البصمات، وما يَصلُح مع عمرو، ربما لا يَصلُح لزيد، وهذا يَبعَث الداعيةَ على ضرورة فَهْمِ النفس التي يَتعامَل معها في الدعوة الفرديَّة، فليس شيءٌ أنجحَ في عمليَّة الدعوة الفرديَّة من فَهْمِ الداعية لنفس المدعوِّ، واختِيار الأنسب له في الأسلوب وفي الطريقة.
 
فمن النفوس ما لا يَصلُح لها إلا المتابعة المتباعِدَة والنُّصح الطفيف، ومنها ما يحتاج للنُّصح المتتابِع، ومن النفوس ما لا تقبَل العنف والشدَّة بحال، ومنها ما ينفع معها الزجر والتوبيخ في بعض الأحيان، وهكذا تختَلِف الأنفس فتختَلِف طرق الإرشاد والتقويم.
 
ومن هذا الباب اختلفَتْ أساليب النبي -صلى الله عليه وسلم- في تربية أصحابه، ومُعالَجة أنفسهم، وتصحيح مفاهيمهم وأخطائهم.
 
رابعًا: الاستِفادة من تجارِب أهل الخبرة ممَّن سلَك هذا الطريق:
من الطبيعي أن يستَفِيد الإنسان من تجارِبه السابقة في الدعوة الفرديَّة، لكن ليس هذا كل الخير؛ بل من الضروري أن نستَفِيد من تجارِب إخواننا الذين سبقونا، وإخواننا الذين يعملون في الساحة الدعويَّة معنا.
 
وبالاستِفادة من تجارِب مَن حولنا نكتَسِب خبراتٍ أكبرَ تُؤَهِّلنا لقيادة رشيدة في عمليَّة الدعوة الفرديَّة، وسؤالُ أهل الخبرة ومُشاوَرة الإخوان والقُرَناء في الدعوة علامةٌ على صَفاء القلوب ووجود الإخلاص، وليس أحدٌ مِنَّا إلا ويخفى عليه أكثرُ ممَّا يَظهَر له، وإنما يمتَنِع عن الاستِفادة ممَّن حوله مَن رأى فيما عنده الكمال.
 
وتبادُل الخبرات، ومُذاكَرة أحوال المدعوِّين، والحلول المطروحة في دعواتهم - خيرُ مُعِينٍ على إنجاز الأهداف الدعويَّة.
 
خامسًا: الانطِلاقة الربَّانيَّة:
وأعني بالانطِلاقة الربانيَّة في الدعوة: صحة النيَّة، وصدق الطلب والمقصد من ورائها، وحسن التوكُّل على الله -تعالى- فيها، واليقين في وعْد الله بنصر الدنيا وأجر الآخرة، وسائر أعمال القلوب الواجبة والمستحبَّة.
 
وهذه المعاني الإيمانية هي سبب التوفيق الحقيقي، وإهمالها سبب الخذلان والإخفاق في كلِّ المجالات الدعويَّة، كما أنَّ وجودها مُصحِّح لسلوكيات الدُّعَاة في دعوتهم، فالمُخلِصُ دائمًا يَتَحرَّى رضا الله في أفعاله، والمتوكِّل مُتَعلِّقُ القلب بالله -تعالى- وحدَه، والمتيقن دائم الثقة في موعود الله - عزَّ وجلَّ.
 
ولولا هذه المقامات القلبيَّة، لفسدت أحوال الداعي إلى الله -تعالى- وتشعَّبت به المطالب الدنيويَّة عن دعوته، ولولا هذه الأعمال القلبيَّة كذلك، لوقعت الفتن بين أصحاب الدعوة الإسلامية جميعًا، كما وقعت بين بعضهم.
 
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣