أرشيف المقالات

أهداف الدعوة في المرحلة المكية

مدة قراءة المادة : 21 دقائق .
2أهداف الدعوة في المرحلة المكية
 
تمهيد:
لبيانِ أهداف الدعوةِ في المرحلة المكية، فإنه يجبُ إلقاءُ الضوء على حال العرب - خصوصًا في مكةَ وما حولها - قبل الإسلام؛ فلقد كان العربُ يعبُدون الله تعالى على بقايا مِن دين إبراهيم عليه السلام، بعد أن شُوِّهت وحُرِّفت صورةُ الدِّين الذي دعا إليه إبراهيمُ عليه السلام، وتمثَّل هذا الانحرافُ في عدة مظاهرَ، منها:
 
1- إدخال عبادة الأصنام:
وكان الذي أدخلها هو عمرو بن لُحَيٍّ، زعيم قبيلة خزاعة التي أخرَجت جُرْهُمَ من مكة، وكانت جُرْهُمُ هي القبيلةَ التي صاهَر إليها إسماعيل عليه السلام، ومن تلك المصاهرة نسلُ إسماعيلَ عليه السلام من العرَبِ الذين اشتهروا بالعرَبِ العدنانية، أو عرب الشمال، ويقول الدكتور إبراهيم أحمد العدوى: (ويُنسَب إلى عمرو بن لُحَي الخزاعي إفسادُ دِين إبراهيم الذي كان عليه العرب؛ إذ نشَر بينهم عبادةَ الأصنام التي نقَلها من بلاد الشام حين زارها وحلَّ بين أهلها، ولم تلبَثْ عبادةُ الأصنام أن تفشَّتْ بين القبائل العربية، وقلَّ عددُ المتمسكين بدين إبراهيم، والتابعين لأحكام دينه)[1]، (ولقد اتَّخَذت كل قبيلة لنفسها إلَهًا يحميها ويدافع عنها...، وكثيرًا ما كانت القبيلةُ تتخلَّى عن الإله الذي تعبُده إذا انهزمت؛ لعجزِه عن حمايتها، وعبادة آلهة أخرى، فأفراد القبيلة نظروا إلى معبودِهم الإلهِ نظرتَهم إلى شيخ القبيلة، ونسَبوا أنفسهم إليه أحيانًا، واعتبَروه أبًا لهم، وكان الخروجُ على معبودِ القبيلة يعني الخروجَ على القبيلة نفسِها...، وأصبحت أقسامُ القبيلة رموزًا سياسية، إلى جانب دَلالته الدِّينية عند أفراد تلك القبائل، وصار من المألوف خروجُ القبائل للقتال وهي تحمِلُ أصنامَها...، واتخذت كلُّ قبيلة من آلهتها "سمتًا" كان عبارة عن خيمةٍ تقوم مقام المعبَدِ عند سكان المدن، وتُعتَبَر هذه الخيمة مُقدَّسةً؛ للموضع المقام عليه الحرمة والقداسة...
وخلَقَت هذه الظاهرة تفككًا بين القبائل، ليس في النواحي السياسية فحسب، بل وفي المعتقدَات الدِّينية أيضًا، وصار الشِّركُ ظاهرةً عامة في الحياة القَبَلية قبل الإسلام، ويُسهِم في إشاعة الفوضى والمنازعات التي أفسدت الجزيرةَ العربية فسادًا خطيرًا في القرن السادس الميلادي...)[2].
 
ومن هنا، تبيَّن حجمُ الفساد الدِّيني والأخلاقيِّ، والانحراف البعيد عن الفِطرة السليمة، وبالتالي فإن ذلك يُعَد دليلاً واضحًا على حجم المعاناة والجُهد الخارق الذي بذَله النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن أجلِ مواجهة هذا الفساد وذلك الانحراف، وتلك المهمَّة الثقيلة التي تحمَّلها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ومَن معه لتغييرِ هذا الواقع من حيث العقيدةُ والأخلاق، والقِيَم والعادات.
 
2- نظام النَّسيء:
وهو نوعٌ من التلاعبِ في الأشهر الحُرُم، وتغيير مواقعها، وإحلال شهورٍ من السنة محلَّها؛ فقد اتفقتِ القبائلُ على أربعةِ شهور يقف فيها الصراعُ والنِّزاع، ويحرُمُ فيها القتالُ والإغارات؛ وذلك لكي يستريحوا من عَناء الصراع على الرِّزق، وتسوية المشكلات، أو الحصول على الحاجات الغذائية...، واستغلَّ العربُ نظام الأشهر الحُرُم لأداء واجباتِهم التِّجارية والدِّينية على حدٍّ سواء، ثم جاء نظامُ النَّسيء خَرقًا للحُرمة، وردَّ فعلٍ لرغبة الحياة القبَلية في الغزو والتحلُّل من الالتزامِ بالهدوء والاستقرار...، هذا وقد لجأت قُرَيشٌ أيضًا إلى النَّسيء؛ رغبةً منها أن يأتي الحُجَّاج إلى الكعبةِ في موسم الشتاء؛ ذلك أن التقويمَ القمريَّ جعَل الأشهر الحرم تأتي في مواعيدَ مختلفة من فصول السَّنة، وبعضها لا يتَّفق مع مصالحِ البَداوة وأهلِها، فكانت قُرَيش تتلاعب وتُغيِّر في النَّسيء ليأتي في موسم الشتاء؛ حيث توافُر الأُدُم، ومنتجات المراعي التي تُغذِّي الأسواقَ والوافدين عليها من القبائل [3].
 
ومن هنا يتضح السببُ وراء شراسةِ المواجهة مع المسلمين، وحرص زعماء قُرَيش وصناديدها على عدم نجاحِ دعوة الإسلام، ووقفِ انتشارِها، ومعاداةِ أصحابها؛ خوفًا على مصالِحِها التِّجاريةِ.
 
3- تنظيمات مكَّةَ:
استطاع قُصَيُّ بنُ كلاب أن ينال زعامةَ قريشٍ بعد أن تمكَّن مِن طرد قبيلة خزاعةَ التي كانت لها السيطرةُ على مكة، وكان قد تزوَّج ابنةَ خليل بن حبشية المتولِّي شؤون الكعبة، وقد ولَدت له أبناءه الأربعة: عبدَالدار، وعبدَ مناف، وعبدَالعزى، وعبد قُصَي، وبعد أن صارت له الزعامةُ بدأ في تنظيمِ قُرَيش، وتطوير نُظُمها القبَليةِ بما يتفق وطبيعةَ العُمران في مكةَ كما يلي:
1- جمع قصي قومَه من الشِّعاب والجبال إلى مكة، أنزَل كل جماعة منهم مكانًا خاصًّا، وأقطَعهم الأرباع التي بنَوا فيها منازلَهم؛ ولهذا اشتهر قصي بلقب "المجمِّع"؛ أي: الذي جمع قريشًا ووحَّد بطونَها حتى صارت قوة.
 
2- شكَّل قصي من رؤساء قريش بعد توحيدها مجلسًا اشتهر باسم "الملأ"، وتولى رئاستَه بنفسه، واختص هذا المجلس (مجلس الملأ) بالنظرِ في شؤون الكعبة، وأمور الكعبة، والمعاهَدات والاتِّفاقيات، وإعداد القوَّة العسكرية للدِّفاع، أو لردِّ عدوان.
 
3- أنشأ "دار الندوة" في الضلع الشَّمالي من الكعبة، وجعَل بابَها إلى المسجد، وجعلها مقرًّا لجلساتِ "الملأ" ومشاوراته، واستقبال سُفَراءِ القبائل والوفود.
 
4- الحِجابة والسِّدانة والرِّفادة، والسِّقاية، والعمارة: أما السِّدانة فهي حملُ مفاتيح الكعبة، وإعطاء الإذن بدخول الكعبة.
 
والرِّفادة: هي ضريبة فرَضها قصيٌّ على قريش، تُدفَع كلَّ عام للإنفاق منها على فقراءِ الحُجَّاج وإطعامِهم، وكان يقولُ لهم عن مبرِّرات هذه الضريبة: "إنكم جيرانُ الله، وأهلُ بيته، وإن ضيفَ الله وزوَّارَ بيتِه، هم أحقُّ الضَّيف بالكرامةِ، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام الحج...).
 
والسِّقاية: هي حمل الماء العَذْب من الآبار إلى الحُجَّاج، وأعد إبلاً لنَقْل الماء بالقِرَب، ووضعها في حياضٍ منتشرة في الكعبةِ، وفي مِنًى وعرَفةَ.
أما العمارة، فهي المحافظةُ على المسجدِ الحرام، وصيانته.
هذا، بالإضافة إلى تنظيم شؤونِ الحرب، وتمثَّلت في اللواء، والقيادة، والأعنَّة، والحكومة.
أما اللواء، فهو العَلَم الذي يحمله المُقاتِلون أثناء المعارك.
 
والقيادة: هي إما إمارةُ الركب؛ حيث يسيرُ القائدُ أمامَ الرَّكب في خروجِه للقتال أو التِّجارة.
 
والأعنَّة: مهمَّة يتولَّى صاحبُها خيلَ قريش، وتوجيهها في القتال.
 
والحكومة: وكانت عبارةً عن الفصلِ بين الناس عند الاختلاف.
 
وارتبط بهذه النُّظم الحربية عدةُ شعارات، أهمها: "القبة"، وكانوا يضرِبونها عند الخروجِ للقتال، ويجمَعون فيها حاجةَ الجيش من الأسلحةِ والعتاد[4].
 
ومن هنا يتبيَّن أن الدعوةَ الإسلامية في أولِ عهدها كان عليها أن تواجهَ تلك المؤسَّسات والتَّنظيمات، وتقتلعَها من جذورِها، ولأن ميزانَ القوى لم يكن متكافئًا، فقد كانت الجهودُ متجهةً لتربية النفوس، ومخاطبة القلوب والعقول، وتجنُّب المواجَهة المسلحة، والصدام المباشر، وتبدو كذلك الحكمةُ واضحةً جليَّة في عدم فرضِ القتال في مكة، أو حتى رد العدوان...، وهذا أحدُ الأسباب.
 
4- الأسواق:
ارتبط بالأشهرِ الحُرم أعظمُ مظاهرِ النُّظم القبَلية المشتركة، وأوسعها مجالاً، وهو انعقادُ الأسواق السنوية، التي لم تقتصر مهمتُها على أمورِ البيع والشِّراء فحسب، ولكن صارت ميادينَ أيضًا انعكَسَتْ فيها ما تفجَّرَت عنه النُّظُم القبَلية من تقاليدَ وشعائرَ وطقوس، (وخاصةً فيما يتعلق بالمُنافَرة، والفخر بالأحساب والأنساب، وحتى سحر البيان، وطلاوة اللِّسان، والأشعار، والمعلَّقات...)، وكان منها سوقُ دُومة الجندل، وسوق المُشَقَّر، وسوق عدن، وسوق عُكاظ، وهو من أهمِّها؛ لأنه كان مرآةً لِما ساد في الحياة القبَلية مِن نُظم ومفاهيم شتى؛ فمن الناحية الاقتصادية: وجَد الجميع ضالَّتَهم؛ من حيث التبادل التِّجاري، ومن الناحية السياسية والاجتماعية فإن القبائلَ كانت تنتهز فرصةَ انعقادِ سوق عُكاظ لتُعلِن فيه عن حلفائِها حتى يتمَّ معرفةُ ذلك لجميع العرَب، وكذا تسوية النزاعات، ودَفْع الدِّيَات، ومِن الناحية العلمية والأدبية: فكان مِن أروعِ مظاهر النُّظم القبَلية: المُفاخَرة، وكذا الفصل بين الشُّعراء، وانتقاء القصائد العَصْماء التي اشتهرت باسم: "المعلَّقات".
 
ثم ينتقل الناسُ مِن سوق عكاظَ إلى سوق ذي المجنَّة، ثم إلى ذي المجاز، ثم يذهب الناسُ إلى الحجِّ[5].
 
ومن هنا يتبيَّن ما كان عليه العربُ في هذا الوقت من قمةِ النَّشاط الأدبي، المتمثِّل في سِحر البيان، وطلاوة اللِّسان، ونَظْم الأشعار؛ لنعلَم الحكمةَ في أن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت القرآنَ الذي تحدَّى به هؤلاء، بل ومعهم الجنَّ وأهلَ الكتاب السابقين.
 
• إن فائدةَ التعرُّف على الأوضاعِ السائدة في مكةَ قبيل البِعثة هي بيان بيئةِ الدعوة، وتحديد القضايا التي سيتم معالجتُها، والاستعدادُ لمواجهة تلك المؤسَّسات والتَّنظيمات القائمة، وكذا وَضْع خُطَّة التحرُّك لإزالة قِيَم الجاهلية وأفكارِها وعصبياتِها، وتغيير عاداتها ومَأْلوفاتها.
 
• ومن هنا يمكن تحديدُ أهدافِ الدعوة في مرحلتها المكية فيما يلي:
1- الدعوة إلى توحيدِ الله عز وجل، وإبطال العبودية لغير الله تعالى، والمتمثلة في قولِ أو شَهادة أن لا إله إلا الله، وأنه لا معبودَ بحقٍّ سواه، وأنه الأحقُّ بالعبادة وحده، وليس تلك الأصنام المنحوتة، أو الأوثان المصنوعة؛ ولهذا لَمَّا جمَعهم ونادى فيهم: ((قولوا: لا إله إلا اللهُ، تُفلِحوا))، ردُّوا عليه في أول الأمرِ متعجِّبين ذاهلين رافضين: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5].
 
ومن هنا، فلقد كان التوحيدُ هو المعركةَ الأساسية التي خاض القرآنُ غِمارَها لإزالة الشِّركِ والوثنيَّةِ من نفوس أهلِ مكَّة، وتعليم العباد كيف يعبُدونَ إلَهًا واحدًا.
 
والملاحَظ أن العرَبَ كانوا لا يُنكِرون الإلهَ الخالق، ولا الربَّ الرازق؛ فكانوا يعترفونَ بوجود اللهِ خالقِ السَّموات والأرض، إلا أنهم كانوا يُشرِكون به غيرَه، زاعِمين أنهم يُقرِّبونهم إلى الله زلفى، ويشفَعون لهم عنده، فيقضي لهم حاجاتِهم؛ مِن جَلْب نفع، ودَفْع ضرر، وذلك بوساطتهم، كما حكى القرآن: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3][6].
 
ولهذا كان مِن الأهداف الأولى للدعوة: تصحيحُ التدين، والتصوُّر للإله الحقِّ الواحد المعبود؛ يقول الدكتور رؤوف شلبي: (...
فإن القومَ لم يكفُروا بالله؛ أي: لم يجحَدوا وجودَه وقدرتَه على الخَلق؛ فهم يعتقدون أنه الخالق الرزاق، والنافع الضار، ولكنهم اتَّخذوا طريقًا منحرِفًا في العبادة، أسرَفوا في العبادة، أسرَفوا في العقيدة، حتى وسع إيمانهم مخترعات آبائهم وأجدادهم، فكانت الدعوةُ في هذا العهد المكي تُحاوِل أن تردَّهم إلى طريق اللهِ السواء)[7].
 
وكان إقرارُ التوحيد يسيرُ في مِحورين:
الأول: إبطالُ عبادة المصنوعات التي لا تملِكُ ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، والتي لا تسمَعُ ولا تعقلُ ولا تُحِسُّ؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 4 - 6].
 
الثاني: إثبات أنه لا معبودَ بحقٍّ إلا الله الخالق، المالك المتصرِّف؛ قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 17]، إلى قوله تعالى: ﴿ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ﴾ [النحل: 22]؛ فالإله الواحدُ المُتفرِّد بالخَلْق هو الأحقُّ بالأمر والنهي؛ ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54].
 
كذلك كان مِن أهداف هذه المرحلة إثباتُ البعث والحساب؛ لأنهم استبعَدوا بَعْثَ الأجساد بعد تحويلِها إلى ترابٍ وعظامٍ نَخِرَة.
 
قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ﴾ [الصافات: 15 - 17].
 
ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد لبِث فيهم عُمُرًا قبل البعثة، فقد أنكَروا نبوته ورسالته، فكان من أهدافِ الدعوة في مراحلِها الأولى: إثباتُ الرِّسالة، وصِدْق النبوة، وإثبات أن القرآنَ منزلٌ مِن عند الله عز وجل.
 
كان لا بد مِن مواجهةِ الملأ من قُرَيش بالحجَّةِ والبيان، والرد على شُبُهاتِهم، واحتمال تعنُّتهم وعدائهم بصبرٍ واحتساب، وأمل في استجابتِهم ودخولهم في الإسلام.
 
ومن ناحية أخرى، كانت عمليةُ إعداد القيادة وتربية الرَّعيل الأول وجيل الصفوة تسيرُ في طريقها المقدر، وتَزيد يومًا بعد يوم؛ يقول الشيخ الغزالي - رحمه الله -: (أخذت الدِّعايةُ للإسلام تنتشرُ في مكة، وتعملُ في أصحابِ الأفئدة الكبيرة، فسرعان ما يطرَحون جاهليَّتَهم الأُولى، ويخِفُّون إلى اعتناقِ الدِّين الجديد، وكانت آياتُ القرآن تنزل على القلوبِ، كما ينزلُ الوابلُ على التُّربة الخصبة ﴿ فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5]) [8].
 
2- العودة بالفِطرة إلى سابقِ عهدها من النَّقاء والطَّهارة، وتنحيتها عن كلِّ ما دخَلها من عبَثٍ، وما حلَّ بها من انحراف، وذلك بعد الإيمانِ باللهِ الذي لا تجبُ العبوديةُ إلا له، وتجلَّى ذلك في القضاء على كل ما كان عند العربِ من عاداتٍ فاسدة، وتقاليدَ ممقوتة، أنكرها الوحيُ، وتأباها الفطرةُ السليمة، والعقول المستقيمة؛ كوَأْدِ البنات، وقَتْل الأولاد خشيةَ الفقر، وتحريم أشياء حسب الهوى وما تراه العقول السقيمة، من غير دليلٍ شرعي، أو وحي إلهي، فكان من أهدافِ الدعوة في أولِ عهدها نقضُ المنهج الجاهلي، ورَفْض سُلطة التشريع لأحدٍ مِن البشر في التحليل والتحريم، فإن الحاكميةَ لله وحده؛ فالخالق الرزَّاق الذي ليس له شريكٌ هو الآمرُ الناهي، وهو مصدر التحليل والتحريم، فكان مقصدُ التشريع أن يخرجَ الإنسانُ من دائرةِ هواه، ليصيرَ عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبدُ الله اضطرارًا[9]؛ لينسجم مع الكون ومن حوله، وتلك هي الفطرةُ؛ قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30].
 
3- الدعوةُ إلى تزكية النفوس وتهذيبها، وإصلاح القلوب وإحيائها، وتقويم الغرائز، والتحلِّي بمكارم الأخلاق؛ كالصدق، والعفاف، وصِلَة الأرحام، وحُسْن الجِوار، وبِر الوالدين، وإكرام الضيف واليتيم[10]، وجاء الأمرُ بذلك في مواضعَ كثيرة من القرآن الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
 
كذلك كان مِن أهم أهداف هذه المرحلة ترويضُ النفوس؛ ليكون هواها تبَعًا لأوامرِ الله عز وجل؛ وذلك للتخلِّي عن العصبيَّة القبَلية، والانتقام للنفس، والاندفاع التلقائي؛ وذلك بالدعوةِ إلى التحلِّي بالصَّبر، وضَبْط النفس، وكَظْم الغيظ، والعَفْو والصفح، وتحمُّل المشاقِّ في سبيلِ الله تعالى ابتغاءَ مرضاتِه.
 
4- التمهيد لفرض التشريعات، والإعداد لقبول التكاليف:
وكان منهجُ الإسلام في ذلك هو تزكية النفوس، وترسيخ الإيمان، وترويض القلوب للاستجابة لأوامرِ الله تعالى، والتحذير من كل فِعل كان في الجاهلية، وإذا كانت التشريعاتُ بدأت في المدينة المنورة بعد الهجرة بالتدرج، فإن التمهيدَ لهذه التشريعات كان قد تمَّ في مكَّةَ، فعلى سبيل المثال:
أ- تحريم الخمر:
فقد كان القرآنُ الكريم ينزل في مكةَ، ولم يتعرَّض لتحريم الخمرِ أو للأمر بتَرْكها، ولكن جاء في سورة النحل - وهي مكية - قولُه تعالى: ﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [النحل: 67]؛ يقول الدكتور رؤوف شلبي: "فيُلقي ظلالاً ذات معنى رفيع على الثَّمرات المنبثقة عن الحياة التي وهبها اللهُ بالماء الذي أنزَله من السماء، ثم يتَّخِذ الناس منه سَكَرًا، ورِزقًا حسَنًا، فيلمح إلى أن الرزقَ الحسَنَ غير الخمر، وأن الخمر ليس لها نصيب من الاتصاف بالرِّزق الحَسَن، والعربي يفهم أن في المعاريض مندوحةً عن التصريح، فيخلُصُ من خلالِ تفيُّؤِ ظلال هذا المعنى إلى أن هذه توطئةٌ لحُكم سيأتي، ويرشح لهذه التوطئة لفظ (تتخذون)؛ فالسكر مِن الثمرات الطيبة فيه تدخُل إرادة الإنسان - وهو مُشاهَد معروف - وعجُزُ الآية (لقوم يعقلون) مرشِّح ثانٍ، مفيدانِ أن هذه التوطئة للحكم القادم، وإنما يلاحظها ويدركها العاقلون"[11]، وكانت هذه هي المرحلةَ الأولى في تحريم الخمر، وهي التمهيد والتوطئة للمراحل الثلاث التي مرَّت بها مسألةُ تحريم الخمر[12].
 
ب- تحريم الرِّبا:
فقد كانوا في الجاهليةِ يتعاملون بالرِّبا، ومن المعلوم أن تحريمَ الربا كان في أواخرِ المرحلة المدنية، ولكن منذ المرحلةِ المكِّية والقرآنُ الكريم يحاول بطريقتِه الهادئة الرقيقة أن يحس الناس - ويحُثَّهم في ذات الوقت - بأن طريق الرِّبا طريقٌ فاشل غيرُ مرغوب فيه دينيًّا من الله تعالى كأسلوبٍ تتعامل به الجماعةُ الإسلامية، وجاءت آيةُ الروم تنفي صراحةً أن الربا يرضى عنه اللهُ تعالى؛ يقول - عز وجل -: ﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ [الروم: 39]، وهي كذلك مكية، فنفَتِ الآية الكريمة أسلوبَ التعامل الربوي كنظامٍ لتنمية المال، ووضعت بديلاً مبارَكًا، وهو الزكاة؛ فإن العقيدةَ التي ما زالت حائرةً في نفوس القوم تحمِلُهم على إدراكِ أبعاد (وجه الله)، إنه غايتهم القصوى، وأمنيَّاتهم العزيزة، ورجاؤهم الفريد، وما دامت الزكاة هي التي ستقربهم من غايتهم وأملِهم ورجائهم، فكم تكون فرصتُهم، وكم يكون تسارعُهم إلى الامتثال؟
 
كذلك كم يكون بُغضهم للرِّبا وكراهية المُرابِين؟
وبذلك تتهيأُ النفوس المؤمِنة الصادقة لاستقبال خطواتِ الحُكم الحازم الأخير في الربا وهي مستسلمة راضية[13].
 
جـ- الزكاة:
وجاء الإعدادُ لها في سورٍ مكية مع أنها فُرِضت في المدينةِ، ولكن جاء الترغيبُ فيها في قوله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 4]، وكذلك في سورة المعارج (وهما مكيتان) قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [المعارج: 24، 25]، وأكد ابنُ كثير - رحمه الله - أن الآيةَ مكيةٌ[14].
 
هذا، وقد كانت الدعوةُ تسير في مكةَ حسب أسلوب الحكمة الذي أمر اللهُ به في قوله: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125]، فكان الجهادُ بالكلمة حِكمة، والصبر حكمة، وتحمُّل الأذى دون ردٍّ أو اعتداء حكمة، والبدء بكلمة التوحيد حكمة، والبدء بدعوة الأقربين حكمة، والقول اللَّيِّن حكمة، والدعاء لهم وليس عليهم حكمة الحكمة.
 
من كتاب: "البصيرة في الدعوة إلى الله"



[1] تاريخ العالم الإسلامي؛ أ.
د.
إبراهيم أحمد العدوي، أستاذ التاريخ الإسلامي، جامعة القاهرة، طبعة: معهد الدراسات الإسلامية، ص 35.


[2] المرجع السابق، ص 32.


[3] معترك الأقران في إعجاز القرآن؛ السيوطي، القسم الأول، دار الفِكر العربي، ص 11.


[4] المرجع السابق، ص 25 - 27.


[5] المرجع السابق 36 - 38.


[6] معالم الدعوة الإسلامية في عهدِها المكي؛ أ.د خليفة العسال بكلية أصول الدين - القاهرة.


[7] الدعوة الإسلامية في عهدها المكي، ص 45.


[8] فقه السيرة، دار الكتب الحديثة، ط.
7، 1976، ص 98.


[9] معالم الدعوة الإسلامية في عهدها المكي، ص 98.


[10] معالم الدعوة الإسلامية في عهدها المكي.


[11] الدعوة الإسلامية في عهدها المكي، مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية 1974م، ص 549، ظلال القرآن، دار الشروق، مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية 1974م.


[12] انظر: خَصيصة التدرُّج في الدعوة إلى الله؛ للمؤلف، ص 144.


[13] الدعوة الإسلامية في عهدها المكي؛ د.
رؤوف شلبي، ص 505.


[14] تفسير ابن كثير، مكتبة التراث الإسلامي، الجزء 4، ص 235.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣