أرشيف المقالات

هل ما زال الشباب يستمع إلينا ؟

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2هل ما زال الشباب يستمع إلينا؟
لا تتوقَّف قرائح العلماء والمفكرين والمربِّين عن الجود بالأفكار والبرامج والتحليلات النفسية والاجتماعية التي تتناول الشباب وتخاطبه لترشيد مسيرته، خاصةً في ظلِّ العولمة الطاغية التي تهدِّد الدين والقيم والأخلاق والذات المستقلة، لكن لنا أن نتساءل: هل ما زال الشباب يستمع إلى الخطاب الترشيدي، ويُصغي إلى الدارسين والمنظِّرِين؟ المشكلة قائمة بذاتها بسبب طُوفان التغييرات الثقافية والاجتماعية، التي كثيرًا ما لا نملك لها حماية صُلبة من ذاتنا سوى بقية من خطاب ديني قويٍّ في جوهره، لكن يحدث أن يقلَّ تأثيره، وتتجاوزه أدوات العولمة وأساليبها، فما العمل إذًا والشباب مورد لا يمكن تجاهل أهميته وخطره، ولا يمكن تناسي موضوعه؟ هل من فائدة في إضافات تنظيرية تشكِّل تراكمًا معرفيًّا ضخمًا إذا كان الذين نتناولهم بالدراسة ونتفنَّن في مخاطبتهم لا يلتفتون إليها؛ لانشغالهم بخطاب آخر يشكِّلُ - في شعورهم أو لاشُعُورِهم - المرجعَ الأقوى في بريقه وتأثيره؛ لأنه سهل المنال، لا يرهقهم بتكاليفَ ذهنيةٍ أو سلوكية، بل يقرِّب إليهم الأحلام، وينقلهم من عالم الأفكار وما تقتضيه من كدٍّ ومكابدة إلى ساحات الاستهلاك المادي والنفسي بلا ضوابط ولا حدود؟ إذا استثنينا القلَّة الملتزمة بدينها وهُويَّتها وشخصيتها، على بصيرة، بفضل انخراطها في محاضن التربية ودروب الدعوة، فإنَّ الأغلبية الساحقة الواقعة تحت ضغط الإرهاق من تأثيرات العولمة بعيدًا عن أجواء الشريعة والأخلاق، أصبحت يستهويها التمرُّد على الأمة والتراث والمجتمع، تتموقع في مربَّع التحدِّي والمعاكسة، وهي تظنُّ أن ذلك هو ثمن إثبات الذات والخروج من التخلُّف والرتابة، وعربون الانطلاق نحو الرقِيِّ والتقدم ونبض الحياة المزدهرة، كيف نحدِّث هؤلاء عن الشباب محرِّكِ الدنيا ومسعرِ الجهادِ ومشيِّدِ الحياة في سبيل الله؟ كيف نحدِّثهم عن القُدُوات الكبرى في تاريخ الأمة الممتدِّ من أنبياء وصحابةٍ ورموزٍ خالدةٍ في ميادين العلم والجهاد والإصلاح، وقد صنعت لهم السينما والأدب الغربي والتغريبي قُدُواتٍ تتجاوز في تأثيرها إبراهيمَ عليه السلام الفتى الثائرَ على الشرك، وإسماعيلَ عليه السلام الشابَّ الذي رضي بالتضحية بنفسه امتثالاً لأمر الله، وأصحابَ الكهفِ الذين فضَّلوا حياةَ العزلة على الذوبان في المجتمع الجاهلي، ورموزَ البطولةِ والعطاء اللافت؛ أمثال: أسامة بن زيد، والقاسم بن محمد الثقفي، ومحمد الفاتح، وصِنْو هؤلاء من النساء الفاضلات اللائي تركْنَ بصماتهن في دنيا المسلمين والبشرية كلِّها، لقد أصبح للشباب - رغم إسلامهم وعروبتهم - نماذجُ عاليةٌ أخرى من الممثِّلين واللاعبين والفكاهيِّين الذين يمثِّلون في نظرهم النجاحَ والبروز بالإضافة إلى المعاصرة، ويرمزون إلى السعادة؛ أي: إلى السهولة في نيل الشهرة والمادة بغير كدٍّ ولا طول انتظار؛ إذ تكفي أغنيةٌ تروِّجُ لها الأوساطُ الفنية، أو هدف يسجِّلُه لاعبٌ مغمورٌ ليحظى بالأضواء الإعلامية تُسَلَّط عليه، والأموال تُصبُّ عليه صبًّا، والدنيا تتبرَّج له بكل زينتها، بينما يعرف هو شخصيًّا أساتذةً جامعيين، وباحثين وعلماء دين، لا يملكون سكنًا ولا سيارةً ولا دخلاً كافيًا، وهذا يكفي الشباب لاختيار موقعه الاجتماعي؛ إذ أصبح من المعلوم في الساحة العربية أنَّ طلبَ المعارف بالمعنى العلمي والأكاديمي فَقَدَ وزنَه عند أكثر الطلبة، وحلَّ محلَّه - في أحسن الأحوال - الحصولُ على الشهادة، ولو بلا رصيد علمي محترم، وقد رصد المراقبون في الجزائر - على سبيل المثال - أن الجهة الأكثر استقطابًا للمسَجَّلين الجدد في الجامعة هي معهد تكوين الرياضيين؛ لأنه يجمع بين سهولة الدراسة وضمان المستقبل، بخلاف كليات الطبِّ والهندسة، فضلاً عن العلوم الإنسانية.الشباب يعرف كلَّ هذا، لكنه في الغالب لا يعبأ لا بالمشكلة ولا بالحلِّ؛ لأنه - كما ذكرنا - حسَمَ اختيارَه، وانحاز للطريق السهل الذي يجنِّبه الكَدَّ، وترك الكلام عن الأمة والعلم والمستقبل والتحديات للمُنَظِّرين الذين لا يَقرأُ ما يكتبون ولا يُصغِي إلى ما يقولون، لذلك تراكمت أزمات الْهُوية والفراغ الروحي والانحراف السلوكي والسلبية والتراجع المعرفي وفقدان المناعة الحضارية وغيرها، بل صارت رقعتها تتَّسع باطِّرادٍ حتى مسَّت الفضاء الديني ذاته، وألقت عليه بظلال التديُّن العاطفي غير المنضبط والغلوِّ في الفَهم والتطبيق والانسحابية، والاغتراب الزماني في مواجهة العولمة، والضجر من معاناة إنضاج الأفكار والعواطف، ومعاناة مكابدة الواقع السياسي، والصبر على مكاره طريق الإصلاح وتوضيح معالمه وتنفيذ خططه، وإن المرء لَيَجِدُ في مواطن اللغو واللهو وفي مواقع التطرف أضعافَ ما يجد في مظانِّ العلم والبحث والعمل الدائم من الشباب؛ لأن الأغلبية لم تصمد أمام مفاتن التهوُّر والاستعجال والغثائية.هذا هو الواقع الذي يعرفه كلُّ واحد، ولا يجدي معه التمويه، وإذا كان - ولا بدَّ - من ظرف مخفف، فهو ما نشأ عليه شبابنا من بيئة موبوءة على أكثرَ من صعيد في ظلِّ الغزو الثقافي الذي تساهلت معه الحكومات وشجَّعَتْه النُّخَب العلمانية، واستهلكته البيوت، حتى إن الروح الأجنبية غزت أكثرها في كلِّ مظاهر الحياة، فأصابت العُجمةُ الألسنَ، وطغت مظاهر التغريب على الأزياء والأثاث ومواعيد العمل والراحة والطعام وحتى التحية المتبادلة بين الناس، وسرى مع كلِّ هذا - وهو أخطر ما في الأمر - سلبياتُ الحضارة الغربية التي غزت العقول والقلوب، وقلبت الموازين، وخدشت الأخلاق، فصنعت في النهاية هذا الشباب الذي نتحدث عنه، والذي أصبح - من حيث يدري أو لا يدري - يستهلك منتجات الغرب المادية والنفسية بِحُلْوها ومُرِّها وخيرها وشرِّها، ما يُحمد منها وما يُعاب، تمامًا كما خطَّط دعاة التغريب - وصرَّحوا بذلك - منذ عقود، فأصبحت الانحرافات الجنسية، والزواج الْمِثْلي والسحاق، تجد رواجًا فكريًّا واجتماعيًّا في بلادنا، مع أنها عند أية فطرة سليمة من الموبقات التي يتقزز منها الرجال والنساء لبشاعتها وحيوانيَّتها، لكن تتبنَّاها أوساط سياسية وثقافية بصراحة، باعتبارها من الحريات الشخصية وصميم حقوق الإنسان، في حين يُصنَّفُ الحجابُ والنقاب واللحية في خانة الخروج عن النسق الاجتماعي، ومقدِّمات التطرف الديني والإرهاب المترتِّب عليه بالضرورة، وبقي ملاحظةُ تخلِّي الأغلبية الساحقة من المسلمات - في السنوات الأخيرة - عن اللباس الشرعي، وإقبالهنَّ على الحجاب المتبرِّج الذي صمَّمَتْه الأوساط الغربية لإعادتهنَّ إلى الجاهلية الأولى بخمار يغطّي الرأس، وثياب كاشفة للمفاتن، لا يبقى معها معنًى للحياء والعفَّة وغضِّ بصر الرجال والنساء، وهؤلاء النساء وأزواجهنَّ وأولياؤهنَّ يعرفون الحكم الشرعي للباس المرأة، لكنَّ التغريب غدا أقوى من الثقافة الدينية عند الجميع إلا فئةً موَفَّقَةً تتحدَّى سيلَ العولمة الجرَّارَ بالثبات على المبدأ في وجه التلفزيون والمجلة والإنترنت.وقد زاد من تعقيد الموقف سيطرةُ الشيخوخة على مفاصل الحياة في البلاد العربية رغم التمجيد الشفوي للشباب، والوعود المتتالية بتسليمهم المشعلَ، وإفساح مجال القيادة والتسيير لذوي الكفاءات منهم، لكنَّ شيئًا من ذلك لم يحدث، فكيف لا يديرون بعد ذلك ظهورَهم للشأن العام ومعالي الأمور؟ فكيف نقنعهم - عندما نكتب ونحاضر وننظِّر - بموقعهم من التحدي الحضاري ونحذِّرُهم من التخلُّف عن المنهج الرباني، ومن سطوة النزعة المادية، وندعوهم إلى الالتزام بأحكام الشرع؟ هل يسلِّمون بما نرى فيهم من أمراض فتَّاكة؛ كضعف الفاعلية، وعدم الاكتراث بالوقت، والنزوع إلى السلبية، والإفراط في الشكليات، وانتهاج الفوضى في كلِّ شؤونهم؟ وإذا سلَّموا بذلك، فهل يثقون بوصفاتنا العلاجية، ونحن وإيَّاهم غارقون في صراع الأجيال؟ ما العمل لتخليص هؤلاء الأبناء من أخلاق المجتمعات المتخلفة، وعلى رأسها ضعف ثقافة التساؤل، وانعدام القلق الحضاري، واضطراب منهجية التفكير، وطغيان الانفعال؟ وقبل ذلك، كيف نجعلهم يقتنعون بالمشكلة حتى تتسنَّى معالجتُها؟ هل نبقى نكتب ونخطب ونحاضر رغم إعراضهم أو لامبالاتهم؟ ما جدوى ذلك؟ليس غرض هذا المقال اقتراحَ الحلول ليبقى الأمر تنظيرًا باردًا، وإنما نريد طرح الأسئلة الوجيهة - كما نظنُّ - ليلتفت المربُّون والمفكِّرون والعلماء وأصحاب القرار إلى أنفسهم وتنظيرهم بالمراجعة وطلب الجدوى؛ لاستدعاء الشباب إليهم كَنِدٍّ ناضج يعطينا الإجابات التي نبحث عنها بعيدًا عنه، ويتبنَّى قضيته ويُكِبُّ عليها بالتناول الجِدِّيِّ، فيجد المجال لطرح الأسئلة الوجيهة والصعبة والمحرجة، ويقترح الإجابات أو يلتمسها عند أصحاب الاختصاص والتجربة.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢