أرشيف المقالات

بالإخلاص تتحرر النفس البشرية من عبودية غير الله

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
2بالإخلاص تتحرر النفس البشرية من عبودية غير الله
 
إن العبد إذا تعلق قلبه بالمخلوقين طلبًا لمدحهم، أو خوفًا من ذمهم، أو طمعًا فيما عندهم، خضع قلبه لهم، وخضوع القلب واستعباده أعظم من استعباد البدن، لكن إذا تعلق قلب العبد بالله وأخلص له، قَوِيتْ عبوديته لله وتحرَّر مما سواه؛ كما قال تعالى: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الذاريات: 50].
 
♦ قال بشر بن الحارث الحافي رحمه الله: "من أراد أن يذوقَ طعم الحرية، ويستريح من العبودية بغير الله، فليطهر السريرة بينه وبين الله تعالى"؛ (الرسالة القشيرية: ص311).
 
وقال سعدون المجنون رحمه الله لذي النون:
متى يكون القلب أميرًا بعد ما كان أسيرًا؟ فقال ذو النون: إذا اطَّلع الخبير على الضمير، فلم ير في الضمير غيره؛ لأنه الجليل العزيز"؛ (تهذيب الحلية: 3 /232).
 
♦ وقال المناوي رحمه الله عن المخلصين: لما أخلصوا في المراقبة ونسيان الحظوظ كلها، وقطعوا النظر والقصد عما سوى معبودهم، لم يكن لغيره عليهم سلطان، بل هم منه في حماية وأمان؛ (فيض القدير: 4 /274).
 
♦ وقال ذو النون رحمه الله: عندما سُئل: فيم يجد العبد الخلاص؟ فقال: الخلاص في الإخلاص، فإذا أخلص تخلَّص".
 
♦ وهكذا كان يقول معروف الكرخي رحمه الله: يا نفس، أخلصي تتخلَّصي.
 
فالإنسان إما أن يكون عبدًا لله أو عبدًا لغيره، وقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعِس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إنْ أُعطِي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ".
 
وجاء في كتاب "تيسير العلي القدير" لمحمد نسيب الرفاعي رحمه الله: 1 /244 أن شيخ الإسلام رحمه الله قال: سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدرهم، وعبد الدينار وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، وقال عنه: "تعس وانتكس"، وهذا حال من عبد المال، وقد وصف كذلك أنه "إن أُعطي رضي وإن مُنع سخط"؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾ [التوبة: 58].
 
فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقًا برئاسة أو بصورة أو نحو ذلك من إهداء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له؛ إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده.
 
وكما قيل:
أنت القتيل بكلِّ من أحببتَه *** فاختَر لنفسك في الهوى من تصطفي
 
وقال رحمه الله: وكلما قوِي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته، ودفع ضرورته، قوِيت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه؛ اهـ بتصرف واختصار.
 
فالإنسان لا يستقيم حاله ولا يطمئن قلبه إلا إذا أوى إلى مولاه، وطرَح نفسه على عتبته، وأخلِص في العبودية له، وهذه العبودية لله هي أرقى مراتب الحرية؛ لأن العبد إذا تذلل إلى مولاه وحده، فإنه يتحرَّر من كل سلطان، فلا يتوجه قلبه، ولا يطأطأ رأسه إلا لخالق السماوات والأرض.
 
فالإنسان ما هو إلا عبد شاء أم أبى، فإن لم يكن عبدًا لله، فسيتلطخ بالعبودية لغير الله، فتستولي عليه النفس ويكون عبدًا لهواه؛ قال تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ [الفرقان: 43].
 
وصدق القائل حين قال: "هربوا من العبودية التي خُلقوا لها، فبُلوا برقِّ الكفر والشيطان".
 
فطوبي لعبد لا يتألَّه غير مولاه الحق، ولا يُضيع أنفاسه في غير مرضاته، ولا يُغرق همه في غيره، صفت عبوديته لله، وخلَص ودُّه له، وعمر السر بينه وبين ربِّه، فأصبح وأمس ولا همَّ له غير ربه، قد قطع همُّه بربه جميعَ الهموم، ونسخت محبتُه لربه كلَّ محبة لسواه.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن